1071

0

سيلا.. حين تتكلم الجزائر بلسان الكتب وتتنفس بالحبر: الآمال المعلّقة على المعرض الدولي للكتاب هذا العام

بقلم: الحاج بن معمر

في كل خريف، تتبدّل ملامح الجزائر وتتحول العاصمة إلى عرسٍ من نوع آخر، لا تُعزف فيه الموسيقى بل تُقلب فيه الصفحات، ولا تُرفع فيه الأعلام بل تُفتح فيه الكتب. يعود المعرض الدولي للكتاب ليملأ الفضاء الثقافي بأصوات الكتّاب ووقع الخطى على بلاط المعارض، ويعيد للأذهان تلك الرغبة القديمة في أن تكون الكلمة هي وسيلة البقاء الأولى ضد النسيان. من أروقة الصنوبر البحري إلى قاعات الندوات، يسري بين الناس شعورٌ غريب بأن البلاد، رغم ما بها من أوجاع، لا تزال قادرة على الحلم عبر حبرٍ طازج وكلمةٍ جديدة. هذه ليست مجرد تظاهرة ثقافية، بل امتحان سنوي لنبض الأمة وإرادتها في مقاومة الركود الفكري.

 

هذا العام، يحمل المعرض المنتظر بين دفّتيه طموحاتٍ كثيرة وآمالًا عريضة. فالجزائريون ينتظرونه كما ينتظر الفلاح المطر في موسم الجفاف. هناك من يرى فيه فرصة لتجديد صلتنا بالمعرفة، وهناك من ينظر إليه كبوابة لتثبيت الهوية الثقافية في زمن العولمة. الناشرون يتطلعون إلى توسيع حضورهم في الأسواق العربية والإفريقية، والمثقفون يأملون أن يتحوّل “سيلا” إلى منبرٍ حقيقي للتعبير الحر، بعيدًا عن النمطية والبيروقراطية التي كانت تكبّل الندوات وتحدّ من جرأة النقاشات. أما القرّاء، فحلمهم بسيط لكنه جوهري: أن يجدوا الكتاب الذي يغيّرهم، أو على الأقل يُعيدهم إلى عادة القراءة التي تغيب أحيانًا وسط صخب اليوميّات.

 

تُقدّر المشاركة هذا العام بأكثر من ألف دار نشر من مختلف القارات، وهو رقم لا يُعبّر فقط عن غنى الإنتاج العربي والدولي، بل عن رغبة حقيقية لدى الجزائر في أن تستعيد دورها كمحطة ثقافية محورية في المنطقة. الناشر الجزائري نفسه بدأ يفرض حضوره بثقة، بعد سنواتٍ من التهميش والاعتماد المفرط على الاستيراد. اليوم، تُراهن دور النشر المحلية على كتبٍ جزائرية خالصة في الأدب والتاريخ والعلوم الإنسانية، وتعمل على ترجمة أعمال شبابية جديدة إلى لغاتٍ أجنبية، في خطوة تُبشّر بميلاد جيلٍ جديد من الكتّاب الطامحين للعالمية.

 

غير أنّ التحديات لا تغيب عن المشهد. فأسعار الورق والطباعة شهدت ارتفاعًا حادًا، ما جعل بعض الناشرين الصغار يقفون على حافة الانسحاب. ومع ذلك، فإنّ حضورهم في المعرض يُعتبر موقفًا ثقافيًا بحد ذاته، لأن الاستمرار في إنتاج الكتاب رغم الصعوبات الاقتصادية هو شكل من أشكال المقاومة الصامتة. هناك أيضًا من يتخوّف من أن يتحوّل المعرض إلى مهرجان استعراضي، تطغى فيه الزينة على الجوهر، وتُحتكر المنصات من طرف الأسماء الكبيرة وحدها، بينما تُترك المواهب الشابة على الهامش. لذلك يطالب النقاد والمنشغلون بالشأن الثقافي بأن تكون دورة هذا العام أكثر عدلًا وشمولًا، تمنح الصوت للكتّاب الجدد، وتفتح النوافذ أمام التجارب المبتكرة بدل إعادة إنتاج الأسماء ذاتها.

 

وتبقى الندوات الفكرية محورًا رئيسيًا في جدول آمال الجمهور. الجميع يتطلّع إلى أن لا تكون الجلسات مجرد كلمات بروتوكولية أو أحاديث محفوظة، بل أن تُطرح فيها قضايا حقيقية تمسّ وجدان المجتمع: أسئلة الهوية، الحداثة، الدين، الذاكرة، التاريخ المشترك بين الأجيال، ومكانة الأدب الجزائري في العالم. إنّ المثقف الجزائري اليوم بحاجة إلى فضاءٍ حرّ يُناقش فيه بلا خوف، وإلى منبرٍ يسمعه لا منبرٍ يُمليه. هذه الرغبة في التجدد الثقافي تجعل من “سيلا” أكثر من مجرد معرض، بل مختبرًا حيًا لفهم الذات ومواجهة التحولات الفكرية والسياسية في الوطن والمنطقة.

 

أما على مستوى الجمهور، فالمشهد مؤثر بعمقه. آلاف الشباب الذين يملؤون الأروقة بحثًا عن رواية، كتاب فلسفة، أو ديوان شعر، يُعيدون رسم صورة الجزائر التي تقرأ، رغم كل التحولات الرقمية والسطحية التي غزت العالم. فمشهد شابٍ يشتري كتابًا من ماله القليل، أو أمٍّ تبحث عن قصةٍ تربوية لطفلها، يحمل دلالاتٍ رمزية أعمق من أية إحصاءات. إنه دليل على أن روح القراءة لم تمت، وأن المعرض، مهما تبدّل شكله، يظلّ مساحة تذكّر الجزائريين بأن الكتاب كان ولا يزال صديقهم الأول.

 

الآمال أيضًا تمتدّ إلى البعد الإفريقي والعربي للمعرض. الجزائر، بما تمتلكه من موقعٍ ثقافي وتاريخي، قادرة على أن تكون جسرًا بين المشرق والمغرب، بين إفريقيا والعالم العربي. ومن هنا تأتي أهمية الانفتاح على تجارب نشر من دول الجنوب، ودعم التعاون مع الكتّاب الأفارقة الذين يبحثون عن منصات لإيصال أصواتهم إلى العالم العربي. إنّ هذا البعد القاري يمكن أن يُحوّل “سيلا” إلى مركز إشعاعٍ حقيقي للثقافة الإفريقية الناطقة بالعربية والفرنسية معًا، ويمنح الجزائر موقعًا رياديًا في الدبلوماسية الثقافية.

 

من بين التطلعات البارزة أيضًا، أن يصبح المعرض منصة لتشجيع الترجمة في الاتجاهين. فالترجمة ليست فقط جسرًا للتبادل المعرفي، بل هي فعل مقاومة ضد العزلة اللغوية. هناك مشاريع قيد النقاش بين دور نشر جزائرية وأخرى من أوروبا وأمريكا اللاتينية لترجمة الرواية الجزائرية الحديثة، وكذلك لترجمة مؤلفات أجنبية حول التاريخ والفكر إلى العربية. هذا المسار لو تحقق فعلاً فسيمنح الأدب الجزائري فرصةً للخروج من الإطار المحلي إلى العالمية.

 

لكن نجاح المعرض لا يقاس فقط بعدد الزوار أو حجم المبيعات، بل بقدرته على ترك أثرٍ مستدام. هل ستولد من قاعاته مبادراتٌ جديدة لتشجيع القراءة في المدارس والجامعات؟ هل ستنطلق برامج حقيقية لدعم النشر الإلكتروني وتدريب الشباب على صناعة المحتوى الثقافي؟ هذه الأسئلة هي التي ستحدّد إن كان “سيلا” حدثًا عابرًا أم خطوة استراتيجية في بناء سياسة ثقافية وطنية. لقد أظهرت التجارب السابقة أن الإبداع الجزائري حين يجد الدعم يزدهر، وحين يُهمَل يخبو كجمرةٍ بلا رماد. لذلك فإنّ الاستثمار في المعرض ليس ترفًا، بل هو استثمار في ذاكرة الوطن ومستقبله الفكري.

 

وتعليق الأمل على المعرض لا يعني تجاهل النقد. ثمة من يرى أنّ التنظيم بحاجة إلى تحديث، وأنّ التسويق الإعلامي ما زال ضعيفًا، وأنّ الرقمنة غائبة رغم أهميتها. فالعالم اليوم يتجه إلى الكتاب الرقمي، والمكتبات الإلكترونية باتت جزءًا من المشهد الثقافي، ما يستوجب من إدارة المعرض إدماج هذه الأبعاد في برامجه المقبلة، وتخصيص فضاءات للتجارب التكنولوجية في النشر والقراءة. بذلك فقط يمكن للجزائر أن تواكب حركة العصر دون أن تفقد خصوصيتها الثقافية.

 

كل تلك الآمال المتداخلة تُلقي على “سيلا” مسؤولية مضاعفة: أن يكون مرآةً صادقة لواقع الثقافة الجزائرية، وفي الوقت ذاته نافذةً مفتوحة على المستقبل. أن يحتضن الجميع دون تمييز، وأن يوازن بين التراث والابتكار، بين الذاكرة والطموح. في النهاية، ليس المعرض مجرد حدثٍ ثقافي بل هو انعكاسٌ لحياة وطنٍ بأكمله، وطنٍ يصرّ على أن يعيش رغم العثرات، ويؤمن بأن الكتاب يمكن أن يكون الجسر الذي يعبر به من الفوضى إلى الوعي.

 

وحين تُغلق أبواب المعرض في ختام أيامه، لن تبقى رائحة الورق في القاعات فقط، بل في ذاكرة الزائرين. سيخرج القارئ وهو يحمل كتابًا جديدًا، لكن أيضًا فكرةً جديدة عن بلاده، وإيمانًا عميقًا بأن الجزائر، حين تتكلم بالحبر، لا تقول إلا الحقيقة.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services