257
0
شطب الأونروا؛ الشاهد والمخيّم
بقلم : المتوكل طه
لم يكن صدفةً أن تقوم دولة الاحتلال بتدمير كلّ ما يتعلّق بوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين"الأونروا"؛من قتل أطقمها والعاملين فيها ، وقصف مراكز تموينها، وهدم مدارسها،بمَن فيها..إذ يأتي ذالك استكمالاً لاستراتيجية صهيونية حاسمة، تتغيّا شطب الوكالة، باعتبارها "شاهد إثبات" على المَظلمة، التي لحقت بآلاف مؤلّفة من اللاجئين، الذين يتوزّعون في غير مخيم ومكان.حتى أن قادة الاحتلال، وفي وقت مبكّر،عملوا على تقويض الأنروا، لإلغاء ظاهرة"المخيم"، وشطب حقّ العودة المقدّس. إن ادّعاء أساطين الاحتلال بأن بقاء الوكالة "يُطيل أمد الصراع"، هو قفز على الحقائق، التي لا تستوي إلا بتمكين الشعب الفلسطيني من كامل حقوقه، وعلى رأسها حقّ العودة والتعويض، وإقامة الدولة والقدس عاصمتها، وما دون ذلك يعتبر تجاوزاً للحقّ والحقيقة ،والعدل الكامل ،والسلام الحقيقي. وإن كل مَن يتماهى مع موقف الاحتلال يعتبر شريكاً أصيلاً ضد حقوقنا المشروعة والتاريخية، ومتآمراً عليها. وإن إعلان بعض الدول عن توقّف دعمها للأنروا ،أو تسريح بعض موظّفيها، أو المنادة حتى بتقليص مهمّاتها.. ما هو إلا شكل سافر آخر من أشكال العدوان علينا ، وهو إبادة أخرى تُضاف إلى ما يقوم به الكيان الصهيونى من محرقة مدوّية بحقّ فلسطين وأهلها العزّل؛ من رُضّعٍ وشيوخ ونساء وبيوت وطيور وحقول. إن وكالة الغوث هي آلية دولية لا ينتهي عملها حتى يعود آخر لاجئ إلى أرضه الأولى، وإن إلغاءها هو صورة قبيحة من صور شطب هذا الحقّ، الذي ضمنته قرارات الأمم المتحدة وشواهد التاريخ القويم.وإن العالَم الذي تآمر على شعبنا واعترف بدولة الاحتلال،هو الذي يتحمّل مسؤولية قراره الذي أنتج النكبة العام1948،ولا يحقّ له أن يتخلّى عن مسؤولياته القانونية والأخلاقية .. إن بقيت أخلاق في هذا العالَم الغابة! ولعل إفراغ الأونروا من مضمونها، وتخليصها من دورها.. يساهم في تدعيم سلوك القاتل الإسرائيلي، ويحقق له شهواته السّادية الهادفة إلى نفي أيّ حق لشعبنا المنكوب، ويصبّ في فَهْم الاحتلال الفاشي،الذي لا يرانا اصلاً! ولا يعتقد بأن لنا أيّ حقّ كان، لأننا لسنا "موجودين" من وجهة نظره العنصرية ، ويطبّق علينا معتقدات "الحيرِم" القاضية بحرقنا وتذرير رمادنا! وربما، لهذه الأسباب، يقوم الاحتلال بتجريف المخيمات واستهدافها. فالمخيم "جغرافيا" تدلّل على "تاريخ".. ما يعني أن الاحتلال يريد إلغاء هذا التاريخ عبر تهديم تلك الجغرافيا، لخلق تاريخ جديد ينهض على أعمدة جغرافيا جديدة، وهذا يفسّر دعوة الإسرائيليين للاستيطان، من جديد، في قطاع غزّة، عداك عن الاستيطان في الضفة الغربية بما فيها القدس الشريف.بمعنى أن هدم أكثر من خمسمئة بلدة وقت النكبة، كان يهدف إلى شطب تاريخنا ، وتأسيس جغرافيا صهيونية تؤصّل لتاريخ اسرائيلي على أرضنا ، بديلا لنا.. وهذا هو الإحلال بعينه. والمخيم ؛باعتباره وحدة إجتماعية واقتصادية وسياسية- وبالتالي أصبحت ذات ملامح ثقافية - يتصّدر الكلام ويأخذ الكلام كلّه. فالمخيم كإفراز ونتيجة للنكبة والنكسة أصبح هو المعوّل عليه، بمعنى، وقعت على أبنائه وأجياله المتعاقبة أن يتحمّلوا ويحملوا الرسالة وأن يجعلوا الشعلة مضاءة وعالية. ووقع المخيم ، نتيجة لذلك، بين شفرات الُمطلق وشفرات النسبيّ، ما بين متطلبات الثورة وفضائها، وبين متطلبات الواقع وضيقه. المخيم الذي يقع في منطقة الرماد في كل شيء، جغرافياً - بكونه قريباً من المدينة ولكنه ليس منها - ،وثقافياً- باعتباره غريباً عن النسيج الإجتماعي وممنوعاً من الإندماج فيه - ،واقتصادياً - باعتبار أن موارده تأتي جاهزة وهو ممنوع من الانخراط في الدورة الإنتاجية -، وسياسياً - باعتباره ممنوعاً من المشاركة والتمثيل والإنتخاب.. كل ذلك جعل من المخيم ينقسم على ذاته، ويدخل في متاهات من التعريف وإعادة التعريف. الثورة كانت حلّاً ،ولكنها ليست كل الحلول، وخاصة بعد انكفائها. المخيم - وهو وضع إستثنائي في تطور المجتمعات وسلوكها - منقسم على ذاته، لأنه موّزع بين الإنتماءات، وموزّع بين الولاءات، وموزّع بين الأمكنة. ومرّة أخرى، المنفى ليس مكاناً وحسب- حتى لو كان في الوطن- المنفى تجربة مهيظة وقاسية ! وفي الوقت الذي يجبر فيه اللاجىء على تعريف نفسه بقوّة وتطرّف، فإنه أي المنفى - قادر على إجبار أو إقناع اللاجىء بفقدان هويته أو التخلي عنها طواعية. المنفى قاسٍ وقاطع كحدّ السيف، والمخيم - باعتباره ليس أفراداً وإنما وحدة اجتماعية وسياسية خاصة - أُجبر الفلسطيني اللاجىء - كرهاً أو طواعية - على أن يحدد انتماءاته وخياراته. ولكن، وفي الوقت ذاته، فإن القضية الفلسطينية ليست قضيتنا فحسب، وعليه، فإن المخيم يتعرّض لكثير من الإغراءات أو الإجراءات أو الآليات التي تزيد من عدم قدرته على التحديد أو حتى الاختيار، وخاصة بعد أن انكفأ المدّ الثوري والقومي ولا نقول انهزم. المخيم الصامد، مخزون الثورة الإستراتيجي، حامل المشعل وشاهد المرحلة ومعلّم الأجيال، ومعلّم الأيام ايضاً، الذي طوّر له لغة خاصة ومصطلحات خاصة، وقسّم فئاته وأعاد ربط ما انقطع، وسمّى الأشياء من جديد، وأرغم المدينة، ومن ثم القريب والغريب، على الاعتراف به والتعامل معه، هذا المخيم كان لزاماً عليه أن يصطدم بما حوله، شاء أم لم يشأ، ألثورة خيار صعب، وهي خيار مجنون ولا عقلاني أيضاً، الثورة وجدان، والثورة لا حسابات منطقية فيها - ومتى كانت كذلك يوماً؟ - وعندما اختار المخيم اصطدم بمَن حوله سريعاً، ومن هنا تعلّم المخيم أن يكون متوجّساً وشكّاكاً ولا يثق، وإذا كان المخيم أرضية خصبة وطبيعية للمشاعر القوية ضد إسرائيل، فإنه طوّر أيضاً مشاعر متناقضة تجاه المحيط ،الذي يحيا فيه المخيم المعزول والممنوع والفقير، والذي يحيا بمنطقة الرماد في كل شيء. طوّر عقلية خاصة، هي عقلية اللاجىء، وهي عقلية متوجّسة وشكاكة وقريبة من الإيمان المطلق دائماً، عقلية اللاجىء ليست فيها تسويات كثيرة، وهي أقلّ جدلاً وأقلّ رغبة في الكلام، هي عقلية تحيا على حافة القبر، ليس أسوأ من المنفى، وليس أسوأ من النكران، وليس أسوأ من الفقر، المخيم لم يعد يزعج إسرائيل فقط. المخيم قنبلة سياسية، صحيح إلى حد كبير، ولكنه أيضاً قنبلة إجتماعية. إن أذكى الأنظمة التي تحاول السيطرة أو تذويب أو دمج المخيم أو تحويله من نار تحرق إلى نار يُطبخ عليها.. لم تصل إلى نجاح أكيد ونهائي. مرة أخرى، المخيم لم يعد يزعج الكيان الصهيونى فقط ، ومن هنا، فإن حلّ القضية الفلسطينية هي أولوية عربية، ليس فقط من منطلقات سياسية وأخلاقية وأمنية، وإنما من منطلقات إجتماعية صرفة. ولا أقصد هنا في الحديث أن يتحرك المخيم كله باتجاه معين، بل يكفي أن يكون هناك "نتوء، أو مُشكل" واحد ليدمّر المخيم أو ليثير المحيط ويدمّره. ولا أريد أن أسترسل في الأمثلة التي تؤكد الكلام إلى حدٍ كبير، أو على الأقل لا تنفيه. يجب الاعتراف بقوّة وصرامة أن المخيم مشكلة إجتماعية وصحية، وحتى لا نُفهم خطأ - بنيّة حسنة أو غير حسنة - فإن المخيم يجب أن يزول ويختفي عن الوجود لأن سكانه يجب - وهنا أكتب "يجب" بخط كبير وألفظها بملء الفم - أن يعودوا إلى ديارهم وأوطانهم التي هُجّروا منها،غير منقوصين، هذا هو واجب الأُمّة الآن، وواجب الأجيال المقبلة أيضاً، ومن ينسى هذا الحق أو يفرّط فيه، فإنه عملياً يقبل أن يأتي الأثيوبي والأوكراني إلى فلسطين ويأخذ كامل الحقوق، فيما يحرمّ على امرأة فلسطينية أن تعود إلى وطنها لتعيش مع زوجها وأطفالها - إقرأوا قانون العودة الإسرائيلي للعام 1952 و 1972 والتعديلات التي أجريت عليه في الثمانينيات والتسعينيات لتروا مدى العنصرية ومدى الإستعداد القانوني لمنع العرب الفلسطينيين من البقاء في أوطانهم -. ولكن وبعد تأكيد هذا الحق بما لا لبس فيه، فان المخيم الذي يحيا اليوميّ والنسبيّ، ومتطلبات الحياة اليومية؛ من أكل وشرب وتعليم وصحة وعمل وتأمينات اجتماعية وصحية ،وأشكال سلوك متغيّرة ومرتجلة، هذا المخيم الذي يعيش على المطلق ،ولكنه مضطر إلى التعامل مع النسبيّ، يتحوّل شيئاً فشيئاً - وخاصة بعد اتفاق أوسلو وتغيّر العالم ونجاح العولمة وانكفاء الثورات وتراجع الشعارات وخفوت الاصوات عن العودة أو مضامينها الحقيقية - فإن المخيم يتحوّل إلى مشكلة وعبء حقيقي، ليس على السلطة الوطنية وحسب، وإنما على الأنظمة التي تعيش فيها تلك المخيمات . لا يمكن حسم المخيم في نهاية الأمر. عقلية اللاجىء الذي يحيا على الأحلام، ويضطر إلى البحث عن لقمة الخبز ..سيطور سلوكاً غير متوقّع، هذا الكلام يعني ببساطة أنّ إسرائيل وغير إسرائيل مجبرون على حل القضية الفلسطينية، فالتدمير والتهجير، حتى وإن توالى ،لن يُؤدي إلى خلق علاقة غرامية مع المحتلّ، والفقر والنكران لن يحوّل المجروحين إلى قدّيسين يدعون إلى محبة العدوّ، الذي نقدّم له الخدّ الأيمن ليصفعه. ومهما بدا الكلام قاسياً ،ولكني أرجو أن يُفهم بواقعيته وأهدافه البعيدة، فأنا عملياً ألوّح بالقدرات التي رأينا بعضها ،وتلك التي لم نشاهد بعد، والتي يمكن للمخيم أن يجترحها ما لم تُحلّ القضية الفلسطينية..بعيداً عن فذلكات الأكاديميين ورغبتهم في الوصف والتبويب والفهرسة..ومن ثم الاستخلاصات، فإن المخيمات التي تصبح عناوين للبلاد والثورة والحنين، تتحول بفعل الزمن إلى مواطنين من درجة أقلّ، ويحصلون على حقوق وواجبات أقلّ، أي أن جُرح الطرد يضاف إليه جرح النكران والتهميش، وكأنّ حالة اللجوء هي حالة مشبوهة أو مُدانة أصلاً. إن وضعاً كهذا - وإن استمر بشكل أو بآخر - وإن تمّ استيعابه بشكل أو بآخر - وإنْ تمّ تدجينه بشكل أو بآخر .. لا يمكن له أن يستمر. إن بيت الصفيح ليس أفضل حالاً من خيمة 1948، وإن معونات وكالة الغوث، التي تتناقص سنة بعد سنة، لن تكون بديلاً عن أحلام عريضة، وإن التطامن أو السكون أو الخضوع لأوامر المحيط وقوانينه لن تسود إلى الأبد، خاصة إذا توالت عمليات التنازل والتطبيع المجاني وقبول إسرائيل بالكامل، دون إيجاد حل لأكثر من سبعة ملايين فلسطيني موزعين ما بين بيوت صفيحية أو صحارى بعيدة أو مجاهل لا يصل اليها البريد الزاجل . وكلما تقدمنا في الزمن، فإن مشكلة المخيم - متعددة المستويات ومعقدة التجليات - تزداد وتتفاقم، ليست فقط بسبب إلآلية الخاصة بتطور المخيم وتعدد خياراته، وإنما أيضاً - وبذات الدرجة من القوة - بسبب أزمة او أزمات الإنظمة التي تعيش ضمن حدودها تلك المخيمات. إنّ الأنظمة التي تعيش أزمات مختلفة تتعمّق يوماً بعد يوم، وهي أزمات اقتصادية وسياسية، ولبنان تعطينا مثالاً مناسباً فيما يمكن للمقدمات والنتائج أن تكون . إن تجسّد السلطة الوطنية في الضفة والقطاع - أو في الضفة فقط في هذه الاثناء - لم يساعد حتى اللحظة في حلّ ضائقة المخيم، بل على العكس من ذلك، إذ أن تجسد السلطة الوطنية بدا وكأنه حلّ نهائي لموضوع المخيم، ومن هنا، ازدادت حدّة الموضوع، وزاد ضغطه الشديد على الوعي والوجدان، فهل ينتظر سكان المخيمات منفى أبديا، أم تجنيسا أم توطينا أم تعويضا أم عودة مجزوءة؟ هذه الأسئلة لم تكن في الماضي، وهي الآن حاضرة بقوّة، الأمر الذي يزيد من حدّة وتطرّف المسألة، ونحن هنا نتحدث عن عقلية اللاجىء - واللاجىء ليس مهاجرا ولا مغامرا ولا مستوطنا -، وقلنا إنها عقلية تطرّف أكثر منها عقلية مهادُنة، وعقلية تُبدي ما لا تُعلن، وإن تهديد المخيم بخيارات متعددة ومختلفة ،ضمن أزمات متلاحقة وضغوطات من جهات متعددة، كل ذلك يدفع الأمر إلى عنق الزجاجة. وإذا كانت النكبة ومن بعدها النكسة ومن بعدها الأزمات ثم التفتيت والانقسام، ثم العدوان والإبادة، قد أضرّت بالمخيم، فضُرب وعَّذب وحُوصر وتهدّم، فإننا الآن على أبواب مرحلة جديدة، تُقْبل فيها إسرائيل، من بعض المُطبّعين العرب.. وتنشأ معها العلاقات، فيما يغرق المخيم الجديد المتعدد ،بِوَحْلِه أكثر فأكثر، إذن، فالأمر شديد شديد، وعلى الجميع الانتباه!
حجر الزاوية
بقلم : علي شكشك
خلف كل مشهد هي المشهد, في العميق الغائر منه وفي بؤرة الألم, تماماً كما هي في الروح والعقل والضمير, وتماماً كما كانت عبر التاريخ عنواناً لاكتمال الهيمنة على الكون, فما كان لإمبراطوريةٍ أن تُكمل سيطرتها وترفع علمها على اليابسة وتعلن سيادتها على البر إلا إذا اكتملت هيمنتها على القدس, هكذا كان الأمر مع البابليين والإمبراطورية الفارسية واليونانية والرومانية, وهكذا كان لابد من هزيمة الرومان لإعلان اكتمال عالمية الحضارة العربية الإسلامية, كما كانت الدافع والمحرك والهدف البعيد لأحداث التاريخ, وفي أحيان أخرى ذريعةً لها كما في الحروب الصليبية, وكما في الهجمة الغربية الحديثة التي ما إن انتصرت في الحرب العالمية الأولى حتى غزلت خيوطَها من أجل الهيمنة الكاملة عليها وضمان استمرار هذه الهيمنة, فكان ما نعرف جميعاً من الأحداث التي غطت وفردت مساحاتها على مجمل القرن الماضي وما تزال, متمثّلةً في كل المحاولات والحروب والدماء والمحادثات والتحايلات التي أدّت إلى صناعة الكيان الصهيوني واستمرت بعد ذلك وما تزال من أجل استمرار بقاء هذا الكيان, وفي الطريق إلى ذلك جرفوا حرياتنا وأقواتنا وسيطروا على مفاصلنا وحرمونا من أيّ هواءٍ نقي قد يتسرب إلى رئتينا, ووقفوا يحرسون انسياب الحياة في أوردة الدم فينا ويقبضون على جدول الماء, ويحولون مجرى الأردن ويجففون منابع الآبار والآثار ويدمرون سجلاتنا ويقفون أمام انفتاح المشهد في آفاقنا ويضعون الحصى في حناجرنا وأحذيتنا, ويغلقون الدروب إلى الإسراء والتكنولوجيا, ويقيدوننا بهِبات القمح والمساعدات وشروط صندوق النقد, فمن أجل ذلك الكيان لا يهم ما يمكن أن يكون عليه شأننا وحالنا ولا مصيرنا وطرائق عيشنا, فهي الحاضر الظاهر الباطن في كلّ سياساتهم وأحلافهم ومنظماتهم واتحاداتهم وقراراتهم وهي السر الكامن وراء مواقفهم في المنظمات المحلية والدولية والتزاماتهم تجاه أمن الكيان, وهي أيضاً مهوى قلوبنا ومسقط روحنا وعنواناً للمقدس فينا وآية في كتابنا وقبلة أولى لأشواقنا وأيقونة لهويتنا وساريةً لعزتنا, والمسكوت عنه شرطاً لكرامتنا, كأنها المجاز في الكلام والاستعارة في معنى السيادة, والكناية في الثورات, كامنة هناك في أوّلِ المشهد, تُفصح عن نفسها بتلميح يليق بعذريتها, أو تضمينٍ ينسجم وقدسيتها, القدس هي حجر الزاوية الذي يشكل ناظم الاكتمال وبواعث الانفعال,, حجر يستدرجنا إليه لأنه شرط الجلال الذي يشترط فينا للوصول إليه اكتمالَ الجَمال.
هدم ألف مسجد في قطاع غزّة، مسألة فيها نظر ؟!
بقلم الأسير المحرر الأديب : وليد الهودلى
ماذا لو تم المساس بكنيس يهودي (وهذا بالطبع ليس من أخلاقنا ولا ندعو لذلك) ولكن من باب الافتراض، هذا الامر يستدعي من كل دول العالم أن تشجب وتستنكر وتدين هذا العمل الجبان بأقذع العبارات والاوصاف. ستوصف الجهة المعتدية بالإرهاب واللاساميّة والتوحّش والانحطاط الإنساني والحضاري وما إلى ذلك من أوصاف صعبة وقاسية. كيف تمرّ أخبار تدمير مساجد غزّة وكأنهم يدمّرون أوكارا للصوص وتجّار المخدرات. كيف أدمنّا وأدمن الناس على مرور مثل هذه الاخبار التي تعلن عن تدمير مسجد وبعضها بالصوت والصورة التي تظهر الجندي الذي يتشفّى ويتلذذ ويعرب عن بهجته وغاية سروره، ينظر إلى المسجد وهو يهوي ويخرّ صريعا على الأرض. وبالطبع يأتي تدمير المساجد في سياق تدمير كلّ مقومات الحياة البشرية في غزّة: المستشفيات والمدارس والجامعات والكنائس والابراج السكنيّة ومنازل الناس والدوائر الحكومية والبنى التحتيّة من شبكات المياه والكهرباء والهاتف، لم يبق شيء لم تطاله أيديهم المجرمة حتى المقابر تم الاعتداء عليها بتجريفها ونبشها. وضرب المساجد هو مقصود بذاته لما كانت تقوم به في زراعة القيم الدينية التي تنتج حريّة وثورة وتنتج الانسان الحرّ الممتلئ عزّة وكرامة وبالتالي الانسان الحرّ القادر على التحرير والوقوف في وجه طغيان المحتلّ وفجوره، المساجد في غزّة كانت تقوم بدورها خير قيام وكانت مفعّلة بشكل كبير، المساجد محاضن تربوية لإنتاج الانسان الصالح المصلح، انسان التغيير الحقيقي في مجتمعه نحو الصلاح والمثل العليا، والمساجد منارة للتنوير المعرفي والفكري، والمساجد تنضج فيه الثورة وتخرج للناس بأبهى الصور وأقواها، تخرج للناس إنسان الحرية والكرامة والثورة في وجه الظلم وجبروت الاحتلال والبغي والفساد، الانسان الذي لا يرضى الدنيّة في دينه ودنياه. ويعبر تدميرهم لألف مسجد هذا الرقم المهول عن غيظ صدورهم وأنهم قد فقدوا ما تبقي من عقولهم، أناس اصبحوا متوحّشين بلا عقل ولا خلق ولا حتى أي صلة بصورة يريد أن يصدّرها للعالم عن نفسه، ولو تمثيلا يخالف ما انطوت عليه صدورهم من غيظ وغلّ وحقد، عندما يظهرون فرحهم على مشهد المسجد وهو يهوي بفضل متفجّراتهم فإنهم يصدّرون بذلك للناس أبشع صورة ممكن أن يحملها إنسان على ظهر هذه الأرض، كذلك كما فعلوا وهم يفجّرون مشفى المعداني ومجمّع الشفاء وجامعة الاسراء والمربّعات السكنية الكاملة. لكن للمساجد قداسة خاصة ولها رمزية ذات دلالات عميقة وعظيمة في نفوس المسلمين وكل أحرار العالم، إنهم بذلك يوصلون رسالة لكلّ مسلم بأنك أيها المسلم أنت وما تقدّس لا تساوي عندنا ما يزن جناح بعوضة، أنت ومساجدك لا يليق بكم إلا الموت والدمار والهلاك، أنتم ودينكم لستم على شيء، لا تستحقّون أية مكانة ولا احترام، لا وزن لكم ولا قيمة تذكر، مساجدكم ودينكم وعقائدكم وتاريخكم وقيمكم وانسانيّتكم لا وجود لها في قاموسنا، أنتم بالنسبة لنا هباء منثورا، أنتم هدفا لقنابلنا وصواريخنا وكلّ أدوات قتلنا وإبادتنا لكم ولكل مكوّناتكم، أنتم ليس لكم منا إلا أن نقتلعكم من جذوركم، من بلدكم ومن تاريخكم، لن نبقي ولن نذر من آثاركم شيئا، تدميرنا قادم لكل تفاصيلكم. وإنّ صمت الامّة ذات الدول الكثيرة والثروات العظيمة والملايين البشرية التي تجاوزت المليار ونصف على هذه الجريمة التي بلغت الف مسجد مقدّمة سيئة جدا فيما لو أقدم الاحتلال على هدم المسجد الأقصى، ماذا لو فعلوها؟ هل ننتظر بعض المظاهرات والغضب الجماهيري العاطفي هنا وهناك دون التحوّل إلى فعل حقيقي مواز لحجم الجرمية؟ هذا سؤال كبير على النخب السياسية والثقافية في أمة العرب والإسلام أن تجيب عنه. هل هي قادرة على تحريك الجماهير بعد هذا الحال الذي تمرّ به الحكومات العربية والاسلامية من موت سريري منذ فترة طويلة أرست قواعد الهزيمة وأناخت راحلتها على أعتابها دون حراك. ماذا علينا أن نفعل بعد أن دُقّ ناقوس الخطر أكثر من ألف مرة، ألف مسجد وآلاف المشافي والمدارس والجامعات والكنائس والمربعات السكنية والابراج وما يزيد عن الثلاثين ألف شهيد ومفقود وقرابة ستين ألفا من الجرحى والمقعدين، أليست كفيلة في تحريك المياه الراكضة الآسنة لتحدث إعصارا يأكل الأخضر واليابس ويسير خلف غزة لنهضة وقيامة الامة؟؟ فهدم ألف من المساجد ليست مسألة فيها نظر.
متنفَّس عبرَ القضبان (100)
كتب: حسن عبادي/ حيفا
بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى أحرار يكتبون رغم عتمة السجون في شهر حزيران 2019 (مبادرة شخصيّة تطوعيّة، بعيداً عن أيّ أنجزة و/أو مؤسسّة)؛ تبيّن لي أنّ الكتابة خلف القضبان متنفّس للأسير، ودوّنت على صفحتي انطباعاتي الأوليّة بعد كلّ زيارة؛
عقّبت وفاء الكعبي (والدة الأسير سلّوم): "الله يقويك أستاذ حسن، صديق الأسرى الوفي... والله من يوم ما حضرتك زرت سلوم ودايماً صورة سلوم بوجهي كأنه أنا الي شفته... لأني ضليت متخيلة صورة وجهه وضحكته وابتسامته... من خلال كلامك وكتابتك كيف كان اللقاء. ..الحرية قادمة بإذن الله، والنصر قادم إن شاء الله". وعقّب الأسير المحرّر بسام الكعبي (خال سليمان): "الحرية للغالي سلوم وشقيقه سامي وكل رفاقهما الأحرار. دام الوفاء عزيزي حسن للحركة الأسيرة، وكل الأمنيات بانتصارها على القيد والسجّان".
وعقّب الصديق فتحي صلاح من الشتات: "الفرج قريب إن شاء الله. الله يعطيك العافية أستاذ حسن أكثر الله من أمثالك والذين نذروا أنفسهم للدفاع عن الأسرى فهذه رسالة نبيلة لا يحملها إلا الشرفاء".وعقّب الصديق محمد جرادات: "الرفيق أبو المنتصر عظيم بما يحمله من تضحية وإيثار وصلابة وإنسانية... له الفرج قريبا... وللأستاذ حسن التحية صديق وقريب وأب الأسرى والأسيرات... إنسان قل نظيره في هذا الواقع الغريب".نشرت على صفحتي يوم 02.12.2023 خاطرة عنونتها: "هل سيُسدل الستار؟"."بدأت مشواري التواصليّ مع الأسرى في سجون الاحتلال يوم 3 يونيو 2019؛وغداً سيكون اللقاء 244 في سجن ريمون الصحراوي. هل سيكون اللقاء الأخير؟ هل سيتحقّق الحلم وتكون اللقاءات القادمة على بلكون الحريّة الحيفاوي!"، وخاب أملي.
زي اللّي قاعدين بقبر
التقيته ظهر الثلاثاء 09 كانون الثاني 2024 في سجن "مجيدو"، أو تل المتسلم (هي مدينة كنعانية تقع في مرج ابن عامر، شمالي فلسطين، ويعود تاريخها إلى الألف الثالثة قبل الميلاد، تميّزت في ظل الحضارة الكنعانية العريقة بالبناء الحجري والأسوار الكبيرة، والقصور الفخمة، واشتهرت بصناعة النسيج والملابس ولا سيما تقدمّها في مجال الزراعة) وعلى أنقاض كنيسة أثريّة مهمّة أُقيم سجن مجيدو البغيض. قابلني بابتسامة طفوليّة تعانق السماء، هو سليمان محمود سليمان كعبي (مواليد 22.02.2000)، اعتقل يوم 11.07.2023، هذه الحبسة الثالثة، وتختلف عمّا سبقتها، 112 أسيراً في قسم 2؛ بدلاً من 50، بالعادة. الوضع صعب؛ ساعة فورة لكل ثلاثة زنازين، تجويع، الغداء والعشاء مع بعض ع شان يكفّي، معجون أسنان وشامبو واحد لكل غرفة مرّة بالأسبوع، هناك أسرى مع ملابس داخلية واحدة بغسلها بالليل وبلبسها ثاني يوم بالنهار، بطانية واحدة خفيفة بهالبرد، بدون سكر، وأخيراً حصلوا على نصف علبة شوكولاطة لكلّ الغرفة. حدّثني عن طقوس ومراسيم استقبال أسير جديد، بتقاتلوا عليه ع شان يخبّرهم عن الوضع برّا، ويا ويله إذا نسي إشي، وإذا كان حبسِة أولى "بِلتْمِس"، فش راديو "زيّ اللّي قاعدين بقبِر، ولا بنعرف إشي".انفرجت أساريره حين أوصلته سلامات والدته وآدم الصغير، وطمأنته على سامي. تحدّثنا الكثير الكثير ومرّت ساعتان من الوقت، ترافقه الابتسامة الدائمة والضحكة أحيانًا، وسولفنا عن ثائر والشيبون ورأفت، وطلب إيصال سلاماته لآدم والعائلة، وأخواله عاصم وبسام.
مشتاق للمناحِل
بعد لقائي بسليمان، أطلّ الأسير عبد الله محمد شتات (مواليد 10.06.1990)، اعتقل في نهاية أكتوبر، وبدأ اللقاء باستجواب صحافي (أخبرني بأنّه يعمل كصحفي فريلانسرـ وممّا يسبّب له وجعاً مضاعفاً كونه مقطوعاً عن العالم) حول المؤسسة التي وكّلتني بزيارته، واستغرب أنّني متطوّع، والزيارة بناءً على طلب زوجته، وحدّثني حول وضع القسم، وزملائه في الزنزانة. الوضع صعب؛ ما في ملابس وغيارات (ورغم ذلك لا يشعر بأنّه بردان)، هناك تخفيفات على صعيد الأكل والفورة، لا يوجد مناشف أبداً، ولم يزر الصليب الأحمر السجن بتاتاً ولا تواصل مع الأهالي. اللحية طِولت، وقصقص أظافره المرة الأولى أمس "خبّيتهن للترويحة" وواحد أبقاه للذكرى، ويختم المصحف كل يومين/ ثلاثة. انفرجت أساريره ودمعت عيناه حين بلّغته سلامات زوجته وأولاده حنان وعز الدين، وزففت له خبر زواج أخيه إسلام. الصحّة تمام ولا يشكو إطلاقاً؛ رغم نزوله 20 كغم بالوزن، والمعنويات بالسماء. أخبرته أن زوجته "مخبّيتله" القميص الذي لبسه يوم اعتقاله ولم تغسله، فابتسم بعفويّة قائلاً: "الأسود!! خلّيه معلّق عَ الباب تا أروّح. قرّبت". طلب أن يتخلّصوا من ملابسه للمحتاجين "مش رايحه تييجي عليّ لأنّي ضعفت كثير". قلق على مشروع بيع العسل ومشتاق للمناحِل... ولصغاره. تحدّثنا الكثير، وطلب إيصال سلاماته للجميع، ورسالة خاصة لوالدته: "تهمليش هم، الفرج قريب، ادعي لي وتخافيش عليّ".
أخباركم فرّحتني
بعد لقائي بسليمان وعبد الله، أطلّ الأسير جعفر فوزي عبد الله أبو صلاح (مواليد 01.05.1967)، اعتقل يوم 03.11.2023، وبدأ اللقاء باستجوابي من وكّلني بزيارته، واستغرب أنّني متطوّع، والزيارة بناءً على طلب ابنه يزن، وحدّثني حول وضع قسم 4 في السجن ومن معه في الزنزانة. في القسم 135 أسيراً، بدلا من 60 في الوضع العادي. انفرجت أساريره حين أوصلته رسالة يزن وطمأنته حول وضع المخبز والشيكات، وأغنام الكنية، وإكمال البيت الجديد. اغرورقت عيناه بالدموع، ممّا أربكني، فقال إنّها دموع الفرح لسماع الأخبار المطمئنة؛ لأنّ هذه الأمور كانت مقلقته. صحّته منيحة، رغم مرض القلب والدهون. الوضع كارثيّ؛ ما في ملابس وغيارات، نفس البنطلون وما انغسل منذ اعتقاله، ملابس داخليّة فش، بغسلوها وتا تنشف بلبسوها. طال حديثنا، وطلب إيصال سلاماته للجميع، وبوسات للحفيدات جوليا وسيلينا، ولابنته راما، وللوالدة ولزوجته الصابرة، احرثوا أرض الدخان وديروا بالكم ع حالكم. إن شا الله اللقاء قريب. الأمانة توصّلهم: "أخباركم فرّحتني". لكم أعزائي سلّوم وعبد الله وجعفر أحلى التحيّات، على أمل أن نلتقي قريبًا في فضاء الحرية. ( حيفا كانون الثاني 2024 )
صفّرنا الدامون
نشرت يوم 29.11.2023 خاطرة بعنوان "صفّرنا الدامون"... وخاب أملي. زرت صباح اليوم سجن الدامون لألتقي بالأسيرة زينب محمد أحمد سجدية؛ (مواليد 08.06.1973)، مخيّم الدهيشة/ بيت لحم، وفي الممرّ شاهدت أسيرات من غزة في طريقهن لعناق الحريّة، وما إن دخلنا غرفة لقاء المحامين أمطرتني برسائل ياسمين، إخلاص، سهام، دلال، ليندا، براءة، شاتيلا وديالا إلى أهاليهن.
حين قرأت لها رسالة ابنها محمد نزلت الدمعة من عينها، وأخبرتها برسالته حين سألته عن اسمه "محمد ما في غيري برّه السجن وثنين جوه". خبّرتني عن وضع القسم؛ وضعهن بعد نقلهن من قسم 3 إلى 4 (قسم الأشبال سابقاً)، زميلات الزنزانة (أحلام يونس، هيا حج يحيى، ليندا جعارة، ياسمين أبو سرور، دلال خصيب، زهرة خدرج – وصلت حديثاً)، الفورة وقتها قصير، الأكل بنقص مرّات، فش تواصل بين الغرف، "بنحكي من ورا الحيطان"، وما في تواصل مع العالم الخارجي. حدّثتني عن ساعة الاعتقال؛ ع الثنتين ونص منتصف الليل، "كنت نايمة، فجّروا الباب (يحصل للمرّة الثالثة!)، لبست ع حالي جاكيت، مشّوني من المخيم لحدّ مقبرة الشهداء، دبّتني المجنّدة المرافقة ع الأرض بالميّة الوسخة، عصّبوني وكلبشوني، أخذوني ع المعتقل وزتّوني ع الأرض في الساحة وطلعت ع إجريّ الجراذين الكبيرة، نقلوني للتحقيق، كلّها فيس وإنستا، غلطوا عليّ كثير بالحكي، "بدّي أطخّ ابنك راني، إنت إرهابية وولادك إرهابيين، والله لأشلّخك تشليخ، بودّيك على غزة توكلي شوارما مع أبو عبيدة، وأجوّزك إياه". كلّ الطريق إلى سجن هشارون ضرب (من الساعة 11:00 للساعة 14:00) وحين وصلت تم استقبالها بالضرب "شلّخت المجنّدة كلّ الأواعي الّي عليّ، كلّها، بما فيه الداخليّة، معط شعر، خبط راسي بالحيط، حاولت تدخّل راسي بالكبّين وقاومت فطلّعت شخّة من الكبّينة بكاسة وزتّتها ع راسي". أوصلتُ رسائل أهل بدرية، براءة، تمارا وإخلاص. أملت عليّ رسالتها للعائلة، فرداً فرداً، وخاصّة محمد وأولاده وأولاد مهند (ابنها الأسير)، ورندة ورزان، وكناينها شروق وفطّوم، والأحفاد جوجو وتوتي وسراج وسام (والبيبي الجديد، ولد خلال أسرها ولا تعرف اسمه بعد)، وزيدان وعيسى. وحين افترقنا قالت: "محمد حبيبي، ما تقلق عليّ، أنا كثير منيحة ورايحة أظل كيف أنت بدّك إيّاني، الأم يلّي بتفتخر فيها وبتظلّ رافعة راسك دايماً". لك عزيزتي زينب أحلى التحيّات، والحريّة لك ولجميع أسرى الحريّة. (حيفا 01 شباط 2024 )