74
0
ريح عبد الحميد بن هدوقة من جديد
في الذكرى المئوية لميلاده ..

بقلم الكاتب / بختي ضيف الله
أول ريح وجدتها في رياح الروائي الكبير عبد الحميد بن هدوقة، رحمه الله، والتي هبت على الأدب الجزائري والعالمي (ريح الجنوب /1971)، كأول رواية جزائرية استوفت مقومات وعناصر الفنية للرواية. وقد سبقه آخرون في سردها لكنهم ، كما قال النقاد والدارسون، لم يكونوا موفقين فنيا، ومن هؤلاء الروائيين: محمد بن براهم(حكاية العشاق في الحب والاشتياق)، رضا حوحو (غادة أم القرى)، عبد المجيد الشافعي(الطالب المنكوب)، دون أن ننسى الذين كتبوا بالفرنسية كمحمد بن الشريف ومحمد ديب وآسيا جبار ومولود معمري ومولود فرعون وكاتب ياسين.. وغيرهم.. من الذين تركوا بصمة عالمية في عالم الرواية.
قرأت ما كتبه بن هدوقة في فترات مختلفة من هذا العمر؛ في كل مرة أخرج بقراءة جديدة أمام نصوصه الروائية تحديدا. ربما كان أقربها إليّ رواية (ريح الجنوب)؛ كنت أعود إلى مشاهدة الفيلم الذي اقتبس منها والذي يحمل العنوان ذاته " ريح الجنوب"، وهو من إخراج (محمد سليم رياض)، ومن إنتاج الديوان القومي للتجارة وصناعة السينما، علما أن بن هدوقة أسهم في كتابة السيناريو والحوار؛ فهو أيضا قد درس الفنون الدرامية في مرحلة من مراحل عمره.
لقد أثر في كتابتي الروائية تحديدا دون أن أدري، وأنا القاص الذي أخذت القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا الكثير من وقته؛ ربما كانت روايتي (ريح الجنون ..أو عندما يتيه الوطن ) إحدى رياحه؛ اتخذت من أنساق الجنون مسالك للعبور للقارئ. كان لي شرف أنها دُرِست في مذكرة تخرج فيجامعة مولود معمري بتيزي وزو، تحت إشراف الدكتورة آمنة بلعلى.
من خلال قراءتي هذه التحفة الفنية والوقوف بين سطورها طويلا، وقرأت في ذات الوقت ما كتب عنها النقاد في جانبها الاجتماعي والسياسي باعتبار أنها واقعية ترسم ملامح أرضٍ عاش أصحابها عليها مقهورين ومسحوقين تحت أقدام الهيمنة الإقطاعية، حيث يعيش الفلاح والمرأة تحت جملة من تقاليد وعادات كرسها الجهل،نتيجة احتلال فرنسي غاشم للعقل الجزائري حين سلب حريته في التفكير والتعليم زهاء قرن وثلاثين سنة.. أرضٍ تصنع السيدة (رحمة ) من طينها أشكال مختلفة كيف تشاء، من قُدُور تنتظر المطر أن يملأها وهي على قبر جوزها الأخضر، توصي (نفيسة)الطالبة بجامعة الجزائر بالتفاؤل وعدم الاستسلام وأن تحافظ على نفسها كما تحافظ على الأرض التي ارتوت بدماء الشهداءالطاهرة؛ فستبتسم لهم يوما ما وتقدم لهم خيراتها، رغم ما يبدو على وجهها البائس المكفهر؛ فالصحراء هي جزء من هذا الوطن الكبير؛ فلا خوف عليه مادام فيه رجل ثوري اسمه (مالك بن خضرة)، يواصل رسالته التي بدأها مجاهدا ضد العدو الفرنسي، يحاول القضاء على الإقطاع وأساليبه ، يسانده في أفكاره وآماله المعلم المثقف (الطاهر) المدافع عن تعميم التعليم بين أفراد القرية.
كأن الروائي يعيد تجربته ليقدمها للأجيال؛ وقد وُلِد والجزائر تحت الاحتلال الفرنسي، في 09 يناير 1925 في قريته (الحمراء )، في فترة صعبة يميزها واقعها المر والتعيس، خاصة في القرى والأرياف، في أسرة مثقفة ساعدت في تكوينه ونشأته ونظرته إلى الواقع الذي حوله.
بقدر ما تحمل (ريح الجنوب) من واقعية ذات صبغة إيديولوجيةلسياق فرضته المرحلة، كما نجدها في روايات الطاهر وطار وغيره من الروائيين، حيث قدمت صورا جسدت حالة ما بعد الاستقلال من جهل وتهميش للمرأة في الحياة والبناء، وإقطاع يسحق كرامة الإنسان على أرضه.
هي أيضا تحمل كثيرا من الإيحاءات الرمزية في دلالات أسماء الشخصيات والأماكن والأسطورة، بل حتى في السياقات التي تعود إلى الظروف المحيطة؛ الثقافية والاجتماعية والسياسية، و في الأنساق والبنية الداخلية التي وضعت نقاط البداية لأفكار مهمة لا بد من الوقوف عندها لأنها عبارة عن مشاريع بناء على جميع الأصعدة الثقافية والاجتماعية والسياسية والتاريخية ؛ ليس في (ريح الجنوب) وحدها بل أيضا في كل كتاباته؛ فلا بد أن تنال الثنائيّات الضدية المتعددة مثل'القرية والمدينة وصراع الأجيال حظها من الدراسة من قبل النقاد الدارسون ليخرجوا ثالثا يبدي وجها جميلا مختلفا..تحاصره الأنساق المضمرة مثل العادات والتقاليد وأفكار ما كان له أن يميطها عن الطريق كمثقف يدافع عن حرية الآخرين، واختياراتٌ خذلته وسلبت منه حريته الإبداعية بأن تكون نصوصه الروائية والقصصية أكثر وهجا.
لنعد إلى (ريح الجنوب) و(والجازية والدراويش) و(بان الصبح)و(الأشعة السبعة).. وتحليل تلك الفضاءات والوقوف بين شكلي التعبير والمضمون وهي تصور لنا الحالات الصعبة والمعقدة بكلمات ذات دلالات قاسية، مثل القرية والخراب والقبوروالصحراء والصبح.. بل حتى بأسماء الشخصيات مثل نفسية ورحمة والجازية.. كأنها صور تثبتها دبابيس على جدار السرد؛ فالروائي ، ربما، يبحث عن قارئ قد يأتي يوما، يملأ فراغا ألقت عليه ظلالها تلك الدلالات، أو ناقد يحرك النص من جدي، فلا حياة للإبداع دون نقد ولا حياة لنقد دون إبداع.. فستفتح كتاباته أفقا جديدا لنقد أو فكر جزائري .
ظل بن هدوقة يبحث عن يوم أجمل لوطنه؛ عند كل مطلع شمس يقول:(غدا يوم جديد)، يتلمس وجوه شخصياته، نفيسة، رحمة، مالك، الجازية، دليلة..يحاول أن يملأ (الأرواح الشاغرة) بحكايات وطن حاول المحتل أن ينزله من عليائه، يكتب سردية شعبه شعرا.
يلتفت إلى الأطفال، يكتب لهم (النسر والعقاب)، في حوار بسيط،محاولا ربطهم بمحيطهم اجتماعيا، يغرس فيهم حب التعاون، يحثهم على العمل والاجتهاد، والحفاظ على الوقت.
عندما ما نقرأ كتاباته، ينتابك شعور أنه يريد أن يقول كل شيءلكل فرد من أبناء بلده، لكل الأجيال، في كل الأزمان، في كل شبر من ترابه. علينا أن نصغي له، فهو يرى بعين ثاقبة ونحن نحتفي بذكرى ميلاده المائة، صوتا مرتفعا لقضايا الإنسان الجزائري من أجل بناء مجتمع جزائري متمسك بقيمه ومبادئه التي دافع عنها لقرن واثنين وثلاثين سنة.

