285
0
وديعة زمن...الجمال في الأدب الإسلامي
محمد مراح
الأدب تعبير جميل عن مشاعر واحساسات تتحرك في النفس نتيجة تأثيرات داخلية أو خارجية أو هما معا . تعبير جميل لأننا لا نحسب أثرا فنيا خلوا من عناصر الجمال أهل لأن ينتمى لأسرة الأدب، فالجمال في الأدب شرط أساس؛ إذ النفوس السوية بطبعها ميالة للجمال تنساق وراءه مشدوهة بألقه وسحره، فلكل منا حظه من حب الجمال دون تقدير لِنِسَب التفاوت بين أعلى درجات الاهتزاز أمام وهجه الساطع ، وأدنى درجات الاستجابة لذاك السحر الخلاب . فأصحاب الحس المتبلد والمشاعر المتحجرة لا حظ لهم من الحياة إلا كحظ أدنى الجمادات لأنهم فقدوا عنصرا هاما من عناصرها .
فالجمال ــــــــ إذن ـــــــ حبيب للإسلام يوسع له بين رحابه مجالا واسعا، بل إن سمة الجمال تكسو الإسلام في عقائده وتشريعاته ومعاملاته ومنهج دعوتها {اَ۟دْعُ إِلَيٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ اِ۬لْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالتِے هِيَ أَحْسَنُۖ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۖۦ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَۖ} النحل (125)، }وَمَنَ اَحْسَنُ قَوْلاٗ مِّمَّن دَعَآ إِلَي اَ۬للَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحاٗ وَقَالَ إِنَّنِے مِنَ اَ۬لْمُسْلِمِينَۖ } فصلت 32.
فما الحكمة إلا جمال تتألق به النفس المؤمنة فتفيض آثارها على سلوكات صاحبها. وما القول الحسن إلا جمال يكسو الكلمة على اختلاف وسائل استعمالها {مكتوبة ومقروءة أ ومسموعة}؛ إذ هي وسيلة التواصل بين الأفراد يتسلل عبرها المسلم إلى القلوب تحفها هالة من الحسن والرونق فتصيب من تلك القلوب مرماها، فهي ماء عذب يُسكب على الأرض المَوَات فينعشها فإذا هي حدائق غناء فواحة بأريج الزهور يفيئ إلى ظلال أفنانها الباسقة كل مكدود أنهكه المشي في التيه والجري وراء السراب .
فالجمال ــــــ إذن ــــــ عنصر أصيل في الإسلام موزعة مقاديره على شُعَبِه كلُّ وحظّه المَقْسُوم له من الجمال . وعلى هذا فليس بِدَعا أن يظفر الأدب الإسلامي بنصيب منه حتى أنه يبعد عن مملكته كل عمل أدبي يغفل أو يتجاوز الجمال؛إذ أنه ـــــ بذلك ـــ يفقد الجانب المتألق الذي يلقى به الحظوة والقبول حين يطرق مجال الفن والأدب .
والجمال قبل هذا كله عنصر أصيل في نظام الكون ومظاهره وفي النفس الإنسانية، لا تخطئه العين الباصرة سواء في ذاك النظام أو تلك المظاهر، كما يعز وجود النفس التي لا تهتز تجاهه .والأدب الإسلامي أدب تفرزه النفس المسلمة وقد سرت أشعة الجمال في الحنايا دون أن تصطدم أو تحاول مجانبة التصادم مع ذاك النظام الكوني .
قلنا في تعريف الأدب أنه تعبير جميل عن مشاعر وإحساسات تَهْتَاجُ في النفس، فعرفنا الجمال وحظ الأدب الإسلامي منه. أما المشاعر والإحساسات التي تتحرك في نفس الأديب فلكي تعرف حقيقتها وكنهها لدى الأديب المسلم ننظر أولا إلى التصور الذي يصدر عنه ذاك الأديب، فنعرف حقيقته ـــ أي التصور ـــ ومدى فعاليته في النفس والحياة . فالتصور الإسلامي منبثق عن العقيدة الإسلامية ، تلك العقيدة الضخمة المتحركة الفاعلة في النفس والحياة لا خصوصيتها وامتيازها عن جميع العقائد التي تزحم ساحة الحياة الإنسانية، تبعث في نفوس معتنقيها دفعا قويا للحركة في هذه الأرض والجري في مناكبها للسير بحياةالإنسان إلى السعادة المرجوة في الدارين ، لذا فهي لا تُسَلِّمُ بأي حال من الأحوال بالأمر الواقع، إنما تسعى جاهدة لتغييره، فيعود الناس إلى فِطَرِهم الحقيقية ، وفاطرهم الحق ، فإذا حياتهم غير ما كانت عليه من إثِّقَال إلى عنصر الفناء في الإنسان، وإذا لواعج الشوق ملتهبة بين الجوانح، الشوق إلى الحق، الشوق إلى الخير، فيحل الاطمئنان محل القلق، والرضا محل التبرم، و التسليم بقدر الله بدل العيش في صراع مع القدر عقباه الخسران المبين .فمشاعر وإحساسات الأديب المسلم تصطبغ بهذه المعاني الكريمة، فيخرجها الإخراج الجميل معبرا عن حقيقة الحياة ــــ كما يتصورها ــــ ويتحرك على هديها ، تدفعه إلى العمل ــــ في ميدانه ــــ على تغيير واقع الناس .ثم لا يخرج عمل أدبي إلى الوجود إلا لمسنا فيه شيئا من ذلك؛ لأن الأدب تعبير عن الذات من جهة ، وما انطبع عليها من أثر خارجي .
وهنا يطل علينا إشكال يلح علينا في أن نجد له حلاّ حتى ينضوي تحت راية الأدب الإسلامي ؛ إذ كنا قد وجدنا للتأثيرات الداخلية في نفس الأديب المسلم مخرجا قبل حين .هذا الإشكال هو كيف يكون موقف الأدب الإسلامي من التأثيرات الخارجية، وهي لن تكون في كل الحالات وفق تصور الأديب المسلم أو على النمط الحيوي الذي يريده للإنسانية، فهناك كفر وإلحاد و هناك علاقات جنسية تُعْنَى الآداب بالحديث عنها {إشارة أو تفصيلا}، وهناك أوضاع اقتصادية ليست على وفاق مع معتقدات الأديب المسلم ولا شريعته، وهناك أوضاع اجتماعية تخالف العلائق الاجتماعية التي يهدف الإسلام لاشاعتها بين معتنقيه، وهناك أخلاقيات تقف على طرف نقيض لأخلاقيات الإسلام ، فكل هذه موضوعات للأدب لا فكاك له منها ، ولا مفر له من تناولها .
حلّ هذا الإشكال في الأدب الإسلامي ميسور، فالأدب الإسلامي مستعد لتناول أي موضوع في الحياة الإنسانية، لكن له منهجه الخاص في تناول كل موضوعاته ؛ فهو لا ينظر إلى الظواهر مقطوعة عن سياقاتها الحضارية،ولا مبتوتة عن خلفياتها النفسية، فهو ينظر إلى الظواهر النفسية والاجتماعية والاقتصادية على أنها إما أن تكون ظاهرة مرضية فهي إذن عامل تخلف وتقهقرفي الحياة ، وإما أن تكون ظاهرة صحية فهي مظهر من مظاهر التقدم والازدهار، ولكلّ من الطرفين منهج يتبعه الأدب الإسلامي في تناولهما؛ فأما الظاهرة المرضية التي تمثل حالة السقوط، حالة الضعف والتخلف، فهي لن تتحول في يوم ما إلى حالة صحية ، كما لا يتم التسليم بوصفها أصلا في النفس في المجتمع، فيكتفي بتصويرها و الوقوف عند دقائقها،أو أن يأتيها من كلّ جهاتها ليستكمل رسم تلك الدقائق والجزئيات ثم يخرجها عملا أدبيا تقف أمامه النفوس المريضة تشتهي وتتلمظ .
كلا ليس هذا من منهجه في تناول تلك الظاهرة أو الظواهر ، إنه يقف عندها بالقدر الذي يحتاجه الوقوف لتشخيصها والإحاطة بدوافعها وخلفياتها وتأثيراتها في الحياة . لينطلق بعد ذلك شاجبا لها، ساعيا لاتخاذ وسائل العلاج واقتلاعها من جذورها لتخلو الساحة منها ، ويغدو كيان الأمة معافى سليما من الأوهاق والأدواء التي تقعد به عن أداء رسالته الحضارية، فالأدب الإسلامي ــــــ إذن ــــــ ليس " أدبا وصفيا" فحسب، بل هو إلى جانب الوصف "أدب علاجي " ــــــ إن استقام لي الاصطلاح ــــ ولا يتبادر للذهن أننا نعني بكل هذا أن يغدو الأدب وعظا وإرشادا، كلا ما إلى هذا رمينا ، وما نرتضي لأدبنا مثل ذلك . إنما أدبنا أدب لا يخرج عن القواعد الشكلية والفنية لفنون الأدب المعروفة .
ولنضرب للحالة المرضية مثلا نستجلي به المنهج الإسلامي للأدب، ولتكن "الحالة الجنسية"، فالعملية الجنسية في حد ذاتها ليست عيبا ومستقذرة، . بل العيب والحرج يأتيان من المسالك التي تقضى بها، فالأدب الإسلامي يبارك إتيانها كما أمر الله تعالى وأرشد، ويشجب كل وضع يَنِدُّ عن تلك السبيل، هذا من جهة ومن جهة أخرى فحالة قضائها يراها لحظة من لحظات الضعف البشري، خاصة في حال إتيانها بالسبل غير المشروعة. فلن يكون منه ــــ البتة ـــــ الوقوف عندها يصور ويتلذذ ويدعو للتلذّذ، ويدغدغ الغرائز الدنيا في النفس الإنسانية فيملأ الخيال والفكر بتلك اللحظات ، مما يغري بسلوك السبيل نفسها .
إنما يقف عندها لحظة لينطلق بعدها شاجبا لها، ثم يضعها ضمن قائمة الحالات المرضية؛ فهي إذن لحظة تخلّف وسقوط ورجعية في السلوك البشري، وانتكاس إلى حياة الحيوان، بل هي أدنى درجة من ذلك؛ إذ الحيوان حين يقضي حاجته الغريزية لا يتعدى وضعه الطبيعي الذي رسم له طريق سلوكه .
والأدب الإسلامي أدب رسالي أخلاقي يسعى لخدمة المبادئ والغايات السامية، ويوجه الناس الوجهة المباركة ، وهو لايجمد عند المفهوم الضيق لكل من الأخلاق والتوجيه ، أي المفهوم الوعظي والإرشادي الذي يتخذ الخطابة وأساليبها التقريرية والاندفاعية سبيلا ينتهجه لأداء رسالته . إنما الأخلاق في عرفه سلوكات حضارية موصولة بقوانين الحياة والكون يتوصل إليها بطريقة " بنائية للإنسان " انطلاقا من تغيير ما بالنفس حتى تصيح سلوكات تلقائية غير متكلفة تلك السلوكات التي هي ضرورة للبناء الحضاري ، وقبل ذلك وبعده فهي من مقتضيات تمام العبودية لله عز وجل ، فالأدب الإسلامي يرصدها من هذا الجانب الرحب الأرجاء، الفسيح الجنبات، كما أن التوجيه لا يعنى رفع عصا الطاعة فوق رؤوس الأدباء فما أن يَطْرُقُوا منطقة محرمة ـــــ مجرد اقتراب ـــــ حتى تهوي على تلك الرؤوس لتحطمها ، كلا ما هكذا يكون التوجيه في الأدب الإسلامي ، بل هو التوجيه الحاني الذي يَحُوطُ مملكة الأدب برعايته المستمدة من عقيدة الإسلام وتصوره ، فيحنو على الأدباء في رفق وحنان حتى يتأتى للأديب المسلم أن يعالج موضوعاته وهو يحس أن يدا حانية تحوطه من كل جانب فَيُتِم عمليته في أمان وحرية تامة.
وهو أديب ملتزم منكب على خدمة قضايا اجتماعية وسياسية لصالح المجتمع، لكنه لا يتخذ من الصراع الطبقي أو العامل الاقتصادي ظواهرمستقلة عن الحياة و مبتورة عن غيرها من ظواهر الحياة و مجالاتها، فينقلب الأدب ـــ بذلك ــــ إلى المساهمة في إيجاد حالات مرضية أخرى كالحقد والفرقة بين أفراد المجتمع، صحيح أنه يعرض لحالات الاختلال الاقتصادي والظلم الاجتماعي والتعفن السياسي فيشجبها، بل يعمل جاهدا للقضاء عليها ، لكنه لايرضى للأديب المسلم أن يتحول إلى " دون كيشوت " يتوهم الصراع الطبقي أو الاجتماعي أو السياسي ليبني عليه معارك وهمية لا حقيقة لها في أرض الواقع، كما لا يرضى أن يتحول العامل الاقتصادي لديه ــــ مثلا ــــ عاملا حاسما في صيرورة التاريخ البشري .
أما الالتزام في الأدب الإسلامي فهو شرط أساسي فيه ، لكنه يفارق غيره من أشكال الالتزام، إنه كما قال الأستاذ محمد قطب :" يلتزم فقط بمجاراة الناموس الكوني في جماله وتناسقه وتوازنه وطلاقته من الضرورة" منهج الفن الإسلامي، ص١٥٦.
هذه وقفات متفرقات حول الأدب الإسلامي ألممنا بها، ونسأل الله تعالى أن يبارك في الوقت والجهد والعمرحتى نعود للموضوع بشيء من التفصيل والتحليل .