165855
6
واقع لغتنا العربية...
بقلم الحاج بن معمر
لطالما حظيت اللغات بثقل إستراتيجي هام في حياة البشر، بوصفها من المقومات الجوهرية للهوية، وركيزة أساسية في الاتصال والاندماج الاجتماعي والتعليم والتنمية، وتأتي اللغة العربية كإحدى أقدم وأفضل وأغنى تلك اللغات وأكثرها انتشارا في العالم، حيث يتحدث بها أكثر من 422 مليون شخص يتوزعون في البلدان العربية وبعض الدول الإسلاميّة.
والحقيقة أن اللغة العربية لغة غير عادية، فهي ذات خصائص عظيمة قلما تجتمع في لغة واحدة، لغة متميزة في كل شيء تقريبا، في رسمها وفي أصواتها وفي معانيها وفي مفرداتها وفي تراكيبها، كما أنها لغة ذات إرث حضاري واسع وعميق، حيث كانت لغة العلم والحضارة لقرون عدة وفي بقاع امتدت من أطراف الصين إلى سواحل الأطلسي، وكتبت بها آلاف المصنفات العلمية العظيمة في شتى الفنون والعلوم والمعارف.
وإبرازا لأهميتها ودورها في حفظ التاريخ ونقل العلوم من الحضارات المختلفة إلى العصر الحديث، فقد نالت العربية اهتماما عالميا كبيرا تجسد في تخصيص منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) 18 ديسمبر من كل عام يوما للاحتفال العالمي بها، وذلك بعد جهود سعودية مغربية بدأت منذ خمسينيات القرن الماضي، توّجت بإصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها بإدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في تلك المنظمة الدولية العريقة، وهي الإسبانية، والإنجليزية، والروسية، والصينية، والفرنسية.
ومنذ أكتوبر 2012 بدأ احتفال اليونسكو للمرة الأولى باليوم العالمي للغة العربية، وفي 23 أكتوبر 2013 قررت الهيئة الاستشارية للخطة الدولية لتنمية الثقافة العربية (أرابيا) التابعة للمنظمة، اعتماد اليوم العالمي للغة العربية كأحد العناصر الأساسية في برنامج عملها لكل سنة.
ولا غرو أن تتسنم اللغة العربية ولغة الضاد والفصاحة والبيان ذرى المجد وقمم الفخر، ففضلا عن أهميتها لدى المسلمين، حيث لا تتم الصلاة أو قراءة القرآن إلا بإتقان بعض كلماتها التي تبلغ 12.3 مليون كلمة، فهي أيضا لغة شعائرية رئيسة لدى عدد من الكنائس المسيحية، كما كتبت بها أجزاء هامة من الدين اليهودي.
أرى وغيري كثيرون أن اليوم العالمي للغة العربية بات مناسبة تضيف كثيراً وكثيراً للغة، فقد أصبح بمثابة اللقاءات الدورية السنوية للمجمعات اللغوية والجامعات والمراكز والمهتمين، حيثُ يتباحثون فيه أمور اللغة وسبل تطويرها وإيجاد الأساليب المناسبة لنشرها وتعلمها وإتقانها، والحقيقة لا أدري إن كان هناك من لا يعلم شيئا عن يوم اللغة العربية العالمي، ولكني أتمنى أن يعرف الجميع ذلك اليوم الذي يرمز إلى بقاء قيمتها وأهميتها كلغة دين وفكر وحضارة، تملك من مقومات القوة والإبداع والثبات والإقناع الحضاري ما لا تمتلكه أي لغة أخرى.
وعلى الرغم من كل تلك المؤشرات الإيجابية التي تشي بأن وضعنا مع لغتنا جيد جدا ولا يدعو للقلق والتشاؤم، لكن في الوقع أن أكثر الذين درسوا وناقشوا حال اللغة العربية -مع إدراكهم لجانب القوة والخلود فيها- متفقون تقريبا على أنه متدهور ومحبط، ولهذا فهم قلقون جدا على واقع ومستقل اللغة العربية، وهذا بات واضحا للعيان في ظل ما باتت تواجهه اليوم من تحديات كبيرة، بدءا من ضعف الاهتمام بها وتوجه الناطقين بها نحو تعلم لغات أخرى، مرورا بالتحدث بالعامية الذي أصبح من أخطر المشكلات التي تضعف العربية وتنهش الفصحى من داخلها، وتنخر في الجسد العربي الواحد حتى يتفتت إلى لهجات وقوميات شتى، إضافة إلى شح المحتوى العربي على الإنترنت مقارنة بلغات عدة هي في الواقع أقل استعمالا وانتشارا، هذا عدا عن العدوان على اللغة الذي أصبح ظاهرة عامة في وسائل الإعلام نظرا لتأثيرها الهائل على عوائد الناس وسلوكياتهم، وصولا إلى الكلمات الغريبة والمصطلحات الدخيلة، التي بات يرددها أبناؤنا وبناتنا اليوم باسم الحضارة والمدنية، وقد صدق شاعرنا الكبير حافظ إبراهيم في أبياته الشهيرة التي نعى بها اللغة العربية الفصحى لهجر أهلها حين قال («وسعت كتاب الله لفظاً وغاية/ وما ضقت عن آي به وعظات»، «أنا البحر في أحشائه الدرّ كامن/ فهل سألوا الغواص عن صدفاتي»، «أيهجرني قومي عفا الله عنهم/ إلى لغة لم تتصل برواة»).
وإذا كان هذا واقعها اليوم، ومع الاحتفال بيومها العالمي فإن اللغة العربية هي لغة الجميع، لذا على الجميع الاحتفاء بها أفرادا ومؤسسات، سواء أكانت علمية أو ثقافية (من القطاعين العام والخاص)، وكذلك مختلف وسائل الإعلام وكافة وسائل التواصل الاجتماعي، فالجميع مسؤول في هذا اليوم عن البحث عن وسيلته الخاصة للاحتفال بلغته التي تمثل هويته وتعكس فخره واعتزازه بها، والإنجاز ليس لأنها اللغة العربية، لكن الاحتفال بأن الإنجاز قد تحقق بأن أصبحت لغة عالمية، يعترف بها العالم أجمع.
ويبقى الأهم من الاحتفال والاحتفاء، وهو الاهتمام باللغة العربية تعلما وتعليما وتدريبا وكتابة ودراسة، وبذل الجهود في سبيل نشرها وتفعيلها وحمايتها والحفاظ عليها، والالتزام بالفصحى، والبعد عن العامية الدارجة، ولنضع نصب أعيننا خدمة هذه اللغة عن قناعة وبإخلاص وإثبات أنها ثابتة وستبقى قائمة ما بقي القرآن، وتظل هي اللغة العالمية والأولى في العالم. ولقد سعت الجزائر ومنذ إسترجاع سيادتها إلى إعادة مكانة اللغة العربية خاصة بعد مرحلة الإستعمار الغاشم الذي لم يدخر جهدا في محاولة طمس الهوية العربية الإسلامية طوال الحقبة الإستدمارية لتأتي النصوص التشريعية غداةالإستقلال مكرسة و متماشية مع هذا التوجه لاسيمى دساتير الجمهورية لتي أكدلت على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية وأحد الثوابت الوطنية وذلك إعطاء العربية منزلتها وتعميمها كلغة وطنية وقومية تضطلع بمهمة التعبير عن كل المضامين المتداولة في المجتمع، واسترجاع الشخصية الوطنية التي تقوم على الأسلام واللغة العربية كما يشهد التاريخ على الدور الذي لعبه العرب والعربية كلغة أكبر حضارة ساعدت على تطوّر الإنسان الجزائري، بأن أخرجته من قهر الرومان والبيزنطيين.
وهي لغة الدين الإسلامي الذي يدين به المجتمع الجزائري، والجزائر تنتمي إلى الأمة العربية التي تمتدّ من المحيط إلى الخليج، وهذا الانتماء كان بالفعل التاريخي الذي يعود إلى دخول الإسلام أقطار المغرب العربي في عهد أجدادنا الأمازيغ الذين قبلوا الدين ولغته، على الرغم من التحرشات التي حدثت في بداية دخول العرب هذه الأقطار.
ونعرف أنّ العربية في أعلى مستوى بما تملكه من استراتيجية عالمية بين اللغات؛ حيث إنّها شرّفت العصر الأموي والعباسي بما قدّمته للحضارة في شتّى الفنون.
كما أنّها لغة راقية تستند إلى حضارة عريقة كالفارسية والتركية، واستطاعت أن تدفن كثيرا من اللغات القديمة التي طال بها الزمن، وهذا كله نظرا للخصوصيات اللغوية التي هيأتها وتُهيّئها لتكون لها مكانة هامة.
وفي العصر الحاضر لها مكانتها عالميا كلغة من اللغات العالمية، فهي لغة رسمية من لغات الأمم المتحدة، ولها الريادة في المعسكر الإسلامي الذي يستعمل كثير من ناطقيه العربية، كما أنّ لها علاقات متينة مع الثقافة الإسبانية التي تشكل رقعة كبيرة في عدد الناطقين بها؛ وهذه الثقافة لها روابط تأثر بالثقافة العربية.
ومع كل هذا، نجد أبناءها يعيشون انهزاما نفسيا أمام الزحف اللغوي الداهم؛ فتراهم يستسلمون للغات الأجنبية، فتكونت لذلك جبهة تنادي بإبقاء العربية لغة دين، لتبقى بعيدة عن العلم. كما نشأ تيار يعاديها وينادي بإبقاء اللغة الفرنسية على أساس أنّها المكسب الذي لا يُتسامح فيه. وهكذا منحوا الازدهار للفرنسية بتجميد العربية، عكس ما يحدث في جميع الأمم حيث اللغة الوطنية هي كل شيء، وهي اللغة المقدسة من قبل الجميع، وهذا كله بسبب العجز والتقصير في تنمية اللغة العربي.
ليس في وسع أمة أن تعيش عيشة محترمة وتصون كرامتها ما لم تضطلع بالعلم، اعتمادا على لغتها في المقام الأول. ومن هنا تسعى كل الأمم إلى استعمال لغاتها القومية من أجل التواصل الحقيقي بين المعلِّم والمتعلم؛ حيث دلّت الدراسات التربوية على أنّ أصلح لغة للتعليم هي اللغة التي يفكر بها الطالب كلما كان ذلك ممكنا، كي لا يفكر بلغة ويعبر بلغة أخرى، وتكمن الضرورة كذلك في سهولة الاتّصال بين المعلم وطلابه، وتوفير جوّ النقاش العلمي الخالي من الحرج والتكلّف الذي تسببه الترجمة أحيانا.
المنظور الرسمي إلى مسألة التعريب إذا كانت السياسة التربوية في الجزائر تخطط لإنهاء الفرنسية، فإن التعريب يتنوّع فحواه تبعا لعلاقة كل حكومة بمدى مشروعية حكمها، فكل حكومة تنظر إليه على أنّه التجذّر الثقافي الذي يجب ألا يعلو عليه أحد.
لكن بعض المواقف تبرهن على وجود مشكلة كبيرة في التعاطي مع المسألة، ومن هنا يطرح التعريب بصيغ ملتوية، فهو حقل الصراع المغلق، فنجد البورجوازية التقنوقراطية لا تهتم به، بل تعاديه، وتنظر إليه على أنّه تهديد بانتزاع وظائفها وتسليمها للمعربين، مع أنّهم يقرون في قرارة أنفسهم بأنّه الوجه المكمل للاستقلال السياسي والاقتصادي.
وفي ذات الوقت نجد المسؤولين السياسيين المعربين يطرحونه من زوايا استعادة الوجه الحقيقي للوطنية، فيطرحونه بصيغ تحمل معاداة الطرف الثاني. ومن هنا حدث عندنا في الجزائر هذا الشرخ الكبير بين المثقفين: فئة تنعت نفسها بالوطنية؛ وهي هذه الفئة التي تسعى إلى التعريب وتنادي به (المعربون)، وفئة تتماطل فيه، وهي الفئة غير المعربة (المفرنسون). وتعيش الفئتان في عزلة عن بعضهما، بل وصل الصدام أحيانا إلى العنف كما حدث في بعض الجامعات في أواخر السبعينيات، ومن هنا حدث التذبذب في هذه المسألة بدءا من الثمانينيات إلى يومنا هذا.
رغم كل تلك المراسيم والقرائن الرسمية الحكومية والتي لم تتكلل بنجاح لعدة حسابات سياسية وإودولجيات بعيدة كل البعد على الواقع المعاش أثرت سلبا على إداء المنظومة التربوية التي أصبحت حقل تجارب بأمتياز بين دعاة الفرونكفونية الكولونية ودعاة التعريب على الطريقة الشرقية دون مراعاة للخصوصية الجزائرية ولما لها من أبعاد حضارية متوسطية وأفريقية على حد سواء.