بقلم الحاج شريفي
لايمكن لعالم الأدب والفكر أن يزدهر في غياب النقد البنّاء؛ فالنقد هو العين التي ترى ما وراء الكلمات، والعقل الذي يستنطق النصوص، فيحيلها إلى حقائق تتجاوز الحروف وتلامس الأفكار.
غير أن ما نشهده اليوم من تصدّر بعض النقاد الذين لا يقرأون الأعمال التي ينتقدونها، بات ظاهرة مقلقة ومؤسفة على حد سواء، تهدد مستقبل الأدب وتسيء لمهنة النقد ذاتها، ففي عالمٍ يُفترض فيه أن يكون الناقد هو ذلك المثقف الحصيف، الذي يقرأ بعمق ويستوعب بصدق، ثم ينقل تحليله بوعي ومسؤولية، نرى أمامنا نقاداً أشبه بالممثلين في مشهد متكرر، ينقضون الأعمال دون فهم أو معرفة، محملين إياها بتقييمات سطحية وكلمات فارغة.
والحقيقة أن هذا النوع من النقد لا يضيف للأدب شيئاً؛ بل يُسيء للمشهد الثقافي ككل، ويشوّه قيمة النقد الذي يُفترض به أن يكون قوة دافعة للإبداع، وليس سيفاً مسلطاً على رقاب المبدعين.
هؤلاء النقاد يتخذون من مناصبهم منصة يُصدرون من خلالها أحكامهم، فيغدون أعداء لكل ما هو جديد، محبَطين عزيمة الشباب الطامحين الذين يملكون المواهب الحقيقية ولكنهم يُواجهون بصمت موصد أو نقد ظالم، إنهم يقفون كحاجز بين المبدع وأحلامه، يحاصرون إبداعه بأسوار من الجهل المستتر خلف ادعاء المعرفة.
كيف لنا أن نتوقع من ناقد لم يقرأ العمل أن يُصدر رأياً صائباً، وكيف لنا أن نقبل برأيه وقد أهمل القاعدة الأولى والأهم، وهي القراءة؟! ومع ذلك، فإن هؤلاء النقاد، رغم عجزهم عن قراءة ما بين السطور، يمتلكون القدرة على التسلل إلى كل ساحة ثقافية، يحاصرون المواهب الواعدة، ويمنحون آرائهم الزائفة حُلة التقييم الجادّ، تجدهم في الصفوف الأمامية للمؤتمرات، يحتلون أعمدة الصحف، ويصدرون أحكاماً تُعامل كحقائق لا نقاش فيها، فقط لأن أسماءهم تتكرر في المشهد، لا لأنهم أهلٌ للنقد أو يمتلكون أدواته.
والأدهى من ذلك، أن هذه الظاهرة تطرح إشكالية أخرى أكثر خطورة، وهي غياب التشجيع للمواهب الشابة، فالنقد الأعمى لا يُقيّم النص بموضوعية، بل يكرس نظاماً من الاستبعاد، حيث لا يتم الاعتراف إلا بالأسماء الكبيرة أو من يحظى بعلاقات في الوسط الأدبي.
إننا أمام واقع مؤلم تغلب عليه المحسوبية بدل الكفاءة، فيُترك المبدعون الحقيقيون، ممن لا يملكون إلا موهبتهم، في عزلة، فاقدين الإيمان بقدرتهم على الوصول إلى القراء، محبطين من التجاهل والتهميش.
إن مسؤولية تغيير هذا المشهد تقع على عاتق النقاد الحقيقيين، أولئك الذين يقرأون ويحترمون الكلمة، فيُطوّرون أدواتهم النقدية ويضعون معايير صارمة تعتمد على التحليل والفهم.
على الناقد أن ينظر إلى عمل المبدع على أنه نتاج جهد وفكر، لا مجالاً لاستعراض انطباعات عشوائية أو أهواء شخصية، كما أن المجتمع الأدبي، بمختلف فئاته، عليه أن يحتضن المواهب الناشئة، ويدعمها بعيداً عن عوائق العلاقات والمحسوبيات، وأن يفتح أبواب المشهد الثقافي للأصوات الجديدة التي تحتاج إلى الثقة والتشجيع.
أما عن النقاد، فيجب أن يفهموا أن دورهم ليس تدمير الإبداع، بل إضاءته، وليس إعاقة المواهب، بل الإسهام في تطويرها. النقد الحقيقي هو فنٌ بحد ذاته، ولا بد له من بصيرة وموضوعية وإنصاف، ومتى فقد النقد هذه الأسس، يتحول إلى عائق للإبداع بدلاً من أن يكون دافعاً له، ويسهم في تهميش الكثير من الكتاب الشباب ممن قد تكون لهم أصوات أصيلة وأفكار تساهم في إثراء المشهد الثقافي.
الأدب يحتاج إلى عيون تقرأ قبل أن تتكلم، وإلى عقول تسعى لفهم الأثر قبل إصدار الحكم، وإلى أقلام تنتقد بحبٍّ للعلم والمعرفة، لا حبٍّ للظهور والمكانة.