503364

1

مذكرات شاهد على سنوات الجمر الحلقة 132

بقلم اسماعين تماووست 

من خلال ما ورد في القرآن الكريم، في قوله تعالى"وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" (البقرة: 190)، يظهر لنا أن الإسلام دين يرفض الاعتداء والتطرف بكل أشكاله.

التطرف، في جوهره، هو فقدان للاتزان والفهم الصحيح، بل هو تهديد لمبادئ الدين الحنيف. إنه في الواقع نقيض تمامًا للجوهر الذي يدعو إليه القرآن من تسامح واعتدال وتعايش سلمي بين الناس.

وهو ليس مجرد انحراف عن القيم والمبادئ التي يحملها ديننا، بل هو أيضًا تدمير للمنطق والعقل.

في الحقيقة، لا يتوافق أي من أفعال هؤلاء المتطرفين مع قيم القرآن ومع المبادئ الأصيلة للإسلام. فهم يبتعدون عن المفهوم الصحيح للإسلام الذي يدعو إلى العلم، والعدالة، والتسامح، والعيش المشترك، بدلًا من أن يكونوا أدوات للإصلاح والتقدم، هم يعيدون الأمة إلى الوراء، ويزرعون بذور العنف والتفرقة.

إن هذا الفهم المغلوط يجب أن يُوضّح بشكل قاطع للعالم، وخاصة لأولئك الذين لا يعرفون الإسلام حق المعرفة،  من الضروري أن نبيّن للناس أن الإسلام، في جوهره، ليس دينًا يدعو إلى العنف أو التطرف، بل هو دين يدعو إلى السلام والاعتدال.

من هنا، نؤكد على ضرورة أن يمتلك جميع الجزائريين المعرفة العميقة والواعية في عدة مجالات، وأهمها دينهم الحنيف، وفهمهم للسياسة، والدفاع عن وطنهم، والاعتناء بقضاياهم الاجتماعية.

هذا التسلح بالعلم والفهم هو الذي يسمح بتغيير الواقع نحو الأفضل، فالإنسان الذي يملك العلم والتفكير العميق هو الأكثر قدرة على حماية وطنه والدفاع عن قيمه، لأن القوة الحقيقية لا تكمن في الجسد فقط، بل تكمن في قوة العقل والفكر. فالعقل هو الذي يوجه الإنسان إلى الطريق الصحيح، وهو الذي يضمن له النجاح في مختلف مجالات الحياة.

إن العلم هو الدرع الذي يحمي كرامة الإنسان وكرامة وطنه، وهو السلاح الذي لا يمكن لأي قوة في العالم أن تهزمه، فالذين يسعون إلى التفوق على أساس العلم والعقل هم الذين يصنعون التغيير الحقيقي،  لذلك، فإن القوة الحقيقية تكمن في قوة المعرفة، و قدرة الإنسان على استخدام هذه المعرفة لصالح وطنه وأمته.

كما أن  الحماية الحقيقية لكرامة الإنسان لا تأتي من خلال التسلح فقط، بل من خلال تمكين العقول، وتعزيز التعليم، وتطوير الفكر. فقط من خلال هذا الطريق يمكن للأمة أن تحقق السلام، والعدالة، والازدهار.

 أي فكرة متطرفة تحاول المساس بمبادئ الإسلام الحقيقية، هي في نهاية المطاف تدمر أصحابها قبل أن تضر بأي أحد آخر. ومن واجبنا جميعًا أن نكون حرصين على هذا الفهم السليم وأن ننشره بين الناس لكي نمنع انتشار الأفكار الضالة التي تجر الأمة إلى الهاوية.

كنتُ أراقب الوضع بعيون مفتش الشرطة، حيث كنتُ أحد شهود العصر المأساوي، شاهدًا على تحولات كانت الجزائر بأسرها تمر بها. كانت الجزائر، قبل ذلك ، تعيش في جو من الأمل والإيمان العميق، حيث كانت القيم الإسلامية السامية تشكل مرجعية الحياة اليومية لشعبها، وكانت الوحدة الوطنية في أوجها. لكن، كما يحدث في كثير من الأحيان، جاء التطرف ليشوه تلك الصورة المشرقة ويقلب حياتنا رأسًا على عقب.

التطرف ليس مجرد قضية سياسية أو اجتماعية فحسب، بل هو مسألة أخلاقية ودينية، لأنه يحرف القيم ويشوه المبادئ، وينهي  السلام والطمأنينة.

وقد جاء هذا في وقت حساس في تاريخ الجزائر، بعد سنوات قليلة  من خروج البلاد  من براثن الاستعمار، لتجد نفسها غارقة في صراع داخلي لا مبرر له سوى تغذية نزعة دينية متشددة ترفع راية الجهاد الزائف، مستغلة جهلًا وتحريفًا لأبسط مفاهيم الإسلام.

ولكن هؤلاء الذين أعمتهم الأيديولوجيات الضالة، كانوا يظنون أنهم يحملون راية الحق، بينما هم في الواقع يزرعون الفتنة والفوضى. لقد كانوا معتقدين أن الدين يبرر قتل الأبرياء، وتدمير المدن، وتشريد العائلات، لكنه لم يدركوا أن ما يزرعونه من شقاء ودماء سيعود حتمًا عليهم.

في قلب تلك العشرية السوداء، التي مررنا بها كأمة، كان الإرهابيون يعيثون في الأرض فسادًا، يقتلون ويخربون دون رحمة أو ضمير،  كانت الجزائر في خطر، والشعب في حالة من الترقب والخوف، كانت الجروح تفتح في كل مكان، والآلام تقتطع من قلب الوطن قطعة تلو الأخرى.

إن تلك العشرية، رغم ما خلفته من ألم ودمار، أظهرت أيضًا الروح الحقيقية للشعب الجزائري، الذي رفض أن يخضع لأعداء السلام، ورفض أن تلتهمه ثقافة العنف، وأنا كشرطي، مع زملائي، كنا على الجبهة الأولى، نواجه هؤلاء المتطرفين بكل شجاعة وإصرار، صحيح أن الطريق كان صعبًا، وأن الأرواح غالية، ولكن الوطن كان يستحق التضحية.

لقد كرسنا حياتنا لمحاربة الإرهاب، معرضين أنفسنا لخطر الموت في أي لحظة،  ولكن ما كان يدفعنا للاستمرار هو الإيمان بضرورة الحفاظ على وطننا وأرضنا، وعلى القيم التي تربينا عليها. وأذكر دائمًا مقولة شهيرة: "إما أن نعيش بكرامة أو نموت من أجلها."

وفي النهاية، عندما هدأت العاصفة، وبدأنا نلتقط أنفاسنا، يمكنني أن أقول بكل فخر واطمئنان: لقد قمنا بواجبنا على أكمل وجه. نعم، كانت المهمة صعبة ومؤلمة، ولكننا لم نتراجع،  قدمنا حياتنا فداءً للوطن، وتظل ذكريات تلك السنوات المظلمة محفورة في ذاكرة كل جزائري، تذكرنا جميعًا بأن الجزائر، بكل تاريخها العظيم، لا تقبل أن يعكر صفوها التطرف والإرهاب.

في الواقع، ما  كان يسعى إليه ما يسمون بقادة الإرهاب هو نشر الكراهية، كراهية عمياء، تحرف عقول الناس، خصوصًا الشباب، وتغذي العداء تجاه السلطة وأجهزة الأمن.

الكراهية لا تولد شيئًا سوى المزيد من الخراب؛ لم تكن أبدًا حلاً، بل كانت سمة من سمات التدمير.

الإرهابيون احتاجوا لهذه الكراهية لتفتيت المجتمع،  ليتسنى لهم ممارسة  أفعالهم بوحشية لا رحمة فيه، و يفرضون حكمهم الاستبدادي.

لكن في وسط هذا الظلام، كان هناك من وقف في وجهه، كان قلبي ينبض بشجاعة لا تعرف الخوف، كرجل من رجال المخابرات الجزائرية الذين واجهوا الإرهاب بعزيمة وثبات، مسلحين بالعلم والإيمان بواجبهم، كانت حربنا ضد الإرهاب في تلك الفترة أشبه بمعركة غير مرئية، لا ترى العدو إلا أنك تشعر به في الهواء من خلال حركته وتهديده، وفي تلك اللحظات كانت المقاومة هي الخيار الوحيد.

كنت أواجه العدو في الظلام، حين يكون الظلال ملاذه، وكان همي الأول هو حماية وطننا، كان هذا واجبًا مقدسًا، قضية عادلة نذرنا حياتنا من أجلها، لكن تلك الحرب لم تكن مجرد معركة خارجية، بل كانت معركة داخلية أيضًا، كل خطوة كنت أخطوها كانت تعبيرًا عن الصراع المستمر مع الألم، ومع الدم الذي سال. لم يكن ما أقوم به مجرد مهمة بوليسية، بل كان تحديًا للعقل والقدرة على التكيف مع الظروف.

كل هذه القيم شكلت شخصيتي ودفعت عزيمتي لمواجهة أخطار الإرهاب،  كان لزامًا علي أن أكون أكثر من مجرد محقق؛  أن أمتلك عقلًا حادًا يقرأ ما بين السطور، ويكتشف ما يخفيه الصمت و أفهم الناس من مجرد نظراتهم، وأدرك نواياهم من خلال همساتهم وحركاتهم غير المرئية.

كنت أرى في المجاهد الجزائري بطلًا يمشي نحو الشهادة دون تردد، وهو يردد النشيد الوطني في طريقه إلى الإعدام، وقد أودع قلبه حب الوطن وإيمانًا بقضية التحرير.

بينما كان الإرهابي يتجه نحو الموت بنية تدمير كل شيء، حتى حياة الأبرياء، المجاهد كان يحمل شرف التضحية، بينما الإرهابي كان يتسلح بالكراهية فقط.

كنت دائمًا على استعداد، لم أكن أخشى أن أواجه الموت، لأنني كنت أؤمن أن ما أفعله هو لحماية الأجيال القادمة، شعرت بحمل ثقيل على كاهلي، ولكن في أعماقي كان إيماني قويًا بأن هذا هو واجبي.

يتبع...



 

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services