21156

0

مذكرات شاهد على سنوات الجمر الحلقة 164

بقلم اسماعين تماووست 

لقد خضتُ هذه التجربة العصيبة بشجاعة ووفاء لا يتزعزعان، كانت مهمة استثنائية، حيث كان كل قرار يتأرجح بين الأمل والهلاك. لم يكن هدفي مجرد تنفيذ عمليات أمنية، بل كان عليّ أن أخوض معركة من نوع آخر، معركة العقل والإقناع، حيث سعيتُ لإيجاد حلول تعيد جزءًا من المجتمع إلى وعيه، قبل أن يبتلعه الظلام.

في هذه المساعي، التقيتُ بأشخاص من مختلف الطبقات الاجتماعية، مواطنين لم يكن لهم من طموح سوى رؤية بلادهم تعود إلى الاستقرار،  كان واجبي أن أفتح أعينهم على حقيقة الإرهاب، أن أكشف لهم قبح هذه الجماعات التي لم تكن سوى أدوات في أيدي قوى أجنبية.

الإرهاب، في جوهره، ليس أكثر من سرطان يتغذى على ضعف الأمم، ولا يقوى إلا حين تنهار وحدة الشعوب، إن الذين باعوا ضمائرهم لم يكونوا سوى بيادق في لعبة قذرة، يظنون أنهم يحاربون من أجل قضية، بينما هم في الحقيقة وقود لنار تحرق وطنهم.

في فترات الفوضى، يبرز نوعان من البشر: من يناضل لإنقاذ بلده، ونوع يبيعه بثمن بخس. كنتُ أدرك أن هذه الجماعات الإرهابية لم تكن تبحث عن دين أو إصلاح، بل كانت مجرد أدوات تدمير، تتحرك وفق مخططات مرسومة بعناية من قوى خارجية.

إسرائيل، وعدة قوى دولية أخرى، لم تكن بعيدة عن المشهد، بل كانت تحرك الخيوط من وراء الستار، تسعى لإغراق البلاد في العنف والخراب. الهدف كان واضحًا: إسقاط الدولة، زرع الخوف في قلوب الناس، وتحويل الوطن إلى رماد.

لكن، كما يقولون، "الليل مهما طال، لا بد أن يعقبه فجر." وكما أن المرض لا يُهزم إلا بعد تشخيص دقيق، فإن القضاء على الإرهاب كان يستوجب فهم جذوره، كشف المتآمرين، وضربهم في أوكارهم.

هذه المهمة لم أقم بها وحدي، بل كنت مدعومًا من قائدي المباشر، نائب رئيس أمن ولاية البليدة، رجلٌ حكيمٌ ذو نظرة ثاقبة، أدرك أن النصر لا يتحقق بالقوة وحدها، بل بالحكمة، بالتخطيط، وبناء الثقة بين السلطة والشعب.

كان بعض الخونة يختبئون بيننا، يتظاهرون بالولاء، بينما يسربون المعلومات لأعدائنا. لا شيء كان أكثر خطورة من العدو الذي يرتدي قناع الصديق. ومع ذلك، كان هناك من المواطنين الشرفاء من أدرك أن الحرب ليست مسؤولية الجيش والأمن وحدهم، بل مسؤولية الجميع.

وكما أن الحصن لا يُخترق إلا من الداخل، فإن قوتنا كانت تكمن في وحدتنا. كان الناس، رغم خوفهم، يأتون إلينا بالمعلومات، يهمسون بأسماء مشتبهين، يرشدوننا إلى تحركات مشبوهة.

يقولون: "الحق نور، لكنه يحتاج لمن يحمله"، وبفضل هذه المساعدات، استطعنا كشف الكثير من الأسرار، تفكيك خلايا إرهابية، واعتقال قادتهم. كانت العملية بطيئة، لكنها كانت تثمر. كان الإرهابيون يسقطون واحدًا تلو الآخر، بعضهم في سجون العدالة، وبعضهم في حفرة الموت التي حفروها لغيرهم.

لقد رأيت الموت عن قرب، رأيت كيف يتحول الإنسان حين يفقد إنسانيته، كيف يقتل بلا تردد، كيف يبرر الجريمة باسم الدين، كيف يبيع شرفه مقابل أوهام رسمها له سيده في الخارج. لكنني رأيت أيضًا النور في أعين من اختاروا الطريق الصحيح، رأيت رجالا ونساءً لم يخافوا، وقفوا معنا لأنهم أدركوا أن الوطن لا يُحمى بالكلمات، بل بالتضحيات.

اليوم، حين أعود بذاكرتي إلى تلك الأيام، أدرك أن ما فعلناه لم يكن مجرد انتصار أمني، بل كان درسًا في الوطنية، في الإخلاص، في معنى أن تكون ابنًا حقيقيًا لوطنك. لقد اسرجعنا الأمن، لكن الأهم أننا استعدنا شيئًا كاد يضيع: ثقة الشعب في دولته.

ومع ذلك، كنت أعلم أن هذه الحرب لم تنتهِ بعد...

أؤكد أخيرًا أنه لا يوجد رد حاسم على أي تمرد يهدد استقرار الأمة إلا من خلال نضال لا هوادة فيه، يُخاض بقوة ساحقة حتى القضاء التام على هذا التهديد. فكل تساهل أو تردد أمام هذا الداء الخبيث لا يؤدي إلا إلى تعميق جذوره، مما يجعل استئصاله أكثر تعقيدًا.

في ذلك الوقت، كانت الجماعات الإرهابية والمتعاطفون معها ينتشرون كالطفيليات في كل زاوية من المجتمع، يتخفون بين الناس، يتسللون إلى النفوس الضعيفة، يحاولون فرض واقعهم المظلم. لم يكن هناك خيار سوى كشفهم، عزلهم، وشل حركتهم قبل أن يتحولوا إلى قوة يصعب كبحها.

فالعضو الفاسد لا يمكن علاجه، بل يجب بتره حفاظًا على الجسد، لذلك، كان لا بد من الضرب بيدٍ من حديد، دون تهاون، ودون ترك أي منفذ يعيدون من خلاله ترتيب صفوفهم.

لكن هذه الحرب لم تكن مسؤولية أجهزة الأمن وحدها، بل كانت معركة وطن بأكمله. فالأوطان لا تحميها البنادق فقط، بل تحميها الشعوب عندما تدرك أن مصيرها مرتبط بمصير الأرض التي تعيش عليها، لقد كان من الضروري أن نكسب ثقة المواطنين المخلصين، لأن شعبًا يشعر بالحماية والثقة لن يكون حاضنةً للإرهاب.

 لم تكن انتصاراتنا الأمنية فقط نتيجة العمليات التي قمنا بها، بل كانت ثمرة التعاون مع أولئك الرجال والنساء العاديين الذين قرروا، رغم خوفهم، ألا يكونوا شهودًا صامتين على دمار وطنهم.

لم يكن لديهم سلاح أو زي رسمي، لكن إخلاصهم كان درعًا أقوى من أي تحصين عسكري، بفضلهم، تمكنا من تنفيذ عمليات حاسمة أسفرت عن ضربات موجعة في صفوف الأعداء.

كل معلومة أدلوا بها، كل همسة، كل إشارة، كانت حجرًا يضاف إلى بنيان معركتنا من أجل استعادة الأمن.

لكنني أؤكد أن أفضل استراتيجية لتحقيق هذا الانتصار كانت تعزيز العلاقة بين الشعب والسلطة. فقد كان هناك مواطنون مستعدون للتضحية بأنفسهم لحماية بلادهم، رغم أنهم لم يكونوا يحملون سلاحًا. لقد خاطروا بحياتهم، وقفوا في وجه العاصفة، مدركين أن الوطن يستحق كل تضحية، كانت شجاعتهم أقرب إلى الانتحار، لكنهم لم يترددوا لحظة، لأنهم أدركوا أن مستقبل الأمة كان مرهونًا بوقفتهم الصلبة.

من واجبنا، إذن، ألا نحميهم فقط، بل أن نفهمهم أيضًا، كل شخص قرر المقاومة كان يستحق أن يُسمع، أن يُدعم، أن يشعر بأن تضحياته لا تذهب سدى،  كان لا بد من توفير المساعدة لهم، سواء كانت مادية، نفسية، أو حتى مجرد كلمة تشجيع. ففي هذه الحرب، لم يكن القتل وحده ما يهدد الأرواح، بل أيضًا الخوف، الوحدة، والشعور بالإهمال.

هناك حيث كانت الفوضى والعنف يعيثان فسادًا، كان علينا أن نعيد النظام والعدالة. حيث كان الشياطين يختبئون خلف وجوه بشرية، كان علينا أن نكشف حقيقتهم، أن نواجههم، أن نمحو أثرهم من أرضنا.

وهذا ما فعلناه بالفعل، خطوة بخطوة، تضحياتٍ بعد تضحيات، حتى بدأت شمس الأمل تشرق من جديد في سماء وطنٍ كاد يضيع.

يتبع...

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services