506048

0

مذكرات شاهد على سنوات الجمر الحلقة 157

بقلم اسماعين تماووست 

كنا على أعتاب حربٍ لا هوادة فيها، حرب تُدار في الظل، لا يعرفها إلا من عايشها وذاق مرارتها.

في تلك الحقبة، لم يكن العدو ما نراه بأعيننا، بل كان شيئًا أكبر وأكثر تعقيدًا: الإرهاب. هذا السرطان الذي بدأ يلتهم كل شيء، يجرف الأخضر واليابس، ويغطي كل زاوية من زوايا البلاد بالدم والدموع.

كانت فرق العمل التي أُوكل إليّ الإشراف عليها تتأرجح بين الانهيار والصمود،  وسط الصراعات اليومية، كنت أرى الزملاء يتنافسون، ليس لتحقيق نتائج أفضل، بل للسيطرة على موقف أو فكرة.

كانت فرقًا مليئة بالخلافات، صراعات تافهة حول أمور جانبية، بينما كان هدفنا الأكبر مشتركًا: القضاء على الإرهاب. ورغم سخافة تلك الصراعات، إلا أنها كشفت ضعف الروح الجماعية وانفصالًا عن الهدف الأسمى.

ومع تزايد تعقيد الوضع، ظهر الخطر جليًّا... تهديدات المتمردين لم تقتصر على الأسلحة، بل امتدت إلى أدواتٍ أكثر فتكًا: الأكاذيب، التلاعب بالعقول، والتطرف الأيديولوجي.

لم يعودوا مجرد قتلة، بل صاروا رموزًا لطريقة حياةٍ تعتمد على العنف والتضليل. تخبط المجتمع في فوضى، وصار من الصعب تمييز العدو من الصديق.

ما حدث لم يكن مجرد تمرد، بل حرب ضد الإنسانية، كان هدف الإرهابيين واضحًا: تفكيك المجتمعات، تقويض كل ما هو جميل وإنساني، وتدمير الروح الجماعية.

 كان تحديد العدو الحقيقي أمرًا معقدًا. هل يكمن في الخارج بين الجماعات المتمردة؟ أم في داخلنا، في ضعفنا وترددنا؟ كان هذا السؤال يطاردني باستمرار، وكنت أوقن أن الإجابة تكمن في الإرادة: الإرادة للتصدي لهذا الشر ومواجهته مهما كانت التضحيات.

رغم كل الصعاب، ظلّ بعض الناس صامدين، مواطنون شجعان وقفوا في وجه الإرهاب بكل شجاعة، مدفوعين بإيمانهم بأنهم لا يحاربون فقط من أجل البقاء، بل لحماية قيمهم الإنسانية.

لكن الحقيقة المريرة اتضحت شيئًا فشيئًا: الإرهاب ليس سلاحًا وحده، بل فكرة وعقلية تتسلل لتدمر كل شيء.

كنت أرى نفسي في كل قضية جديدة، كأنني أخوض معركة شخصية. التحقيقات التي قمت بها لم تكن مجرد بحثٍ عن أدلة، بل تتطلب تحليلًا عميقًا بأبعادها الفلسفية والنفسية.

لم يكن من السهل أن أكون محققًا في زمن مملوء بالكذب والخداع، لكنني كنت مؤمنًا بأمرٍ واحد: العدالة قادمة لا محالة، وسننتصر على هذا الوحش مهما بلغت التضحيات.

في خضم هذه الفوضى، أدركت أن العمل الأمني لا يقتصر على مطاردة الجناة أو جمع الأدلة، بل يرتبط بتقديم الأمل لمجتمعٍ منهك. 

حاولت بكل قوتي أن أكون شعلة نور صغيرة وسط الظلام، أحيانًا كلمات بسيطة أو نظرة تفاؤل من ضحية ناجية كانت تكفيني لتذكيري بواجبنا الأعظم: الحفاظ على إنسانية هذا الوطن رغم كل شيء.

هكذا، وبين الظلام الذي خيَم على البلاد، استمر نضالنا بشجاعة وإصرار، كنت أعلم أن الطريق طويل وشاق، لكنه الطريق الوحيد.

اخترت المضي قدمًا متحديًا كل المخاطر، ومدركًا أن العدالة ليست كلمة تُقال، بل مسؤولية يحملها من يجرؤ على الوقوف في وجه الظلم.

بقيت وفيًا لقسمي، متمسكًا برسالتي رغم كل الجراح. كنت أعرف أن كل خطوة أخطوها، وكل ملف أُغلق، كان يقربنا من الوطن الذي نحلم به جميعًا. لم تكن مهمتي سهلة، لكنها كانت واجبًا لا مفر منه.

كنت أرى في كل قضية فرصة لإعادة بناء الثقة، ليس فقط في القانون، بل في أنفسنا كمجتمع قادر على الصمود.

وفي النهاية، كان أعظم إنجاز لي أنني لم أستسلم. واصلت النضال كجزء من هذا السلك الشريف، حاملاً راية العدالة بعزة وشرف، غير آبه بما تركته المعارك من ندوبٍ في روحي. سيبقى التاريخ شاهدًا أن الأبطال ليسوا من يبحثون عن المجد، بل من يختارون المواجهة في أصعب الأوقات، مهما كان الثمن.

لا شيء أشد وقعًا على النفس من إدراك الخطر قبل أن يدركه الآخرون. بصفتي مفتشًا عركته الأيام في مواجهة الأزمات، كنت أملك حساسية مفرطة تجاه التحولات العنيفة التي تتسلل كالوباء، تلتهم المدن والأرواح دون رحمة.

لم يكن هذا التمرد موجة غضب عابرة، بل وحش جائع ينمو في الظلال، يتغذى على الجهل والتعصب، ويحمل طاعون الفوضى. أولئك الذين زرعوا القنابل في قلب التجمعات البشرية لم يكونوا سوى بيادق في رقعة شطرنج يحركها أسياد الخفاء.

لطالما كنت على يقين بأن الذين لم يعايشوا أهوال المأساة التي عصفت بشعبنا لا يمكنهم فهم أبعادها الحقيقية. إنهم يشاهدون من بعيد، يلقون الأحكام كأنهم في مأمن من النيران التي التهمت أرواحًا بريئة.

لكن الحقيقة أبشع مما يتخيلون؛ لم يكن الأمر مجرد حركة مسلحة، بل إعادة تدوير للرعب في أبشع صوره، تجديد لحقبة سوداء ظننا أننا دفناها في صفحات الماضي. وكما قال الله تعالى: "وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً..." (الأنفال: 25).

أمعنت النظر في الملفات المتكدّسة أمامي—صور الضحايا، تقارير التحقيقات، خيوط متشابكة ترسم لوحة قاتمة لجريمة متكاملة الأركان.

أدركت أن هذا التمرد لم يكن وليد اللحظة، بل امتدادًا لسلسلة من الخيانات والتواطؤات أحكمت على مدى سنوات.

كيف تحول شعبٌ أنجب مجاهدين أبطالًا وشهداء خالدين إلى ساحة يعبث بها المجرمون؟ أي لعنة تلك التي جعلت أبناء الوطن أدوات هدم بدلًا من حراسٍ له؟

أكثر ما شغلني السرعة المرعبة التي انتشرت بها هذه الأفعال الإجرامية. كأن الشر وجد تربةً خصبة في العقول المغلقة والقلوب المتعطشة للانتقام،  كان الأمر وباءً قاتلًا، يجتاح كل زاوية، يلتهم المدن كالنيران، ويترك خلفه جثثًا وأشلاء، والأهم يخلف خوفًا لا ينطفئ في قلوب من تبقوا.

في أروقة التحقيقات، انقسمت الآراء بين من اعتبروا هذا التمرد حركة انتقامية متوقعة، وبين من رأوا فيه كارثة يجب استئصالها من جذورها.

أما الفئة الأكثر وعيًا — وهم قلة — كانوا يدركون أن ما يحدث لم يكن نتيجة أوضاع اجتماعية مضطربة فحسب، بل مخططًا محكمًا يراد به تفكيك الدولة وإسقاط بنيانها حتى تنهار تمامًا، هؤلاء كانوا يراقبون الوضع بقلق، مدركين أن المواجهة لن تكون سهلة، وأن العدو لم يكن مجرد أشخاص يحملون أسلحة، بل فكرٌ خبيث ينساب كسم في العروق.

توصلت إلى استنتاجٍ مقلق: لم يكن التمرد عشوائيًا، بل منظم بدقة مريبة. هناك أيادٍ خفية تحرك الخيوط، تموّل، تخطط، وتوجه الضربات إلى أكثر الأماكن إيلامًا. كان الهدف واضحًا: زعزعة الأمن، نشر الفوضى، وإسقاط الدولة بأسلوب مدروس. لم يكن الهدف إشعال ثورة، بل زرع الخوف واليأس في نفوس الناس حتى يفقدوا الثقة بكل شيء، فيستسلموا ويصبحوا جزءًا من الفوضى دون أن يدركوا ذلك.

لكن هل سنسمح بذلك؟ لا، ليس ونحن نعرف الحقيقة،  لكل فعل رد فعل، ولكل جريمة من يلاحق مرتكبيها، ولكل وطن أبناء مستعدون للدفاع عنه حتى الرمق الأخير. لم تكن المعركة فقط عسكرية، بل معركة فكر، وعي، وإرادة.

إذا أرادوا جعل الفوضى واقعًا، فعلينا أن نجعل من النظام جدارًا لا يمكن اختراقه. هذا هو التحدي الأكبر، وكان عليّ أن أكون في قلبه.

كثيرًا ما فكرت في هؤلاء الذين راهنوا على سقوطنا؛ ظنوا أننا سننهار مع أول ضربة، أن الخوف سيسكن قلوبنا، وأن الشك سيمزق صفوفنا.

لكنهم لم يفهموا طبيعة هذا الوطن. لم تكن هذه معركة سلاح فحسب، بل معركة إرادة. من أرادوا غرق هذا الوطن في الفوضى نسوا أن الجزائر ليست أرضًا تُشترى أو تُباع، بل روح تسري في عروق أبنائها. وكما قال الله تعالى: "وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ..." (الحج: 40).

لسنا من يفرّ عند أول عاصفة، ولسنا من ينحني أمام العواصف. التاريخ شهد، وسيشهد مجددًا، أن كل من تجرأ على هذا الوطن لم يبقَ له إلا الذكرى البائسة في صفحات النسيان، فليكن ذلك درسًا لمن يظن أن الجزائر يمكن أن تسقط...

يتبع...

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services