323436
0
مذكرات شاهد على سنوات الجمر الحلقة 156

بقلم اسماعين تماووست
شهدتُ بنفسي كيف انزلقت البلاد إلى منعطف خطير، في بداية التسعينيات، عندما تداخلت المسؤوليات وامتزجت الأخطاء في دوامة عاصفة.
لم يكن ذلك مجرد تراكم للأحداث، بل كان انعكاسًا لصراع عميق بين أطراف متباينة، هناك من حاولوا فرض أفكارهم المسمومة بالقوة، متخذين من الدين عباءةً يخفون تحتها نواياهم الشريرة، مستغلين النصوص القرآنية لتحريف الحقائق وتبرير أفعال لا تمت للدين بصلة.
لقد عملوا على زرع الفتنة في كل ركن من أركان الوطن، يحوّلون الشوارع الآمنة إلى ساحات للموت والفوضى، متجاهلين تمامًا معنى الوطن وقيمته.
وفي الجهة الأخرى، كان هناك من اكتفوا بالصمت أو التردد، عاجزين عن اتخاذ موقف حاسم يضع مصلحة البلاد فوق كل اعتبار. هؤلاء، وإن لم يشاركوا في الجريمة، كانوا شركاء بالصمت. لقد فقدوا الشجاعة اللازمة، وافتقروا إلى الرؤية التي تمكنهم من التصدي للمؤامرات التي كانت تنسج خيوطها في الظلام. كان الصراع أكبر مما يبدو على السطح، الأمر لم يكن مجرد مواجهة مع تنظيمات متطرفة، بل معركة وجودية ضد محاولة منظمة لاقتلاع الهوية الوطنية من جذورها.
أنا المفتش إسماعيل تماووست، أتحدث اليوم من واقع خبرتي الميدانية، تلك الخبرة التي صُقلت بأحداثٍ جعلتني أقف في الصفوف الأمامية لمواجهة الخطر.
لم يكن دوري مقتصرًا على جمع الأدلة أو ملاحقة الجناة فحسب، بل كان جزءًا من صراع أكبر، صراع من أجل حماية هذا الوطن الذي أحببته ووهبت له حياتي. لقد عايشتُ عن قرب تلك اللحظات القاتمة، حين كانت كل خطوة تُشبه السير على حافة الهاوية.
كانت التحقيقات التي أشرفتُ عليها تكشف عن حقائق صادمة وخيوط متشابكة، وعن تنظيمات تحركها قوى خفية تعمل من الخارج والداخل لزعزعة استقرار البلاد. كانت مدعومة من أيادٍ خارجية ومنظمات شريرة هدفها زعزعة استقرار البلاد، ونشر الفوضى وإضعاف الوطن من الداخل، مستخدمة أدوات وأفكارًا متطرفة لتحقيق مآربها الخبيثة.
ومع ذلك، كنتُ أعرف أن الطريق إلى الحقيقة ليس مفروشًا بالورود، وأن المعركة لم تكن مجرد مطاردة أشخاص، بل معركة فكر وأيديولوجيا.
في تلك الفترة الحرجة، كنتُ أقف وجهًا لوجه مع هذا الواقع المظلم، أحلل تفاصيله وأقرأ ما بين السطور، كنتُ أعلم أن مهمتي لم تكن سهلة، لكنها كانت ضرورة ملحة.
فقد كان عليّ أن أستثمر كل مهاراتي كضابط محقق، لا لأجل إحراز انتصار شخصي، بل لإنقاذ وطن بأكمله من السقوط في هاوية لا قرار لها. كنتُ أتنقل بين القرى والمدن، ألاحق الظلال التي تزرع الفوضى، وأجمع الأدلة التي يمكن أن تعيد شيئًا من النظام المفقود.
كانت المعركة معقدة، لم تقتصر على مواجهة المجرمين فقط، بل كانت معركة ضد الفكر الذي يغذيهم. رأيتُ شبابًا تُغسل عقولهم، يُدفعون نحو طريق مظلم باسم الدين، وكان عليّ أن أتصرف بحكمة وسرعة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. كنتُ أدرك أن كل دقيقة تأخير تعني المزيد من الأرواح التي ستُزهق، والمزيد من العائلات التي ستفقد أحباءها.
تلك الفترة، بالنسبة لي، لم تكن مجرد اختبار لمهاراتي المهنية، بل كانت اختبارًا لإيماني بقيمتي كإنسان ومواطن.
حين أعود بذاكرتي إلى تلك الأيام، أجد نفسي ممتلئًا بمزيج من الفخر والحزن. لقد كانت تلك المعركة رمزًا للصمود أمام عاصفة حاولت اقتلاعنا من جذورنا. ومع ذلك، فإن التحديات التي واجهتها علّمتني أن القوة الحقيقية تكمن في الحكمة، وفي القدرة على الحفاظ على المبادئ مهما كانت الظروف.
في خضم تلك العواصف العاتية، لم أكن أرى نفسي مجرد محقق يتبع خيوط الجرائم، بل كنتُ جنديًا في معركة فكرية وإنسانية كبرى. كنتُ أعي جيدًا أن قوة العدو لم تكمن فقط في سلاحه أو خططه، بل في استغلاله لنقاط ضعفنا، في سعيه لتدمير وحدتنا وهويتنا. ولكنني، كإنسان عاشق للوطن قبل أن أكون مفتشًا، آمنت أن الحل لا يكمن في مجرد رد الفعل، بل في الفهم العميق لجذور المشكلة، والتصرف بحكمة وشجاعة.
تعلمتُ أن المواجهة ليست مجرد صدام مع العدو، بل هي معركة مع النفس أولاً، حيث يجب أن أكون قويًا أمام خوفي، صبورًا أمام ألمي، وحازمًا أمام كل محاولات زعزعة إيماني بقضية وطني.
لقد كانت تلك التجارب درسًا علّمني أن الحكمة هي أعظم سلاح، وأن الشجاعة لا تعني غياب الخوف، بل تعني الوقوف بثبات رغم وجوده. وفي كل خطوة خطوتها، كنتُ أرى الجزائر، قوية شامخة، تستحق منا أن نبذل كل ما نملك، لنحميها من كل عدو متربص.
كان من الواضح أن الأساليب التي اعتمدتها القوى التي تسعى لزعزعة استقرار البلدان العربية والإسلامية كانت مدروسة بعناية فائقة. لقد كانت خطة محكمة تهدف إلى خلق الفوضى والانقسام بين أبناء الشعب الواحد، ما يسهم بشكل غير مباشر في إشعال نار الفتن الداخلية. كان الهدف من وراء هذه الاستراتيجيات إحداث صراع داخلي، يتحول إلى حروب طائفية تؤدي إلى دمار المجتمعات وأسرها من الداخل. وهكذا، أصبح ما حدث في الجزائر في العشرية السوداء ليس مجرد صراع داخلي بين جماعات سياسية فحسب، بل كان بمثابة معركة مع قوى خفية كانت تدفع بالأمور إلى التفاقم، لتشعل الصراع، وتُقسّم الوطن إلى دويلات صغيرة تحت وطأة الإرهاب والتطرف.
هذه القوى، التي كانت تعمل خلف الستار، اتبعت سياسة استخباراتية تهدف إلى ضرب الثوابت الأساسية للمجتمع، بدءًا من الدولة نفسها، مرورًا بالشعب، وصولًا إلى أسس دينه وعقيدته.
كانت الحرب على الإسلام تحديدًا، وخاصة على مفاهيمه السامية، أحد الأهداف الرئيسية لتلك القوى التي أرادت التشويش على الوحدة الوطنية. كانت تسعى إلى خلق حالة من التشكيك في عقيدة الشعب، حتى يصبح الدين ذاته مصدرًا للفوضى والانقسام، بدلاً من أن يكون عامل وحدة وتماسك.
كل هذا يحدث في الوقت الذي كنا فيه نحن، كموظفين في جهاز الأمن، نواجه معركة غير مرئية على الأرض. كانت حياتنا مليئة بالتحديات اليومية، والأخطار التي كانت تحيط بنا من كل جانب. كان علينا، نحن كأفراد مخلصين لهذا الوطن، أن نواجه هذه الهجمة الشرسة، التي استهدفت ليس فقط أمننا، بل قيمنا ومعتقداتنا. لقد كانت حربًا معقدة، غير متكافئة، تتطلب منا أن نكون على مستوى عالٍ من الفهم واليقظة، وأن نعمل معًا كفريق واحد، متحدين ضد تهديدات الداخل والخارج.
وبالرغم من أن الوضع كان صعبًا، إلا أنني كنت على يقين أن السبب الرئيسي لتأخرنا في تحقيق نتائج فعالة لم يكن غياب الفهم أو التقنيات، بل كان يكمن في غياب الدعم المتبادل بيننا، نحن كزملاء في العمل.
كان لدينا تقنيات متطورة، وكفاءات مهنية عالية، ولكن ما كنا نفتقر إليه هو تلك الروح الجماعية التي كانت ستحفزنا على بذل المزيد من الجهد والعمل بتنسيق كامل.
رؤيتي لزملائي في العمل يتعاونون بحب واحترام، كان ذلك يعطيني شعورًا بالقوة والاطمئنان، لاننا نعلم جميعًا أن الوطن هو الهدف الأسمى، وأن كل واحد منا كان يشكل جزءًا من معركة كبرى لا بد أن ننتصر فيها.
كنا نؤمن أن النجاح في معركتنا ضد الإرهاب لا يتحقق فقط من خلال الأسلحة والتكتيك العسكري، بل من خلال الفهم العميق لمشاكلنا الداخلية والقدرة على التكيف مع التحديات المتجددة.
كانت التحديات كبيرة، ولكن الإرادة التي كانت تحركنا كانت أكبر. كان لدينا إيمان راسخ أن الهدف ليس فقط الدفاع عن الأرض، بل الحفاظ على قيمنا التي كانت على المحك.
أحيانًا، يبدو لي أن بعض المعوقات التي واجهناها كانت تتعلق بتكوين فرقنا بشكل غير مناسب، أو ربما كانت نتيجة لعدم الدعم الكافي من قبل السلطات العليا، لكنني كنت على يقين من شيء واحد: لا يمكن أن يكون لدينا أمل في النجاح دون تضافر جهود الجميع، دون التعاون، ودون أن نتحد في هدف واحد.
الإرهاب يمثل العدو الأوحد، وكنت مدركًا أن تفوقنا عليه ليس مرهونًا فقط بقوتنا العسكرية، بل بعزيمتنا وشجاعتنا في مواجهة هذا الخطر الداهم.
في كل خطوة، كنت أتأكد من أن فهماً عميقًا للواقع هو الأساس لتحقيق أي تقدم. كان علينا أن نتعلم من أخطائنا، وأن نتصدى لكل محاولات الفرقة والانقسام. كان الهدف الأسمى هو الحفاظ على وطننا، بكل ما يحمله من تاريخ وحضارة، من أي خطر قد يهدده. ولقد كانت هذه معركتنا الحقيقية، التي عشناها بكل تفاصيلها، والتي لم يكن أحد ليتمكن من فهمها إلا من كان في قلب الحدث.
يتبع...