508069

0

مذكرات شاهد على سنوات الجمر الحلقة 155

بقلم اسماعين تماووست 

إذا أخذنا في الاعتبار من جهة أخرى بعض المسؤولين الذين تواطؤوا، إما بسبب ضعف كفاءتهم أو جهلهم، والذين قدّموا، نتيجةً لضعفهم أو مصالحهم الشخصية، تسهيلات لارتكاب أفعال مشينة تستحق عقوبات شديدة، كأنها جرائم  ببساطة  قابلة للعفو.

تصرفاتهم تظهر تجاهلاً تامًا لرأي الشعب الذي ظل حائرًا أمام هذا التواطؤ،  ورغم أن العدالة قد تكون رحيمة في حكمها عليهم، فإن الضحايا الذين سقطوا  لن يغفروا لهم أبدًا، ولن ينسوا ما حدث.

الدماء التي أُريقت والأرواح التي أُزهقت ستظل تلاحقهم إلى الأبد، ولن تخفي وطأة ذنبهم في عيون أولئك الذين فقدوا حياتهم أو أحبائهم.

الجرائم الهمجية التي ارتكبوها لا يمكن تصورها، وقد طالت مجموعات سكانية كانت بالفعل في وضع ضعيف للغاية، مما جعلها تدفع ثمناً غاليًا من أرواحها.

إن الحكم على هذه الجرائم لن يكون مجرد حكم بشري يمكن أن يتجاوزه  الزمن، بل سيتعدى ذلك ليبلغ الحكم الالهي  العادل.

في تلك الفترة، كان هناك تهديد حقيقي ضد بلادنا من قبل المتمردين الذين سعوا إلى إضعاف الجزائر ودفعها نحو الفوضى المستدامة.

لكن  ذلك لم يتحقق بسبب صمود الشعب الجزائري وحبّه لوطنه،  لقد وقف أغلب أفراد شعبنا موقفًا مشرفًا أمام هذا التهديد، متشبثين بأرضهم ومبادئهم، وأدركوا أن هذا النوع من الفوضى كان يشكل خطرًا على مستقبلهم ومستقبل أجيالهم القادمة.

كانت تلك الأزمة بمثابة امتحان صعب للأمة الجزائرية، وقد اجتازته بفضل الروح الوطنية القوية التي دفعت الشعب للوقوف صفًا واحدًا ضد كل من كان يسعى إلى تهديد أمنه واستقراره.

وكان هؤلاء الذين تمسكوا بتلك المبادئ الوطنية قد اتخذوا من مسؤوليتهم  أداة لمقاومة هذا الشر، حيث ساروا جنبًا إلى جنب مع أولئك الذين كانوا يردّون بحزم على جميع من كانوا يرفعون راية العداء لوطنهم.

كان هذا هو التحدي الأبرز في تلك الحقبة: كيف يمكن لشعب مُتعب من سنوات من الظلم أن يجد القدرة على النهوض مرة أخرى لمواجهة الخطر الذي كان يتهدد هويته؟ لكن الإجابة كانت بسيطة، فقد كانت الإجابة في الإرادة الصلبة التي أظهرها الشعب الجزائري في مواجهة أعداء الأمة، والذين كانوا يسعون إلى دفعها إلى المجهول.

لقد كان هؤلاء الأعداء، من الداخل والخارج، لا يعبؤون بمصير الشعب  بقدر ما كانوا يهدفون إلى تمزيق نسيج البلاد وتفكيك أواصر الوحدة التي كانت تجمعها.

لكن، رغم أن الرياح كانت تعصف بالأمة، كانت هناك جذور عميقة لا يمكن قطعها، جذور مترسخة في هوية الشعب الجزائري، التي تشبعت بالحياة والأمل حتى في أحلك الظروف.

وفي هذه اللحظات، تمسك الجزائريون بحقهم في الحياة والكرامة، وكانوا مستعدين للموت دفاعًا عن بلادهم وحريتهم، رافضين أن يكونوا رهائن لمصالح الآخرين.

إن هذا الظلام الذي غشي الجزائر في تلك الأيام كان بمثابة اختبار صعب للإنسانية، ولكنه كشف عن المعنى الحقيقي للوطنية.

فالوطن لا يُقاس بحجم الأرض أو حدود الدولة، بل بالقيم التي يحافظ عليها شعبه، وبالروح التي يحملها أبناءه في قلوبهم.

وبالرغم من كل ما مرّ به الشعب الجزائري من مآسٍ، فإن الأمل لم ينطفئ أبدًا، لأنه يعلم أن النضال من أجل الحرية والكرامة هو نضال لا ينتهي.

قال تعالى في كتابه الكريم: "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ" (الرعد: 11)، حيث تُظهر هذه الآية العميقة أن التغيير يبدأ من داخل النفس، ومن الإرادة الصلبة للتغيير. فإذا أردنا أن ننقلب على الواقع المُر، يجب أن نبدأ بتغيير أنفسنا، وهذه الحقيقة التي عاشها الشعب الجزائري بكل تفاصليها، وأثبتها في مواجهة التحديات الصعبة التي مرت بها البلاد.

كما قال الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر: "لا يمكن للإنسان أن يكون حراً إذا لم يكن مستعدًا لدفع الثمن." هذه المقولة تلخص ببراعة نضال الشعب الجزائري، الذي كان مستعدًا لدفع الثمن الغالي من أجل الحرية والكرامة.

لقد انضممت إلى أولئك الذين يقاومون بلا هوادة، الذين يتصدون بكل شجاعة وإصرار ضد أولئك الذين يعلنون أنفسهم أعداءً للوطن، الذين كانت لديهم النية الحقيقية في دفعنا نحو المجهول، نحو حافة حرب داخلية قذرة، حرب لا تُميز بين الضحية والجلاد.

هؤلاء الذين اعتقدوا أنهم قادرون على دفعنا نحو الهاوية، متجاهلين تمامًا أن الشعب الجزائري، بمجاهديه الأبطال، لن يرضى إلا بالحرية والكرامة.

كانت تلك الحقبة، فترة الاستعمار، قد خلفت فينا جروحًا عميقة، لم تكن جروحًا كأي جروح. كانت جروحًا تمثل التحدي، تمثل النضال من أجل حياة أفضل.

كان جيلنا، جيل ما بعد الاستقلال، يواجه تحديات من نوع آخر، لكنها لم تكن أقل وطأة من تلك التي مر بها أجدادنا.

فمنذ اللحظة التي قررت فيها الانضمام إلى صفوف من يسعون للحفاظ على الوطن وحمايته، بدأت أفهم المعنى الحقيقي للوفاء والولاء.

كان الواجب تجاه الوطن، في تلك اللحظة، هو الشرف الأسمى، وهو تلك القيم التي نذرت حياتي للدفاع عنها،  لكن، ورغم أنني كنت أعتقد أن تضحياتنا كانت عظيمة في سبيل الوطن، فإنني لم أستطع إلا أن أعترف بتواضع أمام تلك التضحيات العظيمة التي قدمها المجاهدون والشهداء. لقد كانوا، بكل صدق، أكثر إخلاصًا منّا، كانوا أكثر شجاعة، أكثر إقدامًا،  كانت تضحياتهم أكبر من تضحياتنا.

ما يؤلمنا ويدمي قلوبنا  هؤلاء ، الذين خانوا الأرض والشعب،  "الحركى"  الذين كانوا جزءًا من أفظع خيانة شهدها هذا الوطن. 

ومع مرور الزمن، رأيت أشياء أخرى، أشياء لم أتوقعها. رأيت جيلًا جديدًا من الخونة، جيلًا من الأشخاص الذين كنت أصفهم بـ"القمامة البشرية". هؤلاء كانوا يعرفون تمامًا ما يفعلونه، كانوا يدركون مدى وحشيتهم وجرأتهم في ارتكاب الأفعال التي تشبه أفعال زمن بعيد، زمن كان فيه الإنسان أقرب إلى الحيوانية من إنسانيته.

هؤلاء الإرهابيون الذين زرعوا الرعب في الأرض، جعلوا من كل مكانٍ خطرًا، وكل يومٍ جحيمًا. كانوا يزرعون الخوف في قلوب الناس، في مجتمعنا، حتى أن بعضهم ماتوا من شدة الخوف، وبعضهم تعرضوا لصدمة نفسية لن يشفوا منها أبدًا. لقد تسببت أفعالهم في خسائر بشرية فادحة، في دماء أريقت بلا رحمة، وفي ممتلكات  انتهكت  دون مبرر.

لكن، في خضم كل ذلك، لم أستطع إلا أن أتساءل: كيف وصلنا إلى هذا الحد؟ كيف أصبحنا نرى هذه الوحشية بيننا؟ كيف أصبحت القيم التي ناضلنا من أجلها، و حملها أجدادنا من خلال مسار طويل مليء بالدماء، محطمة إلى هذا الحد؟ لقد كنت أبحث في قلوب هؤلاء عن تفسير وأدركت أن ما فعلوه كان أبعد من أن يكون مجرد تهديد للوطن.

كان تهديدًا للإنسانية نفسها، للكرامة البشرية التي فقدوا الأمل في استعادتها.

ولكن، رغم كل هذا، كان هناك دائمًا شيء في نفسي يرفض الاستسلام. رفضت أن أترك نفسي أسيرًا لهذا الارتباك، لذلك كانت حياتي كلها مكرسة لفهم هذه الحروب الداخلية التي تعصف بالوطن.

كانت مهمتي أن أحارب ليس فقط الأعداء الظاهرين، بل أولئك الذين كانوا يختبئون وراء الظلال، الذين كانوا يظنون أنهم قادرون على تدمير وطنٍ كان قد ناضل طويلًا من أجل حريته.

الآن، وأنا أروي هذه الأحداث، لا أستطيع إلا أن أشعر بالفخر لما فعلنا، قد تكون الحرب قد خلّفت وراءها أوجاعًا لا تعد ولا تحصى، لكنني أعرف تمامًا أن كل خطوة قمنا بها، وكل قرار اتخذناه، كان في سبيل الوطن، و تحقيق العدالة والحرية لأولئك الذين لا يزالون يعتقدون أن النضال من أجل الوطن هو الأسمى.

يتبع...

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services