484272

0

مذكرات شاهد على سنوات الجمر الحلقة 150

بقلم اسماعين تماووست 
في ممارستي اليومية كمفتش شرطة، أجد نفسي غارقًا في تعقيدات مجتمعنا، حيث تلتقي الأفكار وتتصادم، إحدى الظواهر التي تواجهني هي التباين الواضح بين فئات من المسلمين، حيث يُصدر بعضهم فتاوى صارمة دون تدبّر أو فهم عميق، ويعتبرون أن أي رأي مخالف هو خروج عن الدين.

هذه العقلية تُرسّخ رؤية ضيقة، تُغذّيها قراءات مبتورة للنصوص الدينية، وتجعل من الدين أداة إقصائية بدلًا من أن يكون منارة للرحمة والتآخي.

إن هذه النزعة إلى التطرف، التي تُركز على الشكليات وتغفل الجوهر، تخلق فجوة عميقة بين مفاهيم الدين الحقيقية وبين تطورات الحضارة الإنسانية،  فمن الخطأ الجسيم استخدام الآيات القرآنية خارج سياقاتها التاريخية والحياتية، وإلصاق معانٍ بها تخدم أجندات ضيقة دون الالتفات إلى شمولية الرسالة الإسلامية التي جاءت لصالح الإنسانية جمعاء.

ففي القرآن الكريم، يدعونا الله تعالى إلى التأمل في الكون وما يحتويه من نعم، فيقول: "وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُتَفَجِّرًا وَغَيْرَ مُتَفَجِّرٍ وَالنَّخْلَ وَالْزَّرْعَ مُتَفَجِّرًا وَغَيْرَ مُتَفَجِّرٍ وَأَشْجَارًا" (الأنعام: 141)، مما يبيّن أهمية الحفاظ على البيئة والنباتات.

ما يُثير اهتمامي في عملي، أني أرى في الغرب اهتمامًا كبيرًا بالبيئة وحماية الأرض، بينما نجد أن الإسلام سبقهم إلى هذا الفهم بآيات وأحاديث تدعو للحفاظ على التوازن البيئي. ومع ذلك، فشل البعض منا في ترجمة هذه القيم عمليًا، واكتفوا بشعارات لا تنعكس على سلوكهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ جَميلٌ يُحِبُّ الجَمالَ، ويُحِبُّ أنْ يَرَى أثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ"، وهو حديث يُظهر كيف أن الإسلام لا يُركز فقط على الروحانيات بل على الجمال الذي ينعكس في الطبيعة أيضًا.

إن الصراع بين الخير والشر هو جوهر الإسلام، لكننا أحيانًا نتجاهل هذا التوازن في حياتنا اليومية، ونميل إلى التطرف الذي يُعطّل القدرة على التواصل والتفاهم مع الآخرين.

التطرف ليس مجرد فكر منحرف، بل هو انقطاع عن المنطق وعن جوهر الدين الذي يدعو إلى العلم والتفكّر. والقرآن الكريم يبدأ بـ"اقرأ"، دعوة صريحة للمعرفة التي هي السبيل الوحيد لتحقيق حياة متوازنة وعادلة.

إن غياب الفهم الحقيقي للإسلام يولّد مشاكل عميقة بين أفراد المجتمع، ويفتح المجال لصراعات بين الأمم. ومن هنا، فإن المعرفة ليست خيارًا، بل ضرورة.

كشرطي، أرى يوميًا أمثلة تظهر كيف يمكن للجهل أن يُحوّل الناس إلى أدوات في يد المتطرفين، وكيف يؤدي نقص الفهم إلى تفكك نسيج المجتمع.

الإسلام ليس فقط مجموعة من الأحكام، بل هو نظام حياة متكامل، ومن هنا، يجب أن ننظر إليه من منظور شامل، يأخذ في الاعتبار القيم الإنسانية والتطورات الحضارية. وحدها هذه النظرة التي تجمع بين الماضي والحاضر يمكنها أن تُعيد للأمة توازنها، وتفتح الطريق أمام بناء مجتمع متكافل، يسوده السلام والعدل.

في أعماق التاريخ، حيث تتداخل أصوات المعاناة والألم، تبرز فكرة التطرف كعامل رئيسي في تشويه صورة الإسلام في العيون المعاصرة. كان هؤلاء الذين انجرفوا وراء أفكار مشوهة وتفسيرات منحرفة يظنون أن ما يقومون به هو في خدمة الدين، لكنهم، في واقع الأمر، كانوا يبتعدون عن جوهر الرسالة الإلهية. هؤلاء الذين اختاروا أن يغلقوا عقولهم أمام نور الفهم، وسمحوا لتفسيرات ضيقة أن تسيطر على قلوبهم، كانوا ضحايا لسراب زائف يقودهم إلى الانحراف.

إن التطرف الذي يغزو النفوس ويغلق الأفق لا يعبر عن الدين الحقيقي، بل هو مظهر من مظاهر الجهل والضلال. هؤلاء الذين وقعوا في براثن الفكر المتشدد كانوا يشوهون المعنى الحقيقي للإسلام، الذي يرفض العنف والتخريب، وفي نظرهم، كانت الجريمة جزءًا من الكفاح، لكنهم كانوا يغفلون أن الإسلام يدعو إلى السلام والعدل في جميع مناحي الحياة. فالتطرف لم يكن إلا إغراقًا في الظلام، ومحاربة للإنسانية في أسمى معانيها.

في معركة التطرف، يظل الإسلام كدين للحياة، والاعتدال، والرحمة. لكن تلك العقول التي غرقت في فكر متشدد كانت تعتقد أنها تحقق العدالة، بينما هي تهدم كل ما هو إنساني، وتقوض كل أمل في التعايش السلمي. ورغم ذلك، يظل التاريخ شاهدًا على أن هذه الحقائق لن تُمحى، وأن الأجيال القادمة ستتعلم من أخطاء الماضي.

وفي الوقت الذي يُشوه فيه فهم الإسلام بواسطة هؤلاء المتطرفين، لا بد من العودة إلى جوهر الدين، الذي يدمج بين الفكر العقلاني والروحانية العميقة. يجب أن نسترجع القيم الحقيقية للإسلام: العدل، والرحمة، والاعتدال. فكلما ابتعدنا عن تلك القيم، كلما انغمسنا أكثر في الفوضى والدمار، وعُرّضنا أنفسنا لمخاطر السقوط في هاوية الجهل.

إن طريق الإصلاح يبدأ من تفكير عقلاني ونقدي، يعيد النظر في كل ما يمكن أن يعزز القيم الإنسانية في الإسلام، بعيدًا عن تطرف الفكر وإغفال مبادئ التسامح. علينا أن نعلم أن الدين ليس مجرد طقوس وشعائر، بل هو سلوك ومعاملة، يُعبّر عنه في أفعالنا وسلوكياتنا اليومية.

وبينما نعيش في عصر يشهد تحديات متزايدة، يتطلب منا أن نكون أكثر وعيًا بما يتطلبه الإسلام من تفكير عقلاني، وبحث مستمر عن الحلول التي تناسب احتياجات العصر دون التفريط في الثوابت. ولا شك أن الحل يكمن في العودة إلى الدين بمفهومه الصحيح، الذي يعكس جوهر السلام والعدالة، ويعمل على ترسيخ قيم التسامح، التي هي جزء من صلب هذه الرسالة السماوية.

وبذلك، يصبح التغيير ضرورة ملحة، يعبر عن تحول في التفكير والإدراك، نحو فهم أعمق للإسلام الذي يتناغم مع الواقع، دون أن يتنصل من قيمه الراسخة. الإسلام هو الحل إذا تم فهمه وتطبيقه بشكل سليم، لا في الانغلاق على الذات، بل في الانفتاح على الإنسانية جمعاء، مما يسهم في التقدم والاستقرار، ويحقق خير البشرية في جميع أرجاء العالم...

يتبع.. 

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services