7214
0
مذكرات شاهد على سنوات الجمر الحلقة 148

بقلم اسماعين تماووست
كنتُ دومًا أؤمن بأن رسالتي هي حماية الناس من عبث الإرهاب الذي يهدد استقرارهم وأمانهم، لم تكن مهمتي مجرد ملاحقة المجرمين، بل كانت أعمق من ذلك بكثير، سعيت لبناء جسرٍ بين الحقيقة والعدالة، جسرٍ يعبر عليه المظلوم ليجد ملاذًا، ويقف عليه الظالم ليحاسَب.
دائمًا أقول لنفسي: "الحكمة هي السلاح الأقوى في معركة العقل ضد الجهل." ، وبهذا الإيمان، تعاملتُ مع كل موقف، مُدركًا أن التحديات ليست إلا اختبارات تُصقل بها الإرادة، في تلك اللحظات العصيبة التي مررنا بها، كنتُ أرى أن كل خطوة أقدم عليها ليست مجرد جزء من واجب، بل كانت جزءًا من محاولة جادة لتحرير الناس من آلامهم، ولو بقدرٍ قليل.
في تلك الأيام، كنا نعيش لحظات تختلط فيها الحقيقة بالخداع، ولطالما استوقفني كيف أن البعض يبيع ضميره بثمن بخس، بينما هناك من يضحي بروحه من أجل فكرة أو وطن.
كان عليَّ أن أكون يقظًا، فالمعلومة هي سلاح ذو حدين، قد تنقذ أرواحًا أو تؤدي إلى كارثة، وكان دربي لا يخلو من التحديات والمخاطر، إذ إنك لا تستطيع أن تحصل على الحقيقة بسهولة، وفي عالمنا هذا، حيث تكون الحقيقة مخفية وراء الجدران، يصبح المال أحيانًا وسيلة تُفضي إلى معرفة ما كان خافيًا.
لقد أدركتُ منذ البداية أنني لا أستطيع السير وحدي في هذا الطريق، لتحقيق العدالة، كان عليّ أحيانًا أن أستخدم المال، الذي لم يكن غايتي بل وسيلتي، فالطريقة التي اتبعتها تعتمد على فهم نفوس من حولي، كان المال في تلك الفترة بمثابة المفتاح الذي يفتح لي أبوابًا مغلقة، لكنه لم يكن يحل كل شيء، فقد كانت بعض المعلومات تتطلب أكثر من مجرد وعد بالمال.
كان عليَّ أن أكون حذرًا في اختيار الوقت المناسب والطريقة الأنسب للحصول على ما أحتاج إليه، وهكذا، استخدمت ما أملك من مال، بما في ذلك بيع قطعة أرض كانت إرثًا من أجدادي في منطقة "رغاية"، التي كانت تمثل جزءًا من تاريخي العائلي.
كان القرار صعبًا، لكن في تلك اللحظات الصعبة، كنت أعرف أن الهدف يستحق هذه التضحية، لم يكن المال هو الهدف، بل وسيلة لاستمرار عملي، لضمان وصولي إلى الحقيقة التي كنت أبحث عنها.
لم تكن هذه الطريقة التي اتخذتها سعيًا وراء المال، بل مسارًا ذكيًا ومبنيًا على الفهم العميق لاحتياجات من حولي، فأموالًا استخدمتها لتفتح لي الأبواب المغلقة، ولتمنحني الفرصة للحصول على المعلومة التي قد تشكل الفارق بين النجاح والفشل.
كل معلومة أحصل عليها كانت بمثابة قطعة في لعبة شطرنج كبرى، الأجزاء تتجمع ببطىء، وفي كل مرة أضع قطعة جديدة، أشعر بأنني أقترب من النصر على قوى الظلام، ومع ذلك، كنتُ أدرك أن الظلام لا ينتهي، وأنه كما يقول المثل: "لا ينكسر الليل إلا حين يولد النهار."
فكل خطوة نحو النجاح كانت تتطلب التضحية، والمثابرة، واحترافية لا متناهية، ومع كل معلومة جديدة كنت أقترب أكثر فأكثر من النهاية المرجوة.
المال وسيلة وليس غاية، وكان عليَّ أن أقدم الحوافز في الوقت المناسب، كانت المعلومات تتدفق إليّ، ومعها كانت الإجابات التي كنت أبحث عنها تتضح أمامي شيئًا فشيئًا، مع كل خطوة، كنت أقترب من كشف الحقيقة، وكانت التضحيات التي قدمتها تتلاشى في وجه النجاح الذي كنت أنشده.
تلك المعلومات التي حصلت عليها هي الدافع لمواصلة مسيرتي، لأنها لم تكن مجرد تفاصيل صغيرة، بل كانت خطوات نحو تحقيق العدالة في عالم كان يفتقد لها.
في خضم عملي كمفتش شرطة خلال تلك الحقبة الصعبة، كانت مكافحة الإرهاب بطريقتين،: فريق يسعى إلى استئصال شأفة الإرهاب بلا رحمة، وآخر يراهن على تقديم الإرهابيين للعدالة، معتقدًا بإمكانية إصلاحهم، أما أنا، فقد رأيت أن العدالة هي المسار الأجدى، لكنها عدالة لا تعرف الضعف ولا التهاون مع من سفكوا الدماء وأهلكوا الحرث والنسل.
لم يكن التعامل مع الإرهاب فقط قضية مواجهة مادية، بل كانت معركة فكرية ونفسية أيضًا، كنت أدرك أن هؤلاء الإرهابيين لم يسلكوا هذا الطريق من فراغ؛ لقد كانوا نتيجة جهل متفشٍّ، وغرس لأفكار مظلمة في عقولهم، كان عليّ أن أفهم كيف يفكرون لأسبقهم بخطوة، لذلك سعيت وراء الحقيقة مهما كانت قاسية.
كان الإرهابيون الذين لاحقتهم مختلفين تمامًا عن البشر الطبيعيين، لقد فقدوا إنسانيتهم، وباتوا أقرب إلى الحيوانات التي لا تعرف سوى الغريزة العمياء، يقول الله تعالى: "أُوْلَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا" (الفرقان: 44)، هؤلاء لم يظلموا الآخرين فقط، بل ظلموا أنفسهم قبل ذلك، ولم يتركوا خلفهم سوى الخراب والدمار.
ومع كل ذلك، كان هناك سؤال يؤرقني دائمًا: هل يمكن لأي شيء أن يعيدهم إلى رشدهم؟ هل يكفي القضاء على الأفعال دون معالجة الأفكار؟ وجدت نفسي أتساءل مرارًا إن كان بعضهم ضحايا قبل أن يصبحوا جناة، لكن الإجابة لم تكن يومًا واضحة.
كان عليّ أن أوازن بين قسوة الواقع ومتطلبات المهنة، وأن أتخذ قرارات صعبة في كل خطوة، لكن، ورغم كل ما بذلته من جهود، لم أكن أعلم أن ما كان ينتظرني خلف الستار سيغير كل شيء.
كنت في حالة دهشة من هؤلاء الذين لا يحملون أي مبدأ أو وازع إنساني، كانت أعينهم مشبعة بالغضب، وأيديهم غارقة في الدماء، لا يعرفون غير القتل والدمار، كانوا يدعون العدالة، لكنهم في الواقع لا يختلفون عن أدوات الشيطان، خونة للوطن والإنسانية، كانت جريمتهم أكبر من أن توصف بالكلمات، فقد كانوا يعتقدون أنهم يحققون ثورة، بينما هم في الحقيقة يمارسون أبشع أنواع الخيانة.
في مواجهة هؤلاء الإرهابيين، لم يكن هناك خيار سوى الدفاع عن وطننا بكل ما أوتينا من قوة، واجبنا أن نتصدى لهذا الشر، وأن نواصل المقاومة مهما كانت التحديات، لأن حرية وطننا كانت تستحق كل تضحياتنا.
فالمعركة صعبة، لأنها كانت معركة البقاء، والعدالة التي لا يمكن أن تغفر لأي كان أن يعيث في الأرض فسادًا، لكن المعركة لم تكن تقتصر فقط على مواجهة الإرهاب في معركة سلاح، بل كانت تتطلب منا شجاعة في اتخاذ قرارات صعبة.
كانت تلك الأموال تُنفق بحذر، من أجل بناء شبكة من المعلومات التي كانت أساسية في تعقب الإرهابيين، وتحديد تحركاتهم، وفضح مخططاتهم قبل أن يحققوا أهدافهم، ولم يكن هذا المال أداة للتكسب الشخصي، بل كان وسيلة ضرورية لمحاربة أولئك الذين استخدموا المال لشراء الأسلحة ودمار الوطن.
الإرهابيون، كانوا يدفعون بالأموال للحصول على الأسلحة، لقتل الأبرياء، لتمويل الفوضى. كانت الأموال بالنسبة لهم أداة لبناء معسكرات الموت، وتوسيع دائرة الخراب، بينما كان المال بالنسبة لنا أداة لبناء مستقبل أفضل لشعبنا، استخدمته بحذر وذكاء، متأكدًا أن كل دينار ينفق في هذه المعركة كان يستحق التضحية.
وفي هذا السياق، كان كل قرار أتخذه يتمثل في حماية الإنسانية، الحفاظ على حياة الأبرياء، واستعادة الأمن في كل زاوية من وطننا.
فالمال كان وسيلة واحدة من الوسائل، ولكنه لم يكن سوى جزء من المعركة الكبيرة، كانت الإرادة، والذكاء، والشجاعة هي ما جعلنا نواصل التقدم.
كلما كانت الأيام تمضي، كنت أكتشف أن المواجهة مع الإرهاب تتطلب أكثر من القوة، تتطلب استراتيجية ذكية، واستغلال كل فرصة لصالح الوطن.
فالإرهابيون لا يعتمدون فقط على الأسلحة، بل على قدرتهم على نشر الفوضى والخوف، وكان علينا أن نكون أذكى، وأن نستفيد من كل لحظة في توجيه ضربات قاصمة لهم.
كنت أعمل على تأمين المصادر والمعلومات التي تقودنا إلى مخابئهم، إلى مخططاتهم المظلمة، وكان المال الذي أنفقته هو المفتاح الذي أتاح لي أن أكون في المكان الصحيح في الوقت المناسب، لم يكن المال غاية في حد ذاته، بل كان وسيلة لتحقيق العدالة.
استخدمنا المال للحياة، للبقاء على قيد الأمل، كان ذلك الفرق الجوهري بيننا وبين الارهابيين: هم يبيعون أرواح الأبرياء، ونحن نكافح لاستعادتها.
يتبع..