193186
0
مذكرات شاهد على سنوات الجمر الحلقة 147

بقلم اسماعين تماووست
في ظل غياب الاحترام وسيادة الفوضى، تفشت الأنانية، وتم تجاهل القيم الإنسانية النبيلة كالنزاهة، والعدل.
كانت التهديدات التي تعرضنا لها من قِبَل أعداء لا يرحمون بمثابة طوفان جارف، يجرف معه كل أمل في استعادة النظام.
لقد كانت جرائمهم المستمرة جرحًا غائرًا في قلب الأمة، كطعنة جديدة، تعمّق ألم شعبنا وتزيده نزيفًا.
في أعماق الظلام، دائمًا ما ينبثق بصيص نور، وحيثما يوجد الجهل، تنمو بذور الحكمة. ولكن، بين هذه المعادلة الطبيعية، تبرز معضلة الجهل المدمر، تلك القوة الخفية التي كثيرًا ما تتغلغل في عقول البشر، تُربك خطواتهم، وتُعيدهم إلى الوراء.
البشرية، رغم عظمتها، كانت وما زالت أسيرة لهذا الجهل. إذ أن هذا العدو غير المرئي لا يُحارَب بالسيوف ولا بالأسلحة، بل بالعقل الناضج والإيمان الراسخ بقدرة الإنسان على تخطي قيود الضعف التي يكبل بها نفسه.
لطالما آمنتُ بأن الكرامة الإنسانية هي أسمى ما يمكن أن يمتلكه المرء. إنها ليست مجرد كلمة تُقال، بل حالة وجودية تضع صاحبها فوق مستوى الأحداث، تُجنّبه السقوط في هاوية الأنانية والخيانة. ففي أوقات الأزمات، كما التي مرت بها بلادي، لم يكن مجرد الصمود كافيًا، بل كان لزامًا علينا أن نُجدد ميثاقًا داخليًا مع أنفسنا، ميثاقًا يضع الكرامة فوق الحياة، والنزاهة فوق كل المغريات.
لقد أدركتُ أن الشجاعة لا تتجلى في غياب الخوف، بل في قدرتنا على التصرف رغم وجوده.
هذه الشجاعة هي النور الذي يبدد الظلام، والإيمان الذي يجعلنا نرى الضوء في نهاية النفق، مهما اشتدت الصعاب.
الكرامة ليست شرفًا يُمنح أو يُكتسب بالوراثة، بل هي سلاح يُصقل بالتجارب، وقوة تُولد من رحم الألم.
وهنا، تكمن المفارقة؛ إذ أن الأوقات العصيبة وحدها هي التي تكشف المعدن الحقيقي للإنسان، وتُظهر الفرق بين النفوس التي تتوهج كالشمس، وتلك التي تنطفئ كشمعة بهبوب الريح.
لكن الواقع الذي عشناه كان دائمًا يحمل تناقضاته الخاصة. في اللحظات الأولى للهجوم، كنتُ أظن أن الجميع سيهبّ للدفاع عن الأرض والعرض، ولكن مع أول شرارة، ظهر الضعف الكامن في البعض، والأنانية التي كنا نظن أنها زالت، عادت لتطغى على المشهد، رأيتُ بأم عيني كيف أن من كنا نعتبرهم رفقاء الطريق، تحولوا إلى عبىءٍ ثقيلٍ على الأمة، وكيف أن الجبناء اختبأوا خلف أعذار واهية، تاركين الميدان خاليًا لمن يملكون الشجاعة الحقيقية.
رغم ذلك، كان هناك من واجهوا الخطر بروحٍ لا تُقهر، رجال ونساء حملوا أرواحهم على أكفهم، ووقفوا كالجدران الصلبة في وجه العواصف. هؤلاء لم يكونوا أبطالًا خارقين، بل كانوا بشرًا عاديين، مثلنا تمامًا، ولكن الفرق الوحيد كان في اختياراتهم. لقد اختاروا الكرامة، حتى ولو كان الثمن حياتهم، وأدركوا أن التضحية ليست ضعفًا، بل هي القوة الحقيقية التي تجعلنا نعيش خالدين في ذاكرة الأجيال.
في تلك اللحظات، تعلمتُ أن الكرامة هي المعركة الأهم التي يجب أن نخوضها. ليست معركة ضد عدو خارجي فحسب، بل ضد أنفسنا أيضًا، ضد كل لحظة ضعف تدعونا للاستسلام، وكل صوت داخلي يُشكك في قدرتنا على الصمود.
إن الشجاعة، كما أدركتُ، ليست في مواجهة العدو وحده، بل في أن تظل وفيًا لمبادئك، حتى عندما تكون كل الظروف ضدك. لقد كانت الأزمة التي عشناها درسًا قاسيًا، ولكنه درسٌ علّمنا أن الكرامة هي الأمل، والشجاعة هي السبيل، والإيمان بالوطن هو الطريق الوحيد نحو النجاة...
كان الإرهاب الدموي يفتك ببلادنا، لا يرحم أرواح الأبرياء، ولا يتوانى عن انتهاك حرمات النساء والرجال. آلاف الأرواح البريئة سقطت في ذلك الزمن المظلم، وضاعت معها كرامة الإنسان، التي كانت أثمن ما يملك. ما حدث كان أشبه بطعنة غادرة في قلب أمتنا، خيانة صريحة لكل معاني الشرف والإنسانية، وكأن المأساة قد وُلدت لتلتهم النور في أعماقنا.
لقد كانت الخيانة عارًا يلاحق كل من تورطوا فيها، وعقبة تقف في طريق العدالة والإنصاف. ومع ذلك، كنت دائمًا أؤمن بأن الغفران، رغم صعوبته، هو القوة الوحيدة القادرة على تخفيف الألم النفسي والمعنوي الذي كان يعانيه الكثيرون من ضحايا تلك المرحلة. الغفران ليس نسيانًا، بل هو وسيلة لشفاء الجراح وإعادة بناء النفوس التي كانت تمزقت بفعل الإرهاب.
بالطبع، لم يكن جميع من تورطوا في هذه الفظائع أحرارًا في قراراتهم؛ إذ أن البعض أُجبروا تحت تهديد السلاح والابتزاز على المساهمة في أعمال لا تتوافق مع مبادئهم. لكن هناك آخرون، للأسف، اختاروا الخيانة عن طيب خاطر، وتحولوا إلى أدوات للخراب والدمار. هؤلاء فقدوا أي إحساس بالعار أو الكرامة، وجعلوا من أنفسهم جزءًا من آلة الإرهاب التي أحرقت الأخضر واليابس.
من الناحية القانونية والوطنية، كانت تصرفات هؤلاء الخونة وصمة عار لا يمكن محوها بسهولة. فقد خضع العديد منهم لمساءلة قانونية صارمة، وحُكم على أفعالهم بأنها خيانة عظمى للوطن. كانت هذه الخيانة تماثل، في بشاعتها، تلك الجرائم التي ارتُكبت أثناء حرب الاستقلال، حين تعاون البعض مع المستعمر ضد أبناء جلدتهم.
لقد سقط الكثيرون في فخ الجهل أو الطمع، فاستُبدلت القيم النبيلة بأخرى مشوهة، وأصبح الخير يُنظر إليه على أنه ضعف، والشر سبيلًا للنجاة. هؤلاء الذين انحرفوا عن الطريق كانوا يعيشون في ظلال معتمة من التاريخ، ظلال كانت ستبقى شاهدة على فظائعهم إلى الأبد.
ولكن، وسط هذا الظلام، كان هناك شعاع من الأمل. رجال ونساء من جميع الأعمار والطبقات وقفوا بشجاعة أمام هذا الطوفان المدمر. لقد كانوا نماذج للإخلاص والتضحية، أشخاصًا أدركوا أن الدفاع عن الوطن ليس مجرد واجب، بل شرف لا يمكن التنازل عنه.
أما نحن، رجال الشرطة والأجهزة الأمنية، فقد كنا في الخطوط الأمامية لهذه المعركة. لقد كان واجبنا يتجاوز مجرد القبض على المجرمين؛ كنا نُقاتل من أجل حفظ كرامة الإنسان، من أجل أن تبقى الحياة ممكنة وسط كل هذا الدمار. وفي كل يوم، كنا نواجه خطرًا جديدًا، لكننا كنا نحمل في قلوبنا إيمانًا عظيمًا بأن النور سينتصر، وأن هذه الأرض التي ضحى من أجلها أجدادنا لن تنحني أبدًا أمام الظلم أو الإرهاب.
في نهاية المطاف، ستظل هذه القصة محفورة في ذاكرتنا، درسًا قاسيًا ولكنه مليء بالعبر. لقد تعلمنا أن الكرامة الإنسانية لا يمكن كسرها بسهولة، وأن التضحية هي أعظم أشكال الشجاعة.
....24...يتبع....
نوفمبر 2024، الصفحة 25
قاتلنا بإيمان عميق و بأن النصر، حليف من يملك الإيمان الراسخ بالحقّ وبالقدرة الإلهية على تحقيق الموعود. كنا موقنين أن الأقدار قد خطّت طريقنا، وأننا مهما بلغت المصاعب، لن نخرج منه إلا وقد حققنا ما أراد الله لنا. تلك المكافأة الإلهية التي كانت تتجلى في كل خطوة من خطواتنا، في كل صمود، وفي كل انتصار صغير، كانت تمدّني بالقوة لمواجهة أولئك الذين تخلوا عن إنسانيتهم، أولئك الذين كانوا أقرب إلى الشياطين في أفعالهم وأفكارهم.
لقد أدركت منذ البداية أن المعركة ليست فقط معركة القوة البدنية، بل هي معركة العقول والإرادة. وكنت أعلم جيدًا أن المال، برغم كونه وسيلة، يمكن أن يكون مفتاحًا لكثير من الأبواب المغلقة. كما يقول المثل: "المال وسيلة، ولكن ليست غاية، فمن أحسن استخدامه فقد امتلك القوة." ومن هذا المنطلق، كنت أحرص على أن أستخدم الموارد التي أملكها بحكمة وحنكة، حيث كان المال بالنسبة لي أشبه بالماء الذي يسقي جذور الأشجار ليُبقيها حية في مواجهة الجفاف.
في تعاملي مع مُخبريّ، كنت أُظهر لهم ليس فقط أنني أقدّر ما يقدمونه، بل أنني أعتبرهم شركاء في المعركة. كانوا ينقلون لي معلومات ثمينة، وكانوا بمثابة العيون التي ترقب، والآذان التي تسمع ما لا أستطيع الوصول إليه. مقابل هذه الخدمات الحيوية، كنت أقدم لهم الدعم الذي يستحقونه، سواء كان مادياً أم معنوياً.
لم أكن فقط أعطيهم المال، بل كنت أعطيه بلمسة إنسانية، تجعلهم يشعرون بقيمتهم ودورهم العظيم في هذه القضية. أحياناً، كنت أمد يدي لهم بالمال وأقول: "هذا من أجل الوطن، من أجل الأمل، من أجل مستقبل أفضل لنا جميعًا." كنت أنظر في أعينهم نظرة تحمل الثقة، وتقول دون كلمات: "نحن معًا في هذه المعركة، ولن نترك أحدًا يسقط."
لقد كان المال بالنسبة لهم أكثر من مجرد أداة للشراء. كان وسيلة لتحسين حياتهم، لشراء ملابس لأطفالهم، أو طعام يسد رمقهم، أو ربما مجرد وسيلة لتذكيرهم بأنهم ليسوا وحدهم في هذا الطريق الصعب. كنت أحرص أيضًا على تقديم المساعدة بطريقة تحفظ كرامتهم، أحيانًا بعبارات تشجيعية، وأحيانًا بإيماءات بسيطة لكنها تحمل معاني كبيرة.
وقد تعلمت من خلال هذه التجربة أن المال، كما وصفه الله في القرآن الكريم، "وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ" (سبأ: 39). فكل ما كنت أقدمه، كنت أراه يعود إليّ بأضعاف مضاعفة، ليس بالمال ذاته، بل بثمار الوفاء والإخلاص التي كنت أحصدها من هؤلاء الرجال.
علاقتي معهم لم تكن علاقة قائمة على تبادل المصالح فقط. كنت أسعى لأن أجعلهم يشعرون بأنهم جزء من قضية أكبر، قضية وطنية تتجاوز الأفراد والمصالح الشخصية. أحياناً، كنت أساعدهم في حل مشكلاتهم الشخصية، كأن أبحث لهم عن وظيفة ثابتة تؤمّن لهم ولأسرهم حياة كريمة، أو أتدخل لتسهيل أمورهم اليومية التي كانت تبدو مستحيلة في ظل الظروف القاسية.
أما المعلومات التي كانوا يزودونني بها، فكانت دائماً تُقدَّم شفهياً، حفاظاً على السرية وحمايةً لهم. كنت أقول لهم دائمًا: "الكلمة التي تُقال تذهب مع الريح، أما المكتوبة فتترك أثرًا قد يكون قاتلًا." وكنت أرى في أعينهم الفهم العميق لأهمية هذا المبدأ، لأنهم كانوا يدركون أن وقوع معلومة خاطئة في الأيدي الخطأ قد يؤدي إلى كارثة.
ما زلت أذكر أحدهم، وقد بدا عليه التعب والإرهاق، جاءني ذات مساء وقال: "يا سيدي، لا أملك إلا كرامتي، ولن أخونها أبدًا." في تلك اللحظة، أدركت أن ما أفعله لم يكن فقط مساعدة أو دعمًا، بل كان إحياءً لمعنى الكرامة في نفوس هؤلاء الرجال.
في النهاية، ما تعلمته من هذه التجربة هو أن التعامل مع الناس يحتاج إلى حكمة وذكاء، وأن المال، إذا استُخدم بشكل صحيح، يمكن أن يكون وسيلة لتحقيق أهداف سامية ونبيلة. ومع كل نجاح صغير كنت أحققه بفضلهم، كنت أرفع يدي إلى السماء وأقول: "الحمد لله الذي وفقنا لما فيه خير وطننن.
.....يتبع