بقلم اسماعين تماووست
خلال اثنين وعشرين شهرًا، خلال فترة التحقيق في قضية الهجوم على أكاديمية الشرطة الصومعة بولاية البليدة، كنت أعمل كمفتش للشرطة ورئيس مكتب المعلومات في الأمن ببلدية بو فارك، لقد كانت تلك فترة مليئة بالصعوبات، ولم يكن المجال يسمح لنا بالخطأ.
لم يكن الوقت يسمح لنا بالتراجع، فكل ثانية تمر كانت تقربنا خطوة إضافية نحو الحقيقة المرة، في تلك الأيام التي لم يكن فيها للفوضى مكان إلا في عقولنا، تم تنظيم جميع ضباط الشرطة في ولاية البليدة في مجموعات صغيرة تضم من ثلاثة إلى أربعة عناصر، كانت مهمتنا واضحة: البحث عن الجناة، وملاحقة أي خيوط قد توصلنا إليهم.
وبصفتي رئيس مكتب المعلومات، كان من الطبيعي أن أكون على اطلاع بكافة التفاصيل، ولكنني أدركت أيضًا أنني بحاجة إلى استخدام كل ما في وسعي من علاقات ومعارف للوصول إلى نتائج ملموسة، ففي تلك الأيام العصيبة، حيث كانت القرى والمدن تغرق في بحر من الإرهاب والعنف، قمت بترتيب الأمور مع أربعة مسؤولين من شركات عامة مختلفة في المنطقة، كان هدفنا الأساسي هو ضمان ألا نضيع الوقت في البحث عن مكان لتناول الطعام، بل نواصل البحث عن أدلة تساعدنا في تحريك القضية.
وعلى الرغم من جميع التحديات، كان كل من هؤلاء المسؤولين يبدون احترامًا كبيرًا لمهمتنا، وقبلوا اقتراحي وكانوا على استعداد تام لخدمة البلد، وهو ما زاد في عزيمتنا جميعًا.
لكن، لم يكن كل شيء يسير على النحو الذي خططنا له، بينما كان زملائي يواصلون العمل في الميدان، كنا نلتقي في منزلي ببن طلحة، براقي تلك المنطقة التي كانت تئن تحت وطأة سنوات العنف، كانت الأرض هناك تحمل جراحها، وكان الليل يخبئ في طياته المزيد من الأسرار.
ورغم الصمت الذي يحيط بنا، كانت هناك دومًا علامات تدل على أن كل شيء في هذه الأرض يتنفس ألمًا، كنت أستشعر ذلك كل ليلة، عندما نخرج في منتصف الليل لنستكشف مواقع جديدة على أمل أن نجد دليلًا أو خيطًا قد يساعدنا في الوصول إلى الحقيقة.
لقد كانت القرى في تلك الأيام أشبه بجروح مفتوحة، يتسرب منها الألم والموت، والدتي، التي فقدت زوجها المجاهد، والدي الذي هو مصدر فخري وقوتي، كانت ترى في رجال الشرطة، الذين يرتدون القشابية البنية، صورة للمجاهدين الذين عاشت معهم في سنوات الثورة، كانت ترى فيهم رجالًا يحاربون من أجل بلدها، حتى وإن اختلفت الحرب.
كانت تجلس مع زملائي وتعد لهم الطعام، وتقدم لهم القهوة، لكن تلك الوجبات لم تكن مجرد طعام. كانت بمثابة ملجأ لهم، أملًا، وتذكيرًا لهم بأنهم يقاتلون ليس من أجل وظيفة، بل من أجل وطن.
كانوا يسمعون قصصًا عن المجاهدين، عن زوجها، عن تضحيات رجال الثورة، وكان ذلك يعطيهم روحًا جديدة في قلب الليل المظلم، كنت أسمع حديث والدتي، وأفكر في المعركة التي أخوضها، لم أكن فقط في سعيٍ وراء الجناة، بل كنت في سعيٍ أكبر نحو الحفاظ على هذا الأمل في المستقبل.
كنت أفكر في بن طلحة، في أهلها الذين عانوا وذاقوا مرارة العيش في ظل الإرهاب، و أرى في عيون أصدقائي وزملائي نفس الإصرار، نفس العزيمة التي لا تلين، وكان هذا الشعور يتجدد كلما دخلنا إلى تلك المناطق المليئة بالخوف.
كان الصوت الداخلي في عقلي يؤكد لي أننا لا نحارب من أجل لقب أو أجر، بل من أجل وطن يتنفس الأمل رغم كل جراحه، في نهاية المطاف، كانت ليالي بن طلحة تتحدث عن القوة في الاستمرار، عن القوة في مواجهة المصير، وكان كل يوم جديد يحمل معه درسًا جديدًا في الإيمان، كما كانت تلك اللحظات تعلمنا أن الأمل ليس مجرد كلمات نرددها، بل هو شعور يجب أن يعيش معنا، أن يقودنا نحو الغد الأفضل، اللهم ارحم أمي وأكرم نزلها، واجعلها من أهل الجنة، وارحم موتانا وموتى المسلمين.