تبدأ نساء منطقة القبائل دائما ومنذ غابر الأزمنة حكايتهن التي هي بصدد سردها أمام الاطفال وحتى الكبار المتشوقين بعبارة " لتكن حكايتي جميلة ومتسلسلة مثل الخيط" وذلك لغرض جلب انتباه المستمعين المدعوين الى رحلة في عالم خارق خارج عن كل زمان ومكان.
رشيد محمودي
يكمن سر سحر هذه القصص في كونها تروى خلال ليالي شتاء جرجرة الشديدة البرودة والطويلة، التي يملؤها عواء الكلاب الجائعة وزفير الرياح، في الوقت الذي يجتمع فيه افراد العائلة حول دفئ الكانون التقليدي الذي تتطاير منه شرارات الحطب المحترقة، وتتوسطهم الراوية التي يظل الاطفال يلحون عليها حتى تقبل بسرد إحدى قصصها العديدة.
وقد برع المغني الشهير الراحل "إيدير" في تصوير مثل هذا الديكور في أغنيته " أفافا اينوفا " التي تعتبر الرواية القبائلية للقصة العالمية " ذات القبعة الحمراء "، حيث تقوم الراوية بإغلاق جفنيها وكأنها في جلسة لحصة تنويم مغناطيسي، تسمح للمتتبعين ولوج عالم المغامرات الخارقة والشخصيات العجيبة التي تحيكها الراوية بنوع من التمثيل المسرحي، تدعمه بحركات حسب الموقف الذي ترويه مع العمل على الابقاء على عامل التشويق الضروري إلى غاية ثقل جفون الاطفال، " كان يا مكان في بلاد بعيدة .. " هكذا تشرع الجدات دوما في سرد كل قصصها المعتمدة في غالبيتها على نظرة ازدواجية لشؤون الحياة تعارض فيها الخير والشر والشرير مع الخير والكريم مع البخيل والامين مع الخائن والشجاع مع الجبان والغني مع الفقير وعديد الثنائيات الاخرى التي تقوم عليها كل القصص والروايات الشعبية، لينتهي الامر بانتصار الفضيلة والعدالة على الرذيلة بكل اشكالها.
لكن هذا لا يمنع وجود بعض الاستثناءات لهذه القاعدة العامة، مثل ما هو الحال في قصة مسمار ومسيمر " حيث تتعمد العناية الالاهية من اجل معاقبة المجتمع الذي ظل على سواء السبيل الى اختيار مسمار اللص لتجعل منه " معلم " او حاكم تلك البلدة امام امتعاض " مسيمر المثالي " المحكوم عليه بالنفي الى الصحراء عقابا له لطفه وطيبته ، وتعتبر قصص " بقرة اليتامى " و " الحبة السحرية " و " الملك الاصلع " و " لونجة بنت الغولة " من بين تلك الروايات التي صمدت امام زحف الحداثة بفضل هاته الحارسات للذاكرة الشعبية اللائي لازلن يواصلن النضال ضد كل اشكال الغزو الثقافي للحفاظ على هذا التراث , بالرغم من هذه المقاومة المستميتة يبرز جليا ان المعركة غير متساوية امام المنافسة الشديدة التي تفرضها كل انواع التسلية المعاصرة، التي بامكانها في النهاية ان تكون سببا في زوال جوانب لا يستهان بها من التراث اللامادي إذا ما تم الاستمرار في عدم اسهام الكتاب والسينما والتلفزيون والمسرح والغناء وكل وسائل الاعلام الاخرى في مجهود الحفاظ على هذا التراث بالنظر للاهمية البيداغوجية التي تكتسبها الرواية والقصة في تربية الطفل، وتعليمه لغته الام حسب ما يراه المختصون.
ولعبت الحكاية منذ غابر الازمان دور المدرسة التي كان يتلقى فيها القدماء المعرفة الضروررية لتنمية حسهم النقدي وقفا لتأكيد المربين في إبرازهم للأهمية القصوى لهذه الوسيلة التعليمية في تكوين الأجيال.
ويجدر الذكر أن لكل رواية وقصة مستقاة من الإرث التقليدي الشفوي عبرة ورسالة أخلاقية , تترجمها اقوال مأثورة لا يعي عمقها سوى الحكماء الضالعين في لغة سي موح أومحند.
وترفض الراوية دوما ترجمة هذا المعنى لتتركه لفهم مستمعيها، الذين يحاول كل منهم استيعاب الرسالة وفقا لتجربته الحياتية وفهمه الخاص للأمور، تماما مثلما هو الامر لأي عمل فني.
كما ان هاته الراويات هن نساء بلاد القبائل المسنات والجدات اللائي يحتفظن في ذاكرتهن بحكايات مثيرة أخذنها عن أجيال سبقنهن من النساء لتسلية ومواساة أنفسهن من مغبات الحياة الكثيرة، ويهدفن إيصالها بدورهن الى أجيال المستقبل.