1361
0
من سفح الجبل الثائر... إلى موائد العيد ذاكرة الحياة في دخلت بن كيال

على بعد عشرات الكيلومترات من ضجيج المدن، وفي أقصى امتدادات الشرق الجزائري، تنام قرية دخلت بن كيال تحت سفح جبل يُعرفه أهل الجبال بإسم مستاوة. لا يبدو الجبل مهيبًا لزائرٍ عابر، لكنه في ذاكرة سكانه القديمة ليس مجرد تضاريس.
ضياء الدين سعداوي
إنه شاهد حي على ما يصفه المؤرخون المحليون بـ"الثورة المنسية" سنة 1916، حين انتفض سكان المنطقة بقيادة عمر أو موسى – الذي لُقّب حينها بـ"أسد مستاوة" – في وجه الاستعمار الفرنسي، في واحدة من أشرس الهبّات المسلحة في جبال الأوراس.
اليوم، وبعد أكثر من قرن، لا يحمل الأطفال في دخلت بن كيال البنادق، بل يحملون سكاكين العيد الصغيرة المصنوعة من الخشب وهم يركضون خلف جداتهم في الحقول لإختيار الأضحية.
هنا، حيث لا تزال الثورة تُروى في الحكايات، يُمارس عيد الأضحى كشعيرة دينية، ومشهد إجتماعي، وامتداد هادئ لكرامة قديمة تُقاوم بصمت.
جبل... يخبّئ ذاكرة ثائرة
جبل مستاوة ليس مجرّد تضاريس شاهقة تنتهي عند تخوم السماء، بل هو جزء من الهوية الثقافية للمنطقة.
في عام 1916، وبينما كانت فرنسا تخوض معاركها في أوروبا، كانت شرارة تمرد شعبي تُشعل أطراف الجبل بقيادة الشيخ المقاوم عمر أو موسى. تقول الروايات الشفوية إن الفرنسيين لم يكتفوا بحصار المنطقة، بل أرسلوا تعزيزات عسكرية من مناطق بعيدة و قريبة لإحتواء التمرّد، الذي اعتُبر من أوائل علامات التململ الشعبي في الأوراس قبل اندلاع ثورة نوفمبر بـ38 سنة.
لا توجد الكثير من الوثائق المكتوبة حول ثورة مستاوة، لكنها حية في الذاكرة الجماعية. المسنون يستعيدون قصص المواجهات الليلية، وأسماء الرجال الذين اختفوا في المغاور، وأغاني الحنين التي تُردّدها النساء في ليالي الشتاء.
في مشهد رمزي، ينطلق ريبورتاجنا من هذا الجبل، حيث التاريخ، نحو قرية دخلت بن كيال، حيث الحياة.
قرية تُقاوم بالنّعمة
تقع دخلت بن كيال على تخوم جبل مستاوة، وتخضع إداريًا لبلدية وادي الماء بولاية باتنة. عدد سكانها لا يتجاوز بضع مئات، ويعتمدون بشكل شبه كلي على ما يُعرف محليًا بـ"الاقتصاد الذاتي": زراعة موسمية، بساتين صغيرة، قطعان من الماشية، ومصادر تقليدية للمياه. هنا، لا تُباع المنتجات في الأسواق، بل تُستهلك داخل البيوت. العائلات تزرع ما تأكل، وتُربي ما تذبح.
"المدينة تُربي أبناءها على الاستهلاك، أما نحن فنُربّي الماعز والخراف"، تقول الحاجة برمية ، وهي سيدة ستينية تُعدّ واحدة من حافظات التراث الشفهي في القرية.
كانت تمشي بخطى ثابتة في الحقل، يتبعها أحفادها، لإختيار أضحية العيد من بين قطيع الغنم الذي ربّته العائلة منذ الربيع.
عيد يبدأ من الحقل
في المدن، يُشترى الكبش من الأسواق الكبيرة، ويُحمَل في سيارات فاخرة إلى الشقق.
في دخلت بن كيال، العيد يبدأ من الحقل ، في الأسبوع الذي يسبق عيد الأضحى، تبدأ الجدة برنية في تجهيز البيت: تنظيفه، جمع الحطب، وتحضير "الشخشوخة" و"الكسكس" – وهما طبقان تقليديان لا يغيبان عن موائد العيد.
تقول فطيمة، وهي حماة ابنها، إن النساء يبدأن بتحضير الطعام قبل العيد بأيام لتفادي التعب في الأيام الأولى. "نُحضّر الكسكس بالدقيق الذي نطحنه بأنفسنا، ونُجففه في الشمس. نريد أن نستمتع بالعيد لا أن نُضيّعه في المطبخ".
على هامش المائدة، يجمع الرجال الحطب. لا يُستخدم الغاز هنا في الشواء ، "الجمر يعطي اللحم طعمه الحقيقي"، يضيف عادل، وهو فلاح خمسيني يرتدي قميصًا رماديا تقليديًا.
الحنّاء على الخروف... وسنة على الجمر
في ليلة العيد، تتحوّل باحات البيوت إلى ما يشبه ساحة طقس عائلي. (ولنقل بدقة: شعيرة عائلية). في وسطها، تقف الأضحية التي اختيرت بعناية. الجدة تُمسك بعلبة صغيرة من الحنّاء، وتضع خطوطًا على رأس الخروف. الأطفال يتزاحمون للفرجة.
"نحن لا نزيّنه، بل نستعد للعيد بروح خاشعة. الحنّاء عندنا رمز للفرح والبركة"، تقول فطيمة.
صبيحة العيد، تمتلئ الأزقة الصغيرة بالتكبيرات. الرجال يتوجهون إلى المسجد الوحيد لأداء صلاة العيد، فيما تنشغل النسوة بتحضير القهوة والحلويات. بعد الصلاة، تُذبح الأضحية بعد التسمية والتكبير، ويبدأ تقطيع اللحم بتعاون جماعي: الأب، الابن، الجدة، والأحفاد.
أول ما يُطهى هو كبد الخروف. يُشوى مباشرة على الجمر، ويُعتبر أول طعام تتناوله العائلة في أول أيام العيد، اقتداءً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
"ريحة العيد تبدأ من الكبد"
يقول عمّار، وهو شاب في الثلاثين من عمره، عاد من العاصمة لقضاء العيد مع والديه.
جلد يُملّح... ويُخضّ اللبن
بعد الذبح، تُسلخ الأضحية بعناية. الرأس يُشوط على الحطب، ويُعد لاحقًا في طبق يُسمى "الرّاس المفوّر"، وهو من الأطباق الأساسية في اليوم الثاني أو الثالث من العيد ، أما الجلد، فيُملّح ويُجفف، ثم يُحوّل إلى "ڨربة" – أداة تقليدية تُستعمل في خضّ الحليب لإنتاج اللبن.
"كنا نخضّها ونحن نغني، حتى يطيب اللبن. اليوم، نُعلم البنات كيف كانت تفعل الجدات"، تقول فطيمة.
بهذه الطريقة، لا يُهدر شيء من الخروف. اللحم يُوزع على الجيران، الجلد يُستعمل، والأحشاء تُطهى، وكل بيت يحاول أن يستثمر أضحيته إلى أقصى درجة.
الأطفال... عيدهم في ساحة الذكريات
في المساء، تجتمع العائلات في ساحات صغيرة لتبادل الأطباق والحكايات. الأطفال، يرتدون ملابسهم الجديدة، يلعبون بـ"المكحلة و النفايخة" – ألعاب بسيطة تُباع في السوق الأسبوعي أو ببعض الألعاب التي تُصنع يدويًا من الخشب.
"نحن لا نملك ملاهي، لكن نملك أحضان الجدّات"، تبتسم خديجة، طالبة جامعية عادت للقرية لقضاء العيد.
العيد هنا ليس مظاهر، بل روابط ، لا يحتاج الأطفال إلى حلوى مستوردة، بل يكفيهم أن يركضوا بين أشجار التين والتفاح، ويضحكوا قرب مجرى الماء.
حين يُصبح العيد تربية ومقاومة
في دخلت بن كيال، عيد الأضحى ليس مجرد شعيرة دينية تُؤدى بشكل روتيني ، إنه حدث تربوي، اجتماعي، واقتصادي ، يُعلّم الأطفال الصبر، ويعلّم الشباب العودة إلى الجذور، ويعلّم النساء الحكمة والتدبير.
وهو، قبل كل شيء، شكل من أشكال المقاومة الصامتة في وجه التغيّرات الكبرى التي عصفت بالمجتمعات الريفية في الجزائر.
في زمن العولمة، والتسوّق الإلكتروني، و"العيد الجاهز"، تُصرّ دخلت بن كيال أن تعيش عيدها بأسلوبها... البسيط، والعميق، والإنساني.
من سفح الجبل الذي احتضن الثورة، إلى البيوت التي تُحيي الشعيرة، تمضي دخلت بن كيال في كتابة حكايتها الخاصة... بين الذاكرة، واللحم المشوي، والتكبيرات، وحناء الخروف.
قد لا تظهر هذه القرية في نشرات الأخبار، لكن كل عيد، تكتب بصمت درسًا في الأصالة، وتُعلن – دون ضجيج – أن الحياة، كما المقاومة، تُمارَس يومًا بيوم، وطبقًا بطبق، وكلمة بكلمة.