458
0
" من باريس يحيون ذكرى العلامة ابن باديس"
ندوة حول:"مناقب وجهود العلامة الرئيس ابن باديس"

مصطفى محمد حابس: جينيف / سويسرا
بمبادرة من بعض أحبابنا في العاصمة الفرنسية، وبمناسبة عطلة عيد الفصح في بعض الدول الأوروبية، أيام 16الى21 أفريل 2025، والذي يصادف ذكرى يوم العلم في الجزائر، ووفاة رائد نهضتها الإصلاحية الشيخ عبد الحميد بن باديس، نظّم إخوان و اخوات من طلبة وشباب جاليتنا الجزائرية رفقة بعض الافاضل و الفضليات المسلمين في فرنسا، ندوة فكرية تذكيرية مساء يوم أمس، دعي إليها بعض الأفاضل من أساتذتنا وأئمتنا، في الضواحي الباريسية بفرنسا.
حيث شهدت الندوة ، رغم سفر بعضهم للعطلة حضورا طيبا وتدخلات جلها بالفرنسية، مما سمح للشباب في فتح حوار تثقيفي أخوي ونقاش حول محطات في صفحات تاريخ الدعوة الإسلامية المعاصرة في محيط دول البحر الأبيض المتوسط، اين تناولوا في جانب من مداخلاتهم مسيرة الشيخ ابن باديس الإصلاحية، ودوره الريادي في إحياء الهوية والثوابت الوطنية والدفاع عن مقومات الأمة الجزائرية من دين ولغة وتاريخ وعلاقته بدول الجوار المغاربي والإسلامي والانساني، كما أكد بعض المشايخ في مستهل الندوة على ضرورة إحياء فكر العلامة بن باديس وصحبه لجاليتنا في المهجر، في نفوس الأجيال الجديدة الصاعدة خاصة في أرض الغربة التي تجهل تماما تاريخ اسلافها، ومواصلة شحذ الهمم في مراكزنا الإسلامية بالتربية والتعليم كسبيل محوري للنهوض باسرنا المسلمة و دولنا النامية قصد اللحاق بركب الأمم المتحضرة في التنمية والتطور الصناعي والتكنولوجي الذي تزخر به بعض الدول المضيافة في أوروبا.
"جمعية العلماء والثورة الجزائرية المباركة"
و كانت مداخلة كاتب هذه السطور، حول موضوع، كثيرا ما كان المتدخلون يتحاشون التحدث فيه في العقود الأخيرة خاصة، وهو موضوع "جمعية العلماء والثورة الجزائرية المباركة"، وخصوصا في الغرب، لقلة المراجع عموما وباللغات الغربية خصوصا، لأن هناك من يزعم أن جمعية العلماء تأخرت عن ركب الثورة، ومنهم من يقول أن الجمعية لم تشارك لا رسميا كمؤسسة و لا حتى كأفراد في الثورة المباركة، إلا بعد سنوات لما اشتد عود الثورة ووقفت على ساقيها و قرب استقلال الجزائر !!
الجانب الثوري في حياة الزعيم الروحي لحرب التحرير، العلامة ابن باديس
حاولنا في هذه السانحة المباركة أن نبين لشبابنا خاصة بما وفقنا الله اليه ، محاولين اماطة اللثام على الجانب الثوري في حياة " الزعيم الروحي لحرب التحرير"، العلامة ابن باديس، رضي الله عنه، الذي يصادف رحيله يوم 16 أبريل من كل سنة ( رحمه الله)، ناهيك عن جهاد رجاله و تلاميذه، الذين أبلو البلاء الحسن قبل و أثناء و بعد الثورة و لله الحمد، مفندين كثيرا من الأقاويل و الروايات المغرضة المتوفرة في المكتبات الفرنسية عموما..
وكان من المفروض، لو سمح لنا وقت أكثر و حتى لبعض اساتذتنا لعالجنا بالتفصيل و المراجع الموثوقة ، تحديدا مناقب هذه الشخصية التاريخية التي ارتبطت بتاريخ الجزائر النضالي في الفترة الاستعمارية، هذا الإمام القدوة وقائد الحركة الإصلاحية المغاربية وملهمها، محاولين تسليط الضوء على بعض الجوانب الأساسية في حياة الرجل، ويتعلق الأمر بفكره السياسي الثوري الذي تضمنه مشروعه النضالي الجهادي، إضافة إلى خوضه في القضايا السياسية المتعلقة بالسياسة الاستعمارية وكذا اهتمامه بالقضية الجزائرية - أو " الأمه الجزائرية" كما يحلو له تسميتها- لتصب كل جهوده في مسألة استقلال الوطن، ورحيل المستعمر الغاشم عاجلا، للانطلاق في مسيرة البناء والتشييد!!
ابن باديس أخذ بالأسباب، وخطط للمراحل بالجهاد الفكري، بالكلمة، قبل الجهاد المسلح
مبينين لشبابنا خاصة، أن الجهاد في الإسلام بدأ بالجهاد الفكري، بالكلمة، في مكة المكرمة قبل الجهاد المسلح في المدينة المنورة بعدة سنوات وذلك في قوله تعالى آمرًا رسوله – عليه الصلاة والسلام – “وجاهدهم به جهادًا كبيرا”. (سورة الفرقان، الآية 52 ). والإمام عبد الحميد بن باديس، لم يشذ عن هذه القاعدة ، بل أخذ بسنة التدرج؛ في الوسائل والآليات عن طريق التربية والتعليم و ما تفرع عنها، فقد أخذ ابن باديس سنة الأخذ بالأسباب، وخطط مع إخوانه ونظم الصفوف ووضع الأهداف وحدَّد المراحل والخطوات للوصول إليها، وأدرك طبيعة كل مرحلة وخصوصيتها، بحيث لا يعمد إلى تجاوز المراحل أو حرقها فيقع في داء الاستعجال المدمر، فيتعجل النتائج قبل أوانها فيعاقب بحرمانها. واستخدم وسائل عصره التي ضمنت الذيوع والانتشار لأفكاره في أوساط الجماهير، وبواسطتها استمرت عملية الإقناع والشحن، حتى انتقل بالجماهير من مرحلة الاستقطاب إلى مرحلة الاستيعاب التام، فطوّر دور كل من، المساجد، والمدارس الحرة، والصحافة من مجلات وجرائد، والنوادي الرياضية والحركة الكشفية، في العديد من جهات الوطن، وقد تطرق بعض الافاضل قبلي للتفصيل في البعض من هذه الوسائل السلمية بأمثلة و إحصائيات .
" لو تمس لي فرنسا التعليم، سأعلن عليها الجهاد"
و اكتفينا لضيق الوقت في هذه الندوة، بالإشارة الى شهادات حية، لرجلين من تلاميذ العلامة بن باديس ( 1307-1358 هجرية/ الموافق 4 ديسمبر 1889 - 16 أبريل 1940).
الأولى ، قالها لنا شيخنا العلامة محمود بوزوزو (1918- 2007) ، مشافهة من شيخه العلامة عبد الحميد بن باديس، يوم كان تلميذا في الجامع الأخضر حيث ذكر لنا تحديدا بقوله " أن الإمام ابن باديس قال لهم يوما مقسما بالله:" لو تمس لي فرنسا الاستعمارية التعليم، أو تغلق لنا مدارس مساجدنا، سأعلن الجهاد"!!
و الشهادة الثانية مقال مستفيض للشيخ أحمد حماني، اين حاولنا أن نقرأ لهم ترجمة وتلخيص لورقة، اعتبرناها وثيقة تاريخية، كتبها الرئيس الأسبق لجمعية العلماء، شيخنا العلامة الشيخ أحمد حماني ( 1915- 1998)- رحمه الله - ، عن الجانب الثوري في حياة الشيخ الرئيس ابن باديس، بعنوان :" ابن باديس والثورة"، نشرتها مجلة الرسالة الجزائرية التي كانت تصدرها ” وزارة الشؤون الدينية بالجزائر”، العدد الرابع، ربيع الأول 1401 هـ / جانفي 1981م، و تلونا عليهم ترجمة قطوفا من مقالته التالية:
" ابن باديس والثورة":
تحت هذا العنوان، كتب الشيخ حماني :" هذا جانب هام من جوانب شخصية الإمام الرئيس عبد الحميد بن باديس رحمه الله، دفعني للاهتمام به سؤال أخت كريمة تعمل في حقل التربية والتعليم، ألقته علي في ندوة بمقر الاتحاد النسائي بالعاصمة (الجزائر) سنة 1399 هـ (1979)، فأجبتها آنذاك بما حضر، ثم بحثت عن دعم مادي يؤيد أن ابن باديس رحمه الله – كما كان مفكرا ثائرا في ميدان العقيدة والدين ضد الفساد في الاعتقاد، والانحراف في العمل والخروج عن الكتاب والسنة – كان كذلك ثائرا ضد الظلم والطغيان الاستعماري عاملا لتقويض سلطان المستعمر على البلاد والعباد، جادا في طرده، وتطهير الوطن من أرجاسه لا بالدعاء والقول فقط، ولكن بالثورة المسلحة".
مضيفا بقوله :"إن عمل ابن باديس في هذا الميدان وتحقيق عزمه عليه يمكن إثباته بالرواية المتصلة الصادقة، كما يمكن إثباته بنصوص صادرة منه مسجلة أو منقولة نقلا صحيحا.. فمن أراد أن يؤرخ لابن باديس ويكتب سيرته، وجد هذه الوسائل متوفرة إذ ما يزال بالحياة بعض من اجتمعوا به، ودرسوا عليه، ورأوا أعماله ورووا أقواله وحضروا مجالسه، وشاركوا في نشاطه، وما تزال آثاره من أقوال مسجلة يمكن الرجوع إليها من أراد أن يكتب عنه فإذا ملك النصيب الوافر من الصبر والنزاهة والدقة في الفهم للأقوال والمقاصد والأعمال، أمكن أن يستخرج الكثير من الحق ومن النافع المفيد في أي جانب من جوانب حياة هذا الرجل العظيم. ما سمعه بعض تلاميذه الأحياء في موضوع الثورة المسلحة":
شهادات معاصري ابن باديس عن جانبه الثوري: يذكر الشيخ حماني، في وثيقته، خمس نماذج وشهادات عن ذلك، قائلا :
1- مما رواه الأحياء من تلاميذ الإمام ابن باديس، في هذا الموضوع ما أكده الشيخ “محمد الصالح رمضان”(1916-2008)، أن الشيخ ابن باديس كان منذ 1356 هـ (1937 م) يصرح بعزمه على الثورة المسلحة، وفي بعض هذه التصريحات أنه يخشى أن يدفع الأمة إليها قبل كمال استعداد، لهذا يتجنب أن يتحمل مسؤولية الرئاسة السياسية المباشرة لبعض الأحزاب.
2- أكد الشيخ “محمد الحاج بجة” أحد تلاميذه الأقدمين – من دائرة آقبو – أنه كان تلميذا في أوائل الثلاثينات، وأن الشيخ ابن باديس (رحمه الله) كان يسأل تلاميذه الكبار : هل أديتم الخدمة العسكرية ؟ ومن أجاب بنعم ميزهم عن الآخرين وصرح لهم أننا سنحتاجكم يوما ما، وحثهم على عدم نسيان ما دربوا عليه من أعمال الحرب، ولعل هذه الشهادة تفسر شدة اتصاله رحمه الله بتلميذه الشيخ الفضيل الورثلاني ( 1900- 1987 ) رحمه الله، فقد كان من الذين أدوا الخدمة العسكرية قبل أن يتصل به فكان يقربه جدا، ويستصحبه معه في بعض رحلاته ويركن إليه في تربية صغار تلاميذه على الثورة، وقد عاش هذا الرجل ثائرا وصار يخشى جانبه الملوك والأمراء في الشرق العربي، وله أثر كبير في الثورة اليمنية ضد نظام الملك يحيى، وهذا معلوم، حتى جاءت الثورة الجزائرية فعمل في صفوفها ومات – وهو يمثلها – بتركيا، وله تلاميذ هناك يذكرونه بخير، وهو دفين أنقرة.
3- ومن ذلك ما سمعته بأذني وحضرته بنفسي في إحدى أمسيات خريف 1939م في مجلس بمدرسة التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة، وتطرق الحديث إلى موضوع الحالة السياسية بالجزائر بعد إعلان الحرب، وموقف بعض كبار رجال الأحزاب السياسية الذين جندوا – إجباريا أو تطوعا– في صفوف الجيش الفرنسي، وكان الشيخ ابن باديس (رحمه الله)، متألما جدا من هذا الضعف فيهم، وقد صرح بما فحواه : « لو أنهم استشاروني واستمعوا إلي وعملوا بقولي لأشرت عليهم بصعودنا جميعا إلى جبال أوراس، وإعلان الثورة المسلحة. ».
4- سافرت إلى تونس لإتمام الدراسة ولم أحضر تطور هذه الفكرة الباديسية في نفسه، ولكني علمت أنها وصلت إلى حد الإنجاز لولا معاجلة الموت، فقد حدّث الأستاذ المحامي و الاديب حمزة بوكوشة (1909-1994) – وهو من أقرب المقربين إلى الشيخ عبد الحميد والعاملين معه في ميادين العلم والإصلاح والسياسة – إنه دعاه ذات يوم للمبايعة على إعلان الثورة المسلحة، وحدد له تاريخ إعلانه بدخول إيطاليا الحرب بجانب ألمانيا ضد فرنسا، مما يحقق هزيمتها السريعة، فبايعتُه على ذلك، وكان بالمجلس غير الأستاذ حمزة منهم من تردد ومنهم من أقدم على المبايعة. وقد أكد الشيخ محمد بن الصادق جلولي هذه الرواية ودعمها. ولكن المنية أدركت ابن باديس قبل موعد إعلان الثورة ببضعة وخمسين يوما، فقد مات في 16 أفريل 1940 م، ودخلت إيطاليا الحرب في 10 يونيو 1940 م. ولعل الحكمة في تحديد هذا التاريخ لابتداء الثورة أن إيطاليا صرحت بأطماعها اللاشرعية في تونس، ولعلها تمددها إلى الجزائر، فإذا دخلت بجانب ألمانيا وانتصرتا صرنا (ميراثا) من تركة الهالك! فأراد الشيخ أن نكون في الوجود وأن نطرد فرنسا بأنفسنا، ودخول إيطاليا في الحرب يسهل مهمتنا، وأتذكر جيدا أنني صارحته ذات يوم بالخوف – إن انتصر المحور – من استيلاء إيطاليا على بلادنا باعتبار أننا تراث من فرنسا، فأجابني فورا رافعا رأسه : ” ليست إيطـاليا التي تستطيع استعمـارنـا يا بني ” قالها في اعتزاز وثقة، وقوة نبرة توحي بالتحدي.
5- منذ خريف 1940 م منع الشيخ عبد الحميد من حرية التجوال وأصبح تحت إقامة جبرية بمدينة قسنطينة ولكنه لم يلتزم بذلك، وصار يتفلت من القيد سـرا لمتابعة أعماله التحضيرية للثورة، وقد حدثني الأستاذ محمد الصالح بن عتيق (1903-1993) ، مدير مدرسة الميلية أنه طرق عليه الباب ذات ليلة ففتحه وإذا به يجد الشيخ متنكرا، فدعاه إلى النزول فاعتذر، وأنه حدثه عن الثورة المسلحة وعن مدى استعداد الشعب في جبال الميلية لها، قال فأجبته بأن رجال الميلية فيها وفي جبالها رجال” بارود” وله أن يعول عليهم إذا جـد الجـد، وأن الاستعداد النفسي للثورة كامل فيهم".
نصوص من كلام الإمام بن باديس يهدد فيها بالثورة :
جمع الشيخ حماني في ذات الوثيقة، مجموعة نصوص كتبها او قالها الامام ابن باديس، منها، الوصف التالي :
" .. وكانت الظروف عسيرة والأنفاس محسوبة والبطش شديدا، وهاكم بعض هذه النصوص
تهديد بالثورة أمام لجنة برلمانية فرنسية:
سأل اللجنة – في جلسة رسمية – رجال جمعية العلماء عن الإصلاح المنشود في الجزائر، فأجاب ابن باديس:
: إنني أحقق لكم – قبل كل شيء – أمرين، هما
1- إن كـل محـاولة لحمل الجزائريين على ترك جنسيتهم أو لغتهم أو دينهم أو تـاريخهم أو شيء من مقومـاتهم هي محاولة فاشلة مقـضـي عليها بالخيبة..
2- إن الحالة التعيسة التي بلغت إليها الأمة الجزائرية – وقـد اطلعتم عليها أنتم أكثر من غيركم – " لا يمكن أبـدا أن يستمر صبر الأمة الجزائرية عليها أكثر مما صبرت"
وعن سؤال لرئيس اللجنة فحواه : ماذا يقع لو أصدرت فرنسا أمرا يعطي المسلمين حقوقهم ويجردهم من قانون الأسرة، والأحوال الشخصية أجاب ابن باديس بقوله : ” إذا ألزمت فرنسا المسلمين برفض شريعتهم والتخلي عن ذاتيتهم كأنهم يشعرون بالضربة القاضية عليهم بالعدم التام… وأنا أحقق لكم أنكم إذا ألزمتم الأمة الجزائرية المسلمة برفض شريعتها والتخلي عن ذاتيتها فإنكم تكونون قد وضعتم أمرا يؤول بالجزائر إلى اضطراب أعظم لا تدري عاقبته “، (البصائر 25/02/1356 هـ)، كلمة اضطراب أعظم لا تدري عاقبته صريح في الثورة المسلحة ولكن لا يؤاخذ عليه القانون مثل كلمة (الثورة).
اليأس يدفع إلى المغامرة :
في مقال له تحت عنوان : ” هل آن أوان اليأس من فرنسا ” نشر بالشهاب في جمادى الآخرة 1356، جاء قوله : « لقد أخذ اليأس بتلابيب الكثير منا، وهو يكاد يعم، ولا نتردد أنه قد آن أوانه ودقت ساعته » ثم قال :« والله لا تسلمنا المماطلة إلى الضجر الذي يقعدنا عن العمل، وإنما تدفعنا إلى اليأس الذي يدفعنا إلى المغامرة والتضحية » اهـ. ما هي المغامرة المصحوبة بالتضحية أليست الثورة المسلحة التي تحقق الاستقلال ؟ إن الثورة لا تكون إلا بالتضحية الغالية بالأنفس والأموال، والمغامرة يقدم على مغامرته دون أن يحسب حسابا لربحه أو خسارته ويوازن بينهما.
اليأس بعد الرجاء :
الدعوة إلى تكوين جبهة وطنية في شهر سبتمبر 1937 م، أصدر ابن باديس بيانا ونداء إلى الشعب الجزائري وإلى النواب المنتخبين حرم فيه طرق أبواب البرلمان الفرنسي، ودعا إلى اتحاد الصفوف، وتكوين جبهة لا تكون المفاهمة إلا معها وجاء فيه، قوله :
" أيتها الأمة الكريمة، أيها النواب الكرام : اليوم وقد يئسنا من غيرنا يجب أن نثق بأنفسنا، اليوم – وقد تجوهلت قيمتنا يجب أن نعرف نحن قيمتنا – اليوم وقد خرست الأفواه عن إجابة مطالبنا، يجب أن نقول نحن كلمتنا، اليوم وقد اتحد ماضي الاستعمار وحاضره علينا، يجب أن تتحد صفوفنا… حرام على عزتنا القومية وشرفنا الإسلامي أن نبقَى نترامى على أبواب برلمان أمة ترى – أو ترى أكثريتها – ذلك كثيرًا علينا… ويسمعنا كثير منها في شخصيتها الإسلامية ما يمس كرامتنا ويجرح أعز شيء لدينا، لندع الأمة الفرنسية ترى رأيها في برلمانها، ولنتمسك عن إيمان وأمل بشخصيتنا… قرروا عدم التعاون في النيابة بجميع أنواعها كونّوا جبهة متحدة لا تكون المفاهمة إلا معها، بَرْهنُوا للعالم أنكم أمةٌ تستحق الحياة..".
العصيان المدني بداية الثورة المسلحة :
ثم يوضح الشيخ حماني شارحا مواقف شيخه ابن باديس بقوله : هذا نداء يدعو إلى العصيان المدني بعدم التعاون مع المحتل والعصيان المدني بداية الثورة المسلحة، وفيه فتوى شرعية قومية بحرمة الذهاب إلى برلمان فرنسا، لأن قبول النيابة فيه اعتراف بأن الجزائر عمالة فرنسية وأنها جزء من تراب فرنسا، وفيه دعوة صريحة إلى تكوين (الجبهة) الواحدة التي لا يكون أي تفاهم إلا معها، وهذا ما فعلته الجزائر أثناء الثورة، فهي التي أعلنت الجهاد، وحرمت على أي أحد أو أية هيئة التحرك إلا في ضمنها، والتكلم معها باسم الأمة وحصلت على استقلال الجزائر.
سنعرف كيف نحيا ونموت لأجل الحرية:
بعد رجوع وفد من فرنسا شارك فيه الإمام ابن باديس، واستقبل من طرف عشرات الآلاف خطب فيهم فقال : « أيها الشعب إنك – بعملك العظيم الشريف – برهنت على أنك شعب متعشق للحرية وهائم بها، تلك الحرية التي ما فرقت قلوبنا منذ كنا نحن الحاملين للوائها، وسنعرف في المستقبل كيف نعمل لها وكيف نحيا ونموت من أجلها».
وثبة بعدها وثبات، فإما الحياة، وإما الممات!
وفي هذا الجمع تابع - ابن باديس - كلامه في عشرات الألوف قائلا : «
أيها الشعب لقد عملت وأنت في أول عملك هذا فاعمل وداوم على العمل، وحافظ على النظام واعلم بأن عملك هذا – على جلالته – ما هو إلا خطوة ووثبة، وراءه خطوات ووثبات، وبعدها إما الحياة وإما الممات».
ثم يوضح الشيخ حماني ما قيل في خطبة شيخه ابن باديس بقوله : " ليس أصرح في الدعوة إلى الثورة المسلحة مما جاء في هذه الخطبة فقوله إننا شعب متعشق للحرية وهائم بها وستعرف في المستقبل كيف نعمل لها ونحيا ونموت لأجلها صريح في العزم على الثورة وإلا فما هو العمل للحرية وما هو الموت من أجلها ؟ وكلمة وثبة هو كلمة ثورة، ولكن الأولى لا يؤاخذ عليها القانون لأنها أعم، وبعد الثورة أو (الوثبة) إما أن يكون النصر – وهو الحياة – وإما أن تكون الهزيمة – وهي الممات الحقيقي
بعد هذه الأمثلة و النماذج الثورية في سيرة الإمام ابن باديس، يذكر الشيخ حماني بقوله :"
لا شك أن ابن باديس سار خطوات في الموضوع، وأنه لم يكن له أن يدخل في مغامرة خطيرة دخولا عشوائيا، دون أن يحكم نظامها، ومن ذلك اتخاذ حلفاء والاعتماد على مصادر لاستيراد السلاح، وقد كان يعتمد في هذه الناحية على رجال من الحركة الوطنية من حزب الشعب، له اتصال وثيق بهم، وثقة كاملة في كفاءتهم وصدق وطنيتهم وإخلاصهم، ومن هؤلاء زعيم كريم من الأكفاء من ولاية سكيكدة كان يتردد بين الجزائر وبين أوروبا، وفي رجال هذا الحزب من كان يعمل للثورة المسلحة ويتصل بخصوم فرنسا لتحقيق الغرض، وأثناء وجود ألمانيا بتونس عام 42-1943 م، جاءنا أحد كبارهم فاتصلنا به وعملنا معه ولكنه بصرنا بفساد نية الألمان، ونهانا الاندفاع معهم، ثم كان الرجل من أكبر رجال الثورة الجزائرية وما يزال بقيد الحياة "..و اختتم الشيخ أحمد حماني شهادته هذه بقوله:
"هذا ما أمكن الرجوع إليه من الروايات الشفاهية عن ثقات لا يتطرق الشك إلى نزاهتهم وصدق روايتهم، وشدة ضبطهم وتحريهم، وأما النصوص المسجلة الصريحة الواضحة أو المفهمة الملهمة فإنها كثيرة في خطبه، ومقالاته وقصائده ومنشوراته، ويمكن الرجوع إليها في مجلة الشهاب، وجرائد جمعية العلماء، ومن أمعن النظر فيها ودقق البحث وجد في الكثير منها ما فيه تصريح واضح بالحث على الثورة أو الاستعداد لها، أو العزم على إيقاد نيرانها، أما التلميح والرمز فإن ذلك مما برع فيه أستاذنا - ابن باديس - ودرب على فهمه طلابه، وكثير ما كان ينشد :
وَلقد لَحَنْتُ لَكم لكيمًا تَفْهَمُوا وَاللّحنُ يَفْهَمه ذَوو الألْبابِ
فإذا رمز ولحن فهم طلابه، وعمي غرضه عن الجواسيس المبثوثين، وهم الذين اضطر من أجلهم إلى اللحن والرمز والتلميح دون التصريح، وكانت الظروف عسيرة والأنفاس محسوبة والبطش شديدا.
نشيد شعب الجزائر برنامج ثورة بكامله :
إن نشيد ابن باديس ” شعب الجزائر مسلم ” دعوة إلى الثورة وتخطيط لها، في الطالع منه يكذب خبر موته ويعلن استحالة إدماجه وابتلاعه :
شَعْـبُ الجـزائــرِ مُـسْـلِــم وإلى الـعُـروبة يَنْتَـسِــبْ
مَنْ قَــالَ حَـادَ عَنْ أصْلِـهِ أو قَــالَ مَـاتَ فقد كَـــذبْ
أو رام إدمَـــاجًــا لـهْ رامَ المُـحـَـال مِن الطّـلَـبْ
ثم خاطب جند الثورة مخططا لهم بإجمال برنامج العمل :
يَانـَشْءُ أَنْتَ رجَـــاؤُنَــا وَبِــكَ الصَّبـــاحُ قَـدِ اقْتَرَبْ
خُـذْ للحَيــاةِ سِلاحَـــهَـا وَخُضِ الخُـطــوبَ ولا تَـهــبْ
وارفَـعْ مَنـارَالعَـدْلِ وال إحْـسَـانِ وَاصْــدُمْ من غَـصَـبْ
وَاقْلَعْ جُــذورَ الخَـائِنيـنَ فَـمِـهُــمُ كُلُّ الـعَـطَــــبْ
وَأذقْ نُفُـوسَ الـظّـالِمينَ الـسُّــمَّ يـمـزج بالـرهــب
واهْـزُزْ نُفوسَ الجَـامِـدِينَ فَربَّـمَـا حَــيَّ الـخَــشَــــبْ
مَـنْ كَـــانَ يَيْغي وَدّـــا فَعَلـى الكَـرامَـة وَالـرَّــبْ
مَنْ كَــــانَ يَبْغي حَياتَنَا بالـنُّـورِ خُــطَّ وباللـهَــبْ
حتى يَعــودَ لِـقَــوْمِـنَـا مِنْ مَجْــدِهِم مَـا قَـدْ ذَهَـــبْ
وَيَـرَى الجـزائرَ رَجـعـتْ حَــقَّ الحَـيَـاةِ المُـسْـتَـلِـبْ
وَقَـدْ انتَبَهْـنَـا ـ حَـيـا ةِ آخِــذِيـــنَ لَـهَــا الأهــــبْ
أنشد هذا النشيد بمناسبة المولد النبوي سنة 1356 هـ (10 جوان 1937م). فتلقفه الشعب من فمه وردّده ثم نفذ بنوده أثناء حرب التحرير.
خافقات البنود :
اشِهِدي يَا سَمَـا وَاكْتُبَنْ يا وُجـودْ إنَّـنَـا للِحـمَـى سَنَكُونُ الجُـنُـــــودْ
فـنَـزيـــحْ البَــلاَ وَنَـفُــكُّ الْقُيُـــودْ ونَنيلُ الـرِّضـا مِنْ وَفَّى بِالعْهُـودِ
ونُـذيقُ الـرَّدَى كُـلَّ عـاتٍ كَنُودْ وَيَـرَى جـِيلُـنَا خَـافـقَاتِ البُنـــــودْ
ويَـرَى نجْمُنَـا لِلْعُـلاَ في صُعـودْ هَكَـذَا هَـكَـذَا هَـكَـذا سَنَعُـــــــــودْ
فاشْهَدي يَا سَمَا واكتُبْن يا وُجـودْ إنَّـنَـا للـعُـــلاَ إنَّـنَـا للخُـلُـــــــــودْ
"وفي هذا النشيد الثوري ما ليس في غيره من التصريح بالجنود يدافعون عن الحمى، ويرفعون خافقات البنود، و يزيحون البلاء النازل ويفكون القيود و يذيقون الردى كل عات كنود، وإننا هكذا سنعود"، على حد تعبير الشيخ حماني رحمه الله.
مختتما مقاله جازما بقوله :" وقد أثبت الشعب كل ما جاء في النشيد، ورفعت البنود بعد وفاته بخمس سنوات فقط عام 1945، وها هي اليوم تخفق وحدها في سماء الوطن، وفي عاصمة باريس نفسها وفي عواصم الدنيا تعلو خفاقة وتنال التحية من الأصدقاء ومن أعداء الأمس، وكل ذلك بفضل الله – أولا وأخيرا – ثم بفضل شعب أبي مسلم إلى العروبة ينتسب، ولا يريد بها بديلا ولا عنها تحويلا، ثم بفضل رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه من أمثال ابن باديس وكل الشهداء والأبطال ممن قضى نحبه منهم، وممن ينتظر" .. و الله يقول الحق و هو يهدي السبيل.