53
0
من التلوث إلى الإيكولوجيا...قصة نجاح تحويل مفرغة واد السمار إلى منتزه بيئي
تفاصيل تكشفها مديرة مؤسسة جيسيتال
.jpg)
في قلب العاصمة الجزائرية، وتحديدا بموقع وادي السمار الذي كان يعرف سابقا بأنه أحد أكبر المفارغ العمومية، تحولت "النقطة السوداء" إلى متنفس بيئي وايكولوجي يرمز لنجاح السياسات العمومية في مجال إعادة تأهيل المواقع المتدهورة بيئيا.
شروق طالب
هذا المشروع الضخم الذي أنجزته مؤسسة "جيسيتال" لتسيير مراكز الردم التقني بولاية الجزائر، جاء كثمرة لتعاون تقني محلي ودولي، واستراتيجية بيئية تهدف إلى تحقيق التنمية المستدامة وتثمين النفايات.
وللإحاطة بكل أبعاد هذه التجربة الرائدة، كان لنا هذا الحوار الخاص مع لجرم سهيلة مديرة مؤسسة جيسيتال، المهندسة المكلفة سابقا بمتابعة مشروع تأهيل مفرغة وادي السمار، التي قدمت لنا تفاصيل دقيقة عن مراحل التحول، التحديات التقنية والبيئية، إضافة إلى البعد الاجتماعي والثقافي الذي يميز المنتزه البيئي الجديد.
قبل أن يصبح فضاء للراحة والاستجمام، كان موقع واد السمار مفرغة عمومية، كيف يمكنكم توصيف موقع واد السمار قبل تهيئته؟
مفرغة وادي السمار فتحت سنة 1978، وكانت في بدايتها مخصصة لاستقبال نفايات بلدية الحراش فقط.
لكن مع تزايد النمو السكاني والحضري لولاية الجزائر، ونتيجة لغياب بدائل أخرى، تحولت تدريجيا إلى مفرغة مركزية تستقبل نفايات كل بلديات العاصمة، بداية من سنة 1995، بحيث أصبحت تستوعب مختلف أنواع النفايات، على غرار النفايات المنزلية، الهامدة، الصناعية، وحتى نفايات المؤسسات الصحية.
مع مرور السنوات، توسعت المفرغة لتبلغ قرابة 45 هكتارا، وبقدرة استيعابية تصل إلى حوالي 2000 طن يوميا من النفايات.
هذا الرقم الكبير، في ظل غياب منظومة متكاملة للتسيير، جعل من الموقع مصدرا لانبعاث الروائح الكريهة والغازات الضارة، بجانب خطورة تلوث المياه الجوفية بفعل عصارة النفايات، مما أثر بشكل كبير على البيئة وعلى صحة السكان المجاورين.
ما الذي دفع السلطات إلى اتخاذ قرار غلق الموقع سنة 2012 وتحويله إلى منتزه؟
غلق الموقع لم يكن قرار إداري بسيط، بل كان تحدي تقني وتنظيمي كبير، ولعل السبب الرئيسي في اتخاذ هذا القرار يعود إلى الآثار البيئية والصحية السلبية التي كانت المفرغة تسببها، خاصة مع موقعها الحساس القريب من مطار هواري بومدين الدولي، بجانب وجودها في محيط عمراني متنامي يضم أحياء سكنية ومرافق عمومية استراتيجية.
هذا وبالاضافة أن المفرغة لم تعد قادرة على استيعاب المزيد، خاصة مع الارتفاع المهول في إنتاج النفايات اليومية، دون توفر بنية تحتية كافية للمعالجة أو التثمين.
ومن هنا صدر قرار تحويل الموقع إلى منتزه إيكولوجي من قبل مصالح ولاية الجزائر، في إطار رؤية بيئية طموحة تبناها الوزير والي ولاية الجزائر، محمد عبد النور ربحي.
ويأتي هذا القرار تجسيدا لواحد من الأهداف الأساسية التي سطرها، والمتمثل في تعزيز الوعي البيئي لدى المواطنين، من خلال إعادة الاعتبار لهذا الفضاء وتحويله إلى منطقة طبيعية مفتوحة.
ويراد من هذه الخطوة، أن يصبح الموقع متنفس عمومي يدمج بين الراحة البيئية والخدمة العمومية، بما يكرس ثقافة المحافظة على البيئة في الوسط الحضري.
لكن تنفيذ القرار استغرق سنوات، ومر بعدة مراحل، أبرزها إيجاد بديل فعال لاستقبال نفايات العاصمة، وهو ما تم من خلال فتح مركز الردم التقني حميسي في سيدي عبد الله.
متى طرحت فكرة التحويل؟ وما هي التجهيزات البيئية التي مكنت من تهيئة هذا المنتزه؟
الفكرة تعود إلى التسعينيات، عندما بدأت تظهر مؤشرات خطيرة لتدهور الوضع البيئي في محيط وادي السمار، لكنها لم تكن آنذاك قابلة للتجسيد الفعلي بسبب غياب البدائل والتقنيات.
وفي سنة 2005، بدأت الدراسة الجدية للمشروع بعد قرار من الدولة بغلق الموقع وتحويله إلى فضاء إيكولوجي، خصوصا بعد اتضاح التأثيرات الخطيرة على المطار والمناطق السكنية المجاورة.
من الناحية التقنية، تم اعتماد معايير دولية صارمة لإنجاز المشروع، نذكر من أبرز التجهيزات، إنجاز 127 بئرا لاستخراج وتوجيه الغاز الحيوي، بناء محطتين رئيسيتين، واحدة لحرق الغاز الزائد، وأخرى لتحويل غاز الميثان إلى طاقة كهربائية تستخدم في الإنارة والمرافق،
إنشاء محطة متطورة لمعالجة عصارة النفايات حيث تعاد معالجتها وتستخدم لاحقا في الري وتنظيف المساحات.
بجانب استعمال تقنيات تثبيت التربة واستقرار الطبقات الجيولوجية للحيلولة دون انهيارات أو تسربات، اعتماد مواد بناء طبيعية، مثل خشب، حجر، وحديد، في جميع المرافق تماشيا مع الطابع الإيكولوجي للموقع.
كيف ساهم المشروع في ترسيخ مفهوم التسيير المستدام للنفايات؟
من أهم أهداف المشروع هو التحول من مجرد معالجة النفايات إلى تسيير مستدام يدمج التثمين والتربية البيئية.
المنتزه اليوم، ليس فقط فضاء للترفيه، بل هو أيضا مدرسة بيئية مفتوحة، وهي ما تجسده اللوحات التفسيرية والتحسيسية داخل المنتزه حول، الدورة الطبيعية للنفايات، أثر البلاستيك على البيئة، أهمية التشجير وحماية الموارد المائية، وكذا فوائد الفرز الانتقائي وإعادة التدوير.
كما يتم تنظيم ورشات توعوية، وزيارات موجهة للأطفال وطلبة الجامعات، وكلها تندرج ضمن ما يعرف بـ "التحسيس البيئي التفاعلي". وبالتالي، فإن المنتزه أصبح أداة حقيقية لنشر ثقافة بيئية مستدامة لدى المواطن، وبجانب تحويل النفايات من مصدر تهديد إلى مورد يمكن تثمينه.
ما هي أبرز التحديات التي واجهتكم أثناء تنفيذ المشروع؟
الرهان الأكبر كان يتمثل في الجانب التقني واللوجستيكي، فموقع وادي السمار يضم عدة صعوبات, من بينها قربه من مطار هواري بومدين، مما يتطلب شروط أمان بيئية صارمة، مروره بخطوط السكك الحديدية، ووجود أنابيب الغاز ذات الضغط العالي، بجانب وقوعه ضمن شبكة الكهرباء ذات الشدة العالية والمتوسطة، وقربه من مزارع فلاحية ومنطقة وادي الحراش.
التحدي الآخر, تمثل في نقل النفايات من موقع كان يستقبل أكثر من 2000 طن يوميا، وهو ما استدعى إنشاء مراكز بديلة كمركز الردم بحميسي، وأيضا مركز قورصو في بومرداس، حتى نتمكن من غلق الموقع تدريجيا.
أما من الناحية التقنية، فقد تطلب المشروع أكثر من 10 سنوات من الدراسة والتنفيذ، بالتعاون مع خبراء دوليين في مجال الغاز الحيوي وتثمين النفايات، وذلك لضمان فعالية واستدامة الحلول المعتمدة.
ما هي الآليات البيئية المعتمدة في مشروع تحويل مفرغة واد السمار، وكيف يتم تثمين نواتج النفايات مثل الغاز الحيوي والعصارة في إنتاج الطاقة والماء؟
في إطار مشروع تحويل مفرغة واد السمار إلى منتزه إيكولوجي، تم اعتماد مجموعة من الآليات البيئية الحديثة التي تعكس مفهوم التسيير المستدام للنفايات.
ومن بين أبرز هذه الآليات، تثمين نواتج النفايات المدفونة، خاصة الغاز الحيوي والعصارة.
بخصوص الغاز الحيوي الذي يستخرج من النفايات المدفونة، يحتوي أساسا على غاز الميثان (CH4) بنسبة كبيرة، إضافة إلى ثاني أكسيد الكربون، الأوكسجين، والكبريت.
في وادي السمار، تم اعتماد تقنية متقدمة لاستخراج الغاز عبر شبكة من الآبار، ثم ينقل إلى محطة ضغط وتعديل، حيث يقاس مدى نقاء الغاز.
ثم إلى محطة حرق أو محطة توليد كهرباء، بحسب نوعية الغاز.
إذا كانت نسبة الميثان مرتفعة، يستعمل الغاز لتوليد الكهرباء, التي تستخدم بدورها في الإنارة وتشغيل مرافق المنتزه، أما الغاز المتبقي فيحرق بطريقة آمنة للحد من انبعاثاته.
كما أن هناك تقنية تستخدم لتحفيز إنتاج الغاز، عبر رش المياه بواسطة أوعية خاصة داخل طبقات النفايات، مما يسرع عملية التخمر اللاهوائي ويزيد من كمية الغاز المنتج.
أما من عصارة النفايات يتم بتقنية معالجة هذه العصارة, تحويلها إلى ماء يستخدم حصريا، في سقي المساحات الخضراء داخل المنتزه.
كيف أثر المشروع على الحياة الاجتماعية لسكان المنطقة خاصة من الناحية البيئية؟
عرفت الحياة الاجتماعية في المنطقة تحسن ملحوظ, مدفوع بتأثيرات بيئية إيجابية أحدثها المشروع.
فالموقع الذي كان في السابق مصدر معاناة للسكان بسبب الروائح الكريهة، انتشار الحشرات، خطر اندلاع الحرائق وتدني قيمة العقارات، شهد تحول جذري نحو بيئة نظيفة وآمنة.
اليوم، أصبح الفضاء متنفس حضري مفتوح يرتاده المواطنون والعائلات، بفضل ما يوفره من مرافق حديثة تشمل ملاعب رياضية، فضاءات لعب للأطفال، قاعات عرض، ومسارات مخصصة للمشي وركوب الدراجات.
كما تعد الإطلالة البانورامية للمنتزه بزاوية 360 درجة على معالم بارزة مثل المسجد الأعظم، مطار الجزائر، سيدي رزين وبوزريعة، من أبرز عناصر الجذب التي منحت الموقع طابع جمالي.
هذا التحول البيئي انعكس مباشرة على النسيج الاجتماعي، من خلال تعزيز جودة الحياة، تنشيط التفاعل المجتمعي، ورفع القيمة العقارية للمحيط.
وهكذا، تحولت وادي السمار من "نقطة سوداء" إلى نموذج ناجح يحتذى به في مجال التنمية الحضرية المستدامة.
هل سيتم تعميم هذه التجربة على مواقع أخرى في العاصمة؟
نعم، هناك إرادة حقيقية لتكرار النموذج، حاليا نعمل على مشروع تحويل مركز الردم السابق بـ أولاد فايت، الذي تم غلقه في 2014، إلى منتزه رياضي وترفيهي يضم مسارات دراجات ومرافق متنوعة.
كما يتم دراسة تحويل مفارغ أخرى قديمة إلى فضاءات خضراء، وذلك ضمن سياسة شاملة لتحسين المحيط البيئي للعاصمة، ودعم الاقتصاد الدائري، وتعزيز التوعية البيئية.
كلمة ختامية باعتباركم من أوائل المشتغلين على المشروع؟
ختاما، وبصفتي من أوائل المشتغلين على هذا المشروع، أود أن أؤكد أن ما تحقق في وادي السمار يتجاوز كونه إنجاز عمراني فحسب، بل يعد نموذج متكامل لنجاح بيئي وثقافي واجتماعي.
لقد كان لي شرف العمل ضمن فريق متعدد التخصصات، يضم مهندسين مدنيين، معماريين، بيئيين، وكيميائيين، إلى جانب خبراء إيطاليين ساهموا بخبراتهم في الجوانب التقنية المتعلقة بالغاز الحيوي.
هذا المشروع يثبت مرة أخرى أن الجزائر تمتلك من الكفاءات والقدرات ما يؤهلها لتحويل التحديات إلى فرص حقيقية.