438
1
مِلف / فيلم زيغود. سيناريو: أحسن تليلاني. إخراج: مؤنس خمَّار.
تفاصيل يعرضها الناقد عمر خضرون

· مِلف / فيلم زيغود. سيناريو: أحسن تليلاني. إخراج: مؤنس خمَّار.
دروسٌ من الشهيد زيغود يوسف وأخرى من فيلم زيغود / عمر خضرون.
· بطاقة تقنية.
· حِوار: أحسن تليلاني، هذه أجملُ تجربةٍ لي في مجال الكتابة.
· حوار: مؤنس خمَّـار، من الطبيعي أن تكون وجهة نظري لصالح الشعب الذي أنتمي إليه.
دروسٌ من الشهيد زيغود يوسف وأخرى من فيلم زيغود
بقلم عمر خضرون
لا مفرَّ للمُشاهدِ المدْعُوِّ لفيلمٍ جديدٍ عن ثورة التحريرِ إلّا أن ينجرَّ للأحكامِ المُسبقةِ التي تُنبئُهُ ب"عملٍ ثوريٍّ" آخرَ، ليس إلَّا نسخة مُكرَّرة من تلكَ الأفلامِ التي أُنتِجت طوالَ سنوات والتي غاب عنها، في الغالبِ، العمقُ والتميّز وخلتْ معالجتُها من الاجتهاد والشجاعة.
إنَّها أفلامٌ صاغَ رؤاها كُتَّابٌ ومُخرجون لا يَصِحُّ التشكيكُ في صِدقِ نواياهم، إلَّا أنَّ أعمالَهُم بدت، في نهايةِ الأمر، مُجرَّد أصداءٍ لقصصٍ نمطيةٍ جرى تداولُها مرارًا وتكرارًا، تتطابقُ في مُقدِّماتِها وفي تسلسلِ فصولِها، وتُفضي، في الغالب، إلى نهاياتٍ مُتوقَّعة.
بتعبيرٍ آخر: أعمالٌ سينمائية باهتة، مُقلِّدة ل"بن بولعيد"، و"لطفي" و"كريم"، الأفلام المتواضعة التي أنتجها المخرج الكبير أحمد راشدي والتي كادت أن تطمس في وجداننا ذكرى عمَلِهِ المرجعي "الأفيون والعصا".
ولكن ما إن انتهى العرضُ الشرفي الذي حضرناه لفيلم "زيغود"، حتَّى تأكدنا من حماقة الأحكام المتسرعة. فنحن، بلا شك، أمامَ واحدٍ من أهمِّ الأفلام التي تناولت مآثر الثورة ورجالاتها منذ سنين.
وليس ثمَّة حاجةٌ لسرْدِ تفاصيل العملِ أو حبكته، فالأحداث التي يستقي منها مادَّته، أحداث العشرين من شهر أوت 1955 الخالدة، راسخةٌ في ذاكرة الجزائريين ولا يمكن أن يطويها النسيان.
بيدَ أنَّ المخرج مؤنس خمَّار ارتأى أن يعمل وِفق منهجٍ يزاوجُ بين السردِ الشامل للحدثِ الكبير وبين الملاحم الإنسانية للشخصيات الرئيسية التي صنعتْ مجراه: أوَّلُها الشهيد زيغود يوسف بطبيعة الحال ثُمَّ ابنته شامة، ثُمَّ الشهيد ديدوش مراد ثُمَّ مجموعة الاشخاص الفرنسيين الذين واجههم بصفة مباشرة أو غير مباشرة: قادة الاحتلال المُجرَّدين من القِيَم، ضابط تحريات منقسم بين الولاء والفضيلة، مرافِقه الأرعن المرتزق، أسير فرنسي مُتشبِّث بأوهام المركزية الاستعمارية، صُحفِية أجنبية نزيهة...، كل هذا في فترة زمنية تمتدُّ من الثامن ماي 45 إلى شهر سبتمبر من العام 1956، تاريخ ارتقاء البطل زيغود إلى مصافِّ الشهداء.
ومن خلال إعادة بناءٍ للأحداث، يستدعي خمَّار فكرةَ المقاومة مُجسِّدًا البُعد المتوقع لاستشهاد بطله، دون الوقوع في فخّ الدراما الساذجة أو في مَذمَّةِ النُّواح العاطفي، وهو اختيارٌ سيُمكِّنه بلا شك من كسب تعاطف الجمهور.
ولِأنَّ وهج البطل ونجمه الساطع لا يحجبان هنا الرَّصانة التي يُعالج بها خمَّار موضوعَه، فإنَّ الفيلم يمكن اعتباره وثيقة تاريخية قادرة على رفعه إلى أصداء إنسانية متجاوزة السياق المحلي والوطني.
ومن جهة أخرى، يزخرُ الفيلم بمشاهدِ حركةٍ ومعارك متفرقة، غيرَ أنَّ هذه المعارك لا تُعرض كغايةٍ في حَدَّ ذاتها، بل هي، في جوهرها، تجسيدٌ عميقٌ لروحِ زيغود وتوقِهِ الفطري للانتفاضة، في سعيٍ حثيثٍ من جانِبِه لإذكاء شُعلتِها من جديد ورغبةً مِنهُ في كسر الحصار الذي كان يَشُدُّ الخناق على إخوانه في منطقة الأوراس.
أمَّا المُمثِّل علي ناموس، فإنَّه يتقمّصُ شخصيته بصورة مُوفَّقة في غالب الأحيان، حادٍّ ومُرْبكٍ بحضوره الجسدي المَهيبِ ونظراته المليئة جِدِّيةً وصرامةً، لكن نمطيَّة البطل المتكررة التي ألفناها في أفلام "الثورة" عادتْ لِتُسَيْطِرَ على الحوار مُجدَّدًا، ما أثَّر سلباً على أدائه وعلى أداء رِفاقه من المُمثِّلين بشكل عامٍّ، هذا، رغم وجود رغبةٍ معلنةٍ، من جانب المخرج والمُمثِّل معا، في تجريب أساليب تعبيرية يتزيَّن فيها البطل بخصال الرفق والمروءة والذكاء الاستراتيجي، وهي صفاتٌ حاول بعض المتحدثين نَفْيَها عن شخصية الشهيد، لِيُلصِقوا به، عوضاً عن ذلك، تُهَمَ التهوُّر والاندفاع.
ويُقدَّمُ كلُّ هذا ضِمن إطارٍ بصريٍ أخَّاذٍ يجمع بين وقار المشاهدة ومُتعتها ويتألقُ بِصُورِ الشمال القسنطيني العائمة بين السحب والضباب، في مشهدٍ يُذكِّرنا بشيءٍ من مناظر الطبيعة الأيرلندية في فيلم "الأرض والحرية" (1995)، تحفة المخرج البريطاني الشهير كين لوتش؛ لولا ما نشعر به من اختلافٍ واضح بين العمَليْن، وهو اختلافٌ يتجلَّى بوضوح أكبرَ حين ندركُ أنَّ فيلمنا الجزائري وُلِدَ في أحضان ظروف متواضعة، في تباينٍ صارخٍ مع الأفلام الغربية الضخمة التي تُصنعُ عادةً بميزانيات فلكية، والتي تثير في النَّفس مشاعر الدهشة من هولِ الأموال التي تُسَخَّرُ لإنجازها.
إنَّ الصور هنا غايةٌ في الجمال فعلا، غير أنَّها، ولِحُسنِ الحظ، تسمُو فوْقَ البطاقات البريدية الخادعة. ويُعزَّى هذا التفرد إلى التزامها بالوظيفة الفنية التي صُمِّمَت لأجلها في هذا العمل؛ ألا وهي تجسيد وعورة التضاريس في الجبال والقرى وفي ساحات القتال، واقتناص خوالج النفس من عبق الأجواء المحيطة بها.
وبوجهٍ عام، نلاحظ أنَّ المناظر الطبيعية قُدِّمت في لمسةٍ فنيّةٍ مرهفةٍ، عبر عدسةٍ تُعانقُ العينَ وتلامسُ الأرضَ أحيانًا، الأمر الذي يُثري التجربةَ الجماليةَ التي أريد من خلالها أسرُ المشاهدين، ودفعهُم للتفكير في جذورِ الصراعِ واستيعابِ الدُّروسِ من تلك الحقبةِ الفاصلةِ في تاريخ الأرض المسلوبة، وصولاً إلى تحفيزِهِم لاستحضارِ الأمجادِ التي سطَّرَها أولئك الأبطال دفاعًا عن حياضهِم وصونًا لكرامتهم.
فلا شكَّ أن المشاهد الخلابة التي تعُجُّ بها الطبيعة في هذا الفيلم تستمِدُّ تأثيرها من الجمال الكامن فيها، إلّا أنَّ قوَّتَها الحقيقية تنبع، قبل كل شيء، من قدرتها على تجسيد واقعيةٍ ملموسةٍ، تؤكد على الأهداف السامية التي يطمح العمل السينمائي إلى تحقيقها وبلوغها.
وفي سياقٍ مُتَّصِل، يمكنُ أن يُوصَمُ هذا الفيلمُ ببعضِ المآخذ، ولعلَّ أكثرها بروزا طابعهُ التلْقيني التي ينحو نحو التبسيط في كثير من الأحيان، إلَّا أنَّ جاذبيتَهُ كفيلةٌ بإخفاءِ هذه الثغرات لأنَّها تتجاوزها بجملةٍ من المزايا هيمنت على العمل فغطَّتْ على هذه النمطيةِ بعينها وكذا على هذه العباراتِ المُكررة التي وسَمَتْ الحوار في بعض مشاهدِهِ، والتي باتت للأسفِ سِمةً ملازمةً لمعظمِ أفلامِنا الثوريةِ.
ذلك، لأنَّ مخرجنا سعى جاهداً للتملص من ذلك كلِّه بسلسلة من الجهود الإبداعية التي صاغها بِحِرَفيَّةٍ تجلَّتْ في التقاطه للصور والاصوات وفي انتقائه للمناظر وفي تركيزه على ملامح الوجوه.
كما أثَّثَ عمله بمؤثرات صوتية نافذة ثُمَّ أرفقها بسيلٍ متواصلٍ من موسيقى صافي بوتلة، طاغية ومكتنزة كعادتها، رغم أن ألحانها لا تُقدِّم جديداً للجُملِ التي ألَّفها لأفلامٍ سابقة.
كما أنَّ الإيقاع يظَلَّ طِوال الأحداث مُفعماً بالحيوية، ولكنه إيقاع رصينٌ لا يشوبُهُ التسرُّعُ والتهافت، ويعود ذلك لبراعة المخرج الذي ينجحُ في الانتقال بين المشاهد على الرغم من أنَّ الأحداث تبدو منفصلة للوهلة الأولى.
ويتجَّلى هذا، على سبيل المثال، في شخصية ضابطِ التحريات الموفَدِ من العاصمة للمشاركة في تعَقُّبِ "المتمردين"، فنحن نراه في مُستهلِّ المشاهد يستوقف "المتمرد" زيغود شخصياً، دون أن يعرف هويته، ليستفسر منه عن الطريق المؤدي إلى "سمندو"، مَقَرّ عمله الجديد. ولكنَّ الفيلم يقودنا لخيبةِ أملٍ سينمائية، إذ يُحرمُ المتفرج من مشهد اللقاء الختامي الحاسم بين البطلين، بخلاف ما هو معتاد في أفلام المواجهات التي تدور رحاها بين رجلين من مُعسكرين متحاربين.
يمكن للمرء في هذا السياق تتبُّعَ قِصَّة الضابط الفرنسي وفصلها عن قصة زيغود دون عناء، فنحن إزاء ركحٍ مسرحي تتقابل فيه شخصيات متضاربة لا تكاد تؤثر إحداها في الأخرى إلَّا قليلا.
وفي سِياقِ النقد الموضوعي الذي يُولِي ما ينبغي أنْ يُولَى من اعتبارٍ لعامل الإمكانات، يقفُ هذا الفيلمُ أمامنا كحصيلةٍ جديرة بالثناء. ذلك لأنَّ دراسته، بإيجاز غير مُخلٍّ، لا تتاحُ إلَّا بوضعها في ميزان المقارنة إزاء الطموحات التي كان بِوُسعِها أن تتحقَّقَ لو قُيّضت له ذات القدرات التي قُيّضت لأفلام أخرى.
هذا الأمر جعل من هذا العمل، قبل كل اعتبار، بمثابة شهادة بليغة على إرادة المخرج، حالُهُ في ذلك حال العديد من المخرجين الذين يشاركونه ذات المسار وذات الطموح.
في هذا الجانب تحديداً، يمكنُ للمُتفرِّج أن يلاحظ غياب الطموح في بعض المشاهد والتي يبدو أنَّها وقعت، على الارجحِ، ضحية الإمكانات المحدودة حيثُ اكتُفِيَ بسردِها اختزالًا عبر حوارات متبادلة بين المُمثِّلين، وكان الاجدر تصويرُ وقائِعِها كاملةً حتَّى تُعْرضَ حيَّةً على الشاشة، نابضة بالحركة أمام المُشاهدين.
ولَنَا أنْ نتأملَ المشهد الذي يُرى فيه زيغود وهو يحاور رفاقه، راويًا لهم بعضًا من تفاصيل فراره الجسور من السجن؛ مشهدٌ يمكن مقارنته، على سبيل المثال، بلقطة مماثلة عن الشهيد مصطفى بن بولعيد في فيلم راشدي، حيث صُوِّر الحدثُ بكُلِّ تفاصيله الكاملة والمُملَّة. وكذلك مشهد الأسير الفرنسي الذي يُطلَق سراحه حتى يعود لِبَنِي جلدته ويروي لهم كيف أهدى قُبَّعته لزيغود عرفانًا بشهامته وتقديرًا لموقفه النبيل، وهو أمرٌ يدعو للأسف بعض الشيء، فمِثلُ هذا الحدث كان الأجدر "تصوير وقائعه فعليًا" عوض الاكتفاء بـ "الابلاغ عنه بواسطة الحوار"، لأنَّ تصويره لا يتطلب تكاليف باهظة، ولأنَّ وقعه على المشاهدين سيكون أكثرَ قُوَّةً وتأثيرًا بهذا الأسلوب.
(يمكنُ هنا، على سبيل الاستمتاع والتسلية، استرجاع المشهد الظريف للفتى "إنديانا جونز" وهو يتلقَّى قُبَّعتَه لأوَّلِ مرَّةٍ، نظِيرَ بسالته وذكائه الفطري، في مستهل الجزء الثالث من سلسلة الأفلام الشهيرة التي أخرجها ستيفن سبيلبرغ).
كما أنَّ الحوار الذي دار بين زيغود وأسيره لا يخلو من نزعة الوعظ المُثيرةِ للتأسف، على الرغم من أنَّ دروسه تبدو ضرورية في هذا السياق لتوصيل فكرة مِحورية عن عراقة الجزائريين وتحضُّرِهِم مُقابِل الهمجية التي يروّج لها الخطاب الاستعماري. (أنظر الحوار الذي أجريناه مع كاتب السيناريو، د. أحسن تليلاني).
أما في فيلم "الأفيون والعصا"، فإنَّ الدُّروس ذاتها تُلقَى ولكن بأسلوبٍ يبدو أشدَّ رسوخًا وتأثيرًا. ويتجلَّى ذلك مثلا في مشهد الأسير "علي" (الذي جسَّدَهُ سيد علي كويرات ببراعة) وهو يُصغي، على مضضٍ، لخُطَبِ التَّحضر الكاذبة منْ سجّانِه الفرنسي والتي سُرعان ما يظهرُ زَيْفُها جَرَّاءَ مشهدٍ قاصمٍ لطائرة هليكوبتر تحومُ فوق رأسيهما للحظةٍ وجيزة، ثم يُدفعُ منها أسيرٌ آخر ويُلقى قتيلاً تحت أقدامهما.
ومثالٌ آخر لا يقل عمقًا هو مشهدُ رفْضِهِ القاطع تناولَ وجبة اللحم المُعلَّبِ من مرافقه الفرنسي؛ لأنَّها في وجدانه، وفي وجدان كل الجزائريين، غيرُ حلال.
وفي هذا الرفض البسيط ظاهريًا، تتجلَّى كل الدُّروس الممكنة عن الجزائريين وعن موقفهم من الاستعمار وعن نفورهم القاطع من ثقافته.
وعلينا ألَّا نغفلَ، أخيرا، حقيقة أنَّ هذا العمل يتقاطع بشكلٍ أو بآخر مع إشكالية الأفلام المُسمَّاة أفلام التكليف les films de commande، وهي المشاريع التي تُنجَز بطلبٍ من المنتج ووفقا لدفترِ شروطٍ يُصادق عليه من الطرفين.
ولا شكَّ أن هذه الضوابط هي التي جعلت الأفلام التي أنتِجت عن الثورة خالية من وهج الاجتهاد فغلب على معظمها الطابع النَّمَطي والمباشر. غير أنَّ مؤنس خمَّار بدا، في خضم هذه التحديات، وكأنه قد استبطن المُهمَّة التي أوكل بها بل حاول أن يتعامل معها بحلول ومهارات تقنية، متنوعة وعديدة.
وهذه المناورات مكَّنتْهُ، في نهاية الأمر، من انتزاع مساحة لإبراز موهبته، متماشيا بذلك مع شروط الإنتاج المتفق عليها. (طالع الحوار الذي أجريناه مع المخرج أسفل هذا المقال).
لكل هذا وذاك، يمكن اعتبار هذا الفيلم مُتفوِّقاً في جوانبه التقنية على كثيرٍ من الأفلام التي تناولت ثورة التحرير في العقدين الأخيرين، بما في ذلك الأعمال الثلاثة المذكورة آنفاً. ولكن مخرجه، مؤنس خمَّار، لا يبدو راغباً في التَّنَكُرِ لدروس المُعلِّم أحمد راشدي ( 83 عاماً)، بل إنَّنا نشعر بآيات العرفان من جانبه حين نقرأ في الجينيريك أنَّ المخرج المخضرم قد اضطلع بمهامِ استشارةٍ مُحدَّدة لإنجاز هذا الفيلم الأساسي الذي ينبغي لكُلِّ مُهتمٍّ بتاريخ الثورة عاشق للسينما أنْ يُشاهِده، لأنَّهُ يبشِّر بمستقبلٍ واعد لمخرجٍ جزائري يمتلك القدرة على تقديم أفلام مغايرة وذات ثقل، ولأنَّ أعماله القادمة سترتقي حتماً، إن توفرت الإمكانات اللازمة، إلى مستوياتٍ أرفعَ من الدِقَّة والنَّجاح.
عمر خضرون
بطاقة تقنية
- عنوان الفيلم: زيغود
- إخراج: مؤنس خمَّار
- سيناريو: أحسن تليلاني
- تمثيل: علي ناموس، سليمان بنواري، كونستنان بالزان، سيف الدين بوها، فتحي نوري، درصاف خرفي.
- المدة: 150 دقيقة
- مدير التصوير: حميد أكتوف
- تركيب: سامي زرطال
- موسيقى: صافي بوتلة
- إنتاج: وزارة المجاهدين وذوي الحقوق / المركز الجزائري لتطوير السينما.

حوار.
أحسن تليلاني: هذه أجملُ تجربة لي في مجال الكتابة.
يحلو للنَّاقدِ والمترجم والأستاذ الباحث في أدبِ الحركة الوطنية، الكاتب المُكثِر د.أحسن تليلاني أن يردِّد: لو أنِّي لم أكتب إلَّا سيناريو فيلم زيغود لكفاني ذلك فخرا واعتزازا.
ذلك لأنَّ الرجل مُكثرٌ بالفعل (17 مؤلفا في العديد من المجالات)، وهو الآن يشغلُ منصب رئيس مؤسسة الشهيد زيغود يوسف التاريخية بعد أن تولَّى مناصب تسيير عديدة في ميادين الثقافة وفي الجامعة.
في هذا الحوار، يُحدِّثُنا تليلاني عن هذا الفيلم وعن شخصية الشهيد زيغود يوسف وعن رؤيته للأفلام التي تروي ثورتنا المجيدة وتشتغل على تاريخها.
اكتشفتُ بمحض الصدفة، وأنا أحضِّر لهذا الحوار، أنَّكَ ظهرتَ في فيلم سينمائي جزائري، قبل أربعة عقود تقريبا، تحديدا في فيلم حُوريَّة لسيد على مازيف. وها أنت اليوم كاتب السيناريو لهذا الفيلم الروائي الطويل. كيف نشأ اهتمامك بالسينما؟ هل أنت راضٍ عن تجربتك الأولى هاته؟ كيف كان عملك مع مؤنس خمار؟
اهتمامي بالسينما يعود إلى أيَّام الجامعة حتَّى لا أقول للصغر. وبالفعل كان لي ظهورٌ مُحتشم في فيلم حُورِيَّة الذي صُوِّر في جامعة قسنطينة خلال العام 1986، وكنتُ أيَّامها طالبا في كلية الآداب.
ولكنَّ اهتمامي تحوَّل بعد ذلك للمسرح كشكلٍ آخر من أشكال الفُرجة التي كانت وما زالت تستهويني. ألَّفتُ العديد من المسرحيات للكبار والصغار، منشورة وغير منشورة. وساهمت في إثراء المكتبة بعددٍ من المؤلفات عن الثورة الجزائرية في المسرح الوطني والعربي وأخرى عن رُوَّادِ المسرح الجزائري مثل رشيد قسنطيني ومحمد توري وغيرهما.
ولَمَّا جاءت فرصة المشاركة في المسابقة الرَّامية لتأليف سيناريوهات أفلامٍ تُنتِجُها وزارة المجاهدين عن أبطال ثورة التحرير، لم أتردد طويلا، لأنِّي أعتقد أنَّ الفنَّ السابع له قدرة عجيبة على توعية الجماهير ودخول البيوت عبر التلفزيون.
والآن أشعر بالرَّاحة والرِّضا بعد تحقيق حلمي في كتابة سيناريو فيلم تاريخي جزائري وعن الشهيد زيغود يوسف تحديداً.
كما أشعُرُ بالرِّضا أيضا لِكوْنِ مُخرِجه الموهوب مؤنس خمَّار قد قام بعملٍ جيِّدٍ لإخراج هذا الفيلم الجميل بعد أن تردَّدَ طويلا بأنَّ الاختيارَ سيَقَعُ على مُخرِجٍ أجنبي.
لا شكَّ أنَّ مؤنس قد أضفى على القصَّة الأصلية تفاصيل دقيقة وجميلة تتعلَّقُ بجوانب الشخصية الرئيسية وشخصيات أخرى في هذا العمل ولكنَّهُ مَكَّنَنِي من حضور التصوير وأنا الآن مُمتنٌّ له وفي غاية السَّعادة لأنَّه أتاح لي فرصة مشاركته هذا التجربة الرائعة التي ستتواصل بتقديم عملنا في مختلف الولايات والمهرجانات.
أنت متواجدٌ بِقوَّة في ميادين الثقافة والأدب والمسرح والنقد والصحافة والتنشيط الثقافي. هل يمنحك التَّعبيرُ عبر بوابة السينما ما تعجز عن منحه إياك مجالات عملك المذكورة؟
لاحظ معي أنَّ الأدب الجزائري العظيم الذي رافق المقاومة بأسمائه الكبيرة وإنتاجه الثريِّ بِاللُّغَتين لم يتمكن من الحصول على جماهيرية واسعة كالتي نالتها مجموعة الأفلام القليلة التي أنتجناها منذ الاستقلال والتي أثَّرت في وجدان الجزائريين بشكل أعمق وأخطر. بالنِّسبة للأفلام الثورية مثلا، كُلُّنا يحفظ عن ظهر قلبٍ تعابير أصبحت اليوم خالدة مثل (علي موت واقف!) في فيلم الأفيون والعصا، بينما رواية مولود معمري التي اقتبس منها أحمد راشدي عمله، لم يقرأها في واقع الأمر كثيرٌ من النَّاس.
ونفسُ الأمر يمكن ملاحظته في مسلسل الحريق المقتبس من رواية محمَّد ديب. لِلسِّينما قدرةٌ ساحرة وعجيبة على الرّغم من أنَّها تبدو في مرتبة دنيا منْ سُلَّمِ الابداع وأنَّها تنزع أحيانا للفرجة البسيطة. ورغم أنِّى كتبت كثيرا في مجال الأدب والمسرح، إلا أنَّ هذا الفيلم أعتبرُه أجمل تجربةٍ في مساري الإبداعي.
لقد مكَّنَنِي من الالتقاء بجمهور عريض ومُهتمٍّ في العديد من المناطق على الرغم من أنَّ التوزيع التجاري لم ينطلق بعد. ولذا، سأستمر بكُلِّ متعة في الكتابة للسينما، عن ثورة التحرير أساسا، بل إنَّ لي سيناريو قيد الكتابة عن الشهيد ديدوش مراد وآخر عن مشاركة الجيش الجزائري في حرب أكتوبر، مقتبس من روايتي (فخٌّ في تل أبيب).
سمعناك تتحدث عن عبقريات رجال الثورة وتقارنها بعبقريات العقاد. حدِّثنا عن الشهيد زيغود يوسف، عن التفاصيل المهمة التي لم ترِدْ في فيلم مؤنس خمَّار.
أعتقد أن زيغود يوسف يحتاج لأكثر من فيلم مثله مثل باقي عظماء ثورة التحرير وأنا أصفهم بالعباقرة لأنهم تمكنوا ببنادق الصيد البسيطة من إخراج الفرنسيين بعد استعمار طويل دام قرنا وثلاثين سنة كاملة. لا تنس أنَّ أغلبهم كانوا في ريعان الشباب (زيغود يوسف انخرط مبكرا في صفوف النضال والمقاومة وكان ناشطا سياسيا بحزب الشعب الجزائري ولاحقا بحركة انتصار الحريات الديمقراطية، ثم قاد مظاهرات 8 ماي 1945 على مستوى قريته وعمره آنذاك 24 سنة).
وهذه التجارب جعلت منه شخصية كاريزماتية ومكّنته من البروز سريعا كواحد من مُخطِّطِي ثورة التحرير المجيدة. ولا شك أنَّنا، مهما تحدثنا ووصفنا، لن نوفي هجومات الشمال القسنطيني حقَّها من الاهتمام.
إنَّ أحداث 20 أوت 1955 شكّلت نقطة تحول كبيرة في مسار الثورة الجزائرية بعد أن نقلتها الى أروقة الامم المتحدة لأوَّلِ مرَّة، بعد أن حاولت فرنسا تقزيمها في مُجرَّدِ حوادث وشغب.
زيغود يوسف الشاب اليتيم والفقير الذي ولد سنة 1921، ببلدية كوندي سمندو لم يتمكن من مواصلة دراساته وتوقَّفَ في الابتدائي، ولكنَّه كان يجمع بين الذكاء الحاد والمهارة اليدوية وكان يشتغل بالنجارة والحدادة ويصنع أدوات الحرث والحصاد لينقلها للفلاحين في حقول ومداشر الشرق الجزائري حتى أصبح يحفظ عن ظهر قلب المناطق والمسالك والجبال التي ستصبح مسرحا لنشاطه العسكري، وقد مكّنته هذه التجارب من التواصل وبث الوعي والحماسة في أوساط المواطنين الذين كانوا يُقدِّرونه ويلقّبونه بـ"سيدي احمد"، لِمَا كانوا يلاحظون فيه من صفات القائد الشعبي المتواضع المنضبط والصارم في آن.
وفيلم مؤنس خمَّار لم يتعرض لتفاصيل كثيرة في حياة زيغود ولكنَّه استطاع في نظري أن يشير لها بذكاء ليترك المجال للمشاهدين حتى يبحثوا عنها بعد ذلك في الكتب والمراجع التاريخية الاخرى.
هذه أوَّل تجربة لك في كتابة السيناريو. هل كان من الصعب البداية بفيلم مقتبس من سيرة ذات صيت ذائع؟ هل كنت مثلا تُفضِّل أن تبدأ بقِصَّةٍ لا تتقيَّدُ أحداثها بضوابط تاريخية صارمة ومحددة؟
أعتقد أنَّ المرحلة الحسَّاسة التي تمرُّ بها بلادنا تتطلب إنتاج أعمال سينمائية تُمجِّد التاريخ وتدعونا للالتفاف حول القيم المشتركة والافتخار بالانتماء. وهذه الافلام صعبة لأنها تتطلب أقصى حد من الصِدقية والدقة.
ثم إنَّ هذه الأعمال لا ينبغي أن تكتفي بتوثيق التاريخ لأنها مطالبة بتجاوز الحقيقة أحيانا، وذلك قصد إحيائها بتفاصيل خيالية من إبداع الكاتب وأخرى من إبداع المخرج. وفي سيناريو فيلم زيغود، استعنتُ بمراجع عديدة منها مذكرات المجاهد الكبير لخضر بن طوبال ومنها شهادات حيَّة نقلتها عن المجاهدين الذي عرفوا الشهيد ورفاقه الآخرين مثل أرملته وابنته شامة، ثم حاولنا أن نختار ما يناسب العمل السينمائي وما يمكن أن يختصر في ساعتين من العرض لأن المبدع السينمائي يملك حقَّ التأكيد على المحطات التاريخية الأساسية وإغفال المحطات التي يرى أنَّها غير مهمة.
إنَّ الاشتغال على سِيَرِ الشهداء ليس بالأمر الهين كما يظن البعض، فأنت مطالب بأقصى حد ممكن من الاحترام والأمانة الفكرية والأخلاقية خاصة إذا تعلَّقَ الأمر بشخصية عظيمة مثل شخصية زيغود ولذا، حرصت على التوثيق الدقيق، ولم أنجر للمبالغة والابهار وحاولت سرد الوقائع بحذر سواء تعلق الامر بالشهيد نفسه أو برفقائه أو بالشخصيات الفرنسية.
سؤالٌ يفرض نفسه: هل الشخصيات الفرنسية التي ورد ذكرها في القصة (الضابط النزيه والصحفية المستقلة على سبيل المثال) حقيقية أم أنَّها فقط من خيال الكاتب الذي يضطر أحيانا لِصُنعِها حتى يُمرِّر أفكارا معينة عن التسامح والمروءة وعن صراع الحضارات؟
كان يجب أن يكون هناك شخصيات من المعسكر الآخر وكان يجب تخَيَّلُها لخلقِ نوعٍ من التوازن. هذا تقليدٌ محمود في السينما الجزائرية.
ومثل هذه الشخصيات وُجِدت بالفعل، منهم أشخاصٌ معروفون ومنهم من سقط في طيَّاتِ النسيان.
شخصية الأسير وُجِدت بالفعل وقد رواها لي المجاهد الكبير عمَّار بن عودة الذي حاورته قبل أن أشرع في الكتابة.
أمَّا عن الصحفية المستقلة، فإنَّ التاريخ يذكرُ أسماء كثيرة لصحفيات وصحفيين فرنسيين يساريين وآخرين من أمريكا وأوروبا ساعدوا الثورة ونقلوا الحقائق بالصوت والصورة مباشرة من المدن والجبال. الأسماءُ عديدةٌ ولا يَتَّسِع المجال لذكرها جميعا.
ولكن ألا ترى أنَّنا أصبحنا، في أفلامنا الأخيرة، نبالغُ في إقحام شخصيات من الضفة الأخرى والإشادة بمواقفها، على حساب الشخصيات الجزائرية في بعض الأحيان؟
لقد سألتني منذ قليل إن كان الامر يتعلَّقُ بتمرير أفكار معينة عن التسامح والمروءة وعن صراع الحضارات.
للأسف، هناك أفلام جزائرية بالغت في هذا الأمر حتى أنَّ اللُّغة الفرنسية أصبحت تطغى على لغة الحوار في بعضها.
وأغلب هذه الافلام من فئة الإنتاج المشترك المُوَجَّهِ للأسواق الاجنبية قبل الوطنية. طبعا، لا زلت أؤمن بأنَّ السرد السليم يتطلب خلق التوزان المنشود لعرض كل وجهات النظر، ولكنِّي أصِرُّ على أنَّ المُشاهِد الجزائري ينبغي أنْ يظلَّ صاحب الأولوية في اهتمامنا.
في فيلمنا، حاولنا أن نخلق هذا التوزان، ولم نسمع خلال المناقشات التي تلت العروض الشرفية، منْ أشْعَرَنَا بتهميشنا لزيغود يوسف لصالِحِ خصومه في المعسكر المقابل.
وأعتقد أنَّ الفيلم حمل عددا من الشخصيات من الجانب الآخر مثل شخصية الأسير لغرض واضح هو رغبتنا في تعرية الخطاب الاستعماري وفضح أساليبه اللاإنسانية، مقابل مبادئ جيش التحرير الوطني.
لقد ارتكب الاستعمار جرائم كبيرة في حق الشعب الجزائري، لقد حاول أن يغتال الإحساس بالهوية في نفوس الجزائريين ليُحوِّلَهم إلى أشباح منفصلين عن تاريخهم وفيلم زيغود يوسف ليس فقط عملا حربيا وطنيا، إنَّهُ عمل فنِّيٌّ يتغنى بالشجاعة والتضحية والإخلاص والمروءة والايثار والشرف وغيرها من القيم الانسانية التي تشترك فيها كل الشعوب التوَّاقَةِ للعدل والحرية.

حاوره عمر خضرون
مؤنس خمَّار: من الطبيعي أن تكون وجهة نظري لصالح الشعب الذي أنتمي إليه.
في حصيلة المخرج والمُنِتِج السينمائي مؤنس خمَّار الكثير من المساهمات التي نال بها الاعتراف وطنيا ودوليا.
ولعل أهمها تمكنه من المشاركة في إنتاج أفلام لمخرجين مُكرَّسين في عالم السينما أمثال فيليب فوكون وغيره وكذا مساهمته في فيلم الغوستو، اللافت للأنظار.
أبرز ما يمكن ذكره في سلسلة الأفلام النَّاجحة التي أخرجها للسينما هي الأفلام القصيرة "نروحو" و"المسافر الأخير" المُتوَّجة في العديد من المناسبات وكذا كليب "أيَّام" الذي استطاع فيه أن يتجاوز رحيل المطربة الكبيرة وردة الجزائرية وأن يُعوِّضَ حضورها بحلول تقنية غير مسبوقة آنذاك.
زيغود هو أوَّلُ فيلم روائي طويل يخرجه مؤنس خمَّار.
يُدركُ المشاهدُ، بوضوحٍ، العمقَ الكامن وراء هذا الفيلم الروائي الطويل الأول في مسيرتك الفنية، ويستشعرُ ما يحمله من خبرةٍ وتجربةٍ ثرية.
لا شك أن هذه التجربة هي نتاجُ تراكمٍ لمساهماتٍ متعددة، سواء في الإنتاج أو كمساعد مخرج، وربما وليدة شغفٍ ومشاهداتٍ غزيرة لأفلام الحرب والمقاومة العالمية والجزائرية.
في ضوء هذا، نودُّ أن نستكشف معك: ما هي الأفلام الجزائرية والعالمية التي أسهمت في صقل موهبتك السينمائية؟ من هم المخرجون أو الأسماء الفنية التي استلهمت منها رؤيتك، وكيف تجلّى هذا الإلهام في عملك؟
صراحة، لا يأتي في ذهني الآن اسم مخرج على وجه التحديد، ولكن المؤكد هو أنّي تعلَّمتُ الكثير من الأفلام التي شاهدتها. لقد نشأتُ، مثل العديد من المخرجين في جيلي، في عالم تميّز بإنتاج غزير للأفلام.
لقد تربَّيْنا جميعا على مشاهدتها بالعشرات وفي وسائط مختلفة. ومن الطبيعي أن يكتسب المخرج لغته السينمائية جرَّاء ذلك، لغة تنشأ من الأعمال والمشاهدات السابقة. ولكن، إنْ وجب أنْ أذكر عملا فنِّيًّا بالتحديد، فسيكون بكل تأكيد مسلسل "الحريق".
لقد تأثرت بنجاح مُصطفى بديع في تقديم بيئة جزائرية خالصة بلغة سينمائية عالمية، بعيدة عن أي تقليد. هذا العمل يعتبر تحفة على كلّ المستويات وأنا أعتبره سابقا لعصره. لاحظ أنَّ أكبر المنصات العالمية صارت اليوم تقدّم مسلسلات قصيرة بمقاربات سينمائية خالصة تختلف جذريا عن معايير المسلسلات التلفزيونية الكلاسيكية، وهذه الطريقة في التصور عمل بها مصطفى بديع قبل خمسين سنة.
اليوم، صارت اللغة السينمائية سردا بصريا يتنقل بين أشكال زمنية وفنية مختلفة بكثير من الحرية والابهار، سواء أكان ذلك في فيلم أو في سلسلة من بضعة حلقات، وأنَّ ذلك أصبح يستهوي النُّقاد وجمهور المهرجانات السينمائية الكبيرة لدرجة أن مهرجان البندقية، أقدم المهرجانات العالمية وأعرقها، قام بعرض سلسلتين أو ثلاث دون حرجٍ في إحدى دوراته السابقة.
أخضعتَ سيناريو أحسن تليلاني للمعالجة الدرامية من قبل مُتعاونين آخرين. كيف كان عملك في هذا الجانب؟
السيناريو هو خارطة الطريق لأيِّ فيلم. ولكن من الطبيعي أنْ يتطور السيناريو في مرحلة التحضير والتصوير ليتأقلم مع معاينات المخرج وفريقه، وليتناسب مع الديكورات المختارة مثلا، وكذا مع طبيعة الممثلين، ومع رؤية المخرج.
بُنيةُ الفيلم تتطور أيضا خلال مرحلة المونتاج. السيناريو هو الخطوة الأولى في مجموعة المراحل التي تدخل في صناعة الفيلم، ولِكُلِّ مرحلة، بالطبع، متطلباتها. ولِذَا، جاء تدّخُلُ المتعاونين في هذا الإطار المُحدَّد، وهو الإطار المعمول به في أغلب المشاريع السينمائية، خصوصا التاريخية منها، فهي دائما تبدأ من المؤلف، ثمّ يأتي دور المستشارين ومراجعي السيناريو، ما نُسمِّيهم في مِهْنتنا بال script doctors.
مِنْ بين القضايا الجوهرية التي يحملها الفيلم، يبرز، في نظري، موضوعٌ لا يقل أهمية وعمقًا، ألا وهو فكرة اللقاء العابر أو المستحيل. يتجلى ذلك أولاً بين ديدوش مراد ورفاقه؛ إذ سرعان ما يفارقهم، بل يرفض عونهم في مواجهة مصيره وحيدًا. ثم يتكرر هذا البُعد بين الشهيد زيغود يوسف وابنته "شامة".
كما يظهر بين زيغود وضابط التحقيقات الفرنسي المتردد، الذي يبدو مهيأً للانتقال إلى الضفة الأخرى لكنه لا يفعل ذلك في نهاية المطاف. وأخيرًا، نلمس هذا البعد بين الضابط نفسه والصحفية الأجنبية المستقلة، في إطار ما يشبه مشروع علاقة عاطفية لم يُقدَّر لها الاكتمال.
نعم صحيح، مع التَّوضيح أنَّهُ في الفيلم، وبعد أن يُصاب ديدوش بطلقات قاتلة، يأمر رفاقه بالانسحاب كيلا يقعوا في يد العدو، مُفَضِّلا الاستشهاد لوحده حتى تستمرَّ الثورة، وهذه فكرة عن القائد الذي يُضحِّي بنفسه من أجل أن تعيش القضية، عن القائد الذي يظل وفيًّا لمبادئه إلى الرمق الأخير.
فكرةُ اللقاء العابر والمستحيل صحيحة، لأنّ الاستعمار الفرنسي، قبل أن يكون ضِدًّا للنَّاس والأرض، كان ضِدًّا للحياة، والثورةُ قامت لبعث الحياة فوق هذه الأرض الطاهرة، بكل ما تعنيه الحياة من حُريَّةٍ ولقاءات وعلاقات إنسانية.
أمَّا بالنسبة للضابط الفرنسي، فإنَّ تردُّدَه ليس معناه أنَّه كان يريد الانتقال الى الجانب الآخر، فلا يوجد في الفيلم ما يُوحي بذلك. ترُدُّدُه كان بسبب الضمير المعذب، وهو يعترف بأنَّه أداة في منظومة استعمارية مرتزقة ترتكز على الابادة ونهب الموارد بذريعة نشر الحضارة.
وهو لا يرمي لإنشاء علاقة عاطفة بينه وبين الصحفية، ولكنَّه يتصرف بشكل يوحي بأنَّه كان يشعر بالخزي أمامها، جَرَّاء انتمائه لتلك المنظومة التي فضحها زيغود أمام العالم.
هناك اشتغالٌ كبير على إدارة الممثلين، ولا يبدو أنك تسمح بكثير من الارتجال. لقطة الأم وهي تجهد لإطلاق الزغاريد بينما تخنقها الدموع كانت مؤثرة وفريدة في تجسيد هذا التوجه الإخراجي. ما هي فلسفتك في التعامل مع الممثلين، وكيف كانت معايير اختيارك لهم؟
الدِّقةُ أمرٌ مُهِمٌّ للغاية في الأعمال الفنِّية، وهي ذات أهمية أكبر في السينما لأسباب تقنية مُتعدِّدة. فكما تعلم، تُصوّر المشاهد من زوايا مختلفة، وغالبا ما يعاد تمثيل نفس المشهد أكثر مِنْ مرَّة، لِذَا، مِنَ المُهمِّ أن يكون أداء الممثلين دقيقا لكي نستطيع ربط المشاهد فيما بينها أثناء المونتاج، وهذا بإمكانه أن يجعل أداءهم، في المحصلة، أكثر قوة ومتانة.
ولكن هذا لا يمنع أن يكون للممثل مساحة حرية تمكنه من إثراء أدائه وإظهار لمسته في الإطار الفنّي العام للفيلم.
أما بالنسبة للكاستينغ، فقد اخترت الممثلين أساسا حسب أدائهم وحسب تشابههم مع الشخصيات، مع إيلاء أهمية كبيرة لاختيار مُمثِّلين من ولايات الشرق الجزائري لأسباب موضوعية تتعلق بملامح الأشخاص وطريقة نطقهم وتحدُّثِهم في تلك المناطق.
كان جاك ريفات يجزم بأنَّ صانع الفيلم يُقيِّمُ الأمور بناءً على ما يطمح إلى إظهاره في عمله، في حين يقيس المشاهدون قيمة العمل ويحكمون عليه وفقًا للكيفية الذي أُنجِز به. انطلاقًا من هذه الفكرة، يبرز التساؤل: هل يمكنُ (أو بالأحرى، هل ينبغي) لمخرج الأفلام التاريخية أن يكون له رأي ووجهة نظر شخصية واضحة؟
هذا أكيد، ولكنَّ وُجهة النَّظرِ هذه ينبغي أن تكون فنِّيةً قبل كل شيء، فأنا أعتقد أن إنجاز الافلام التاريخية ينبغي أنْ يتمَّ وفق مقاربة فنية لأحداث حقيقية وقعت بالفعل.
ماعدا ذلك، فأنا مواطن جزائري، إبن مجاهد ومجاهدة، ولذا كان من الطبيعي أن تكون وجهة نظري لصالح الشعب الذي أنتمي إليه، وأن يكون توجهي مُطابقا للمبادئ التي يُمثِّلهما زيغود في الفيلم.
الأمرُ لا يتعلَّقُ فقط برأيٍ أو بخيارات فنية، الأمرُ يتعلَّقُ بأسسٍ ومبادئ تربَّيْتُ عليها طفلا واستَوْعبتُها كبيرا.
ليس هناك أجلّ وأعظم من النِّضال الذي قام به أجدادُنا لتحريرِ الأرض، ولن أكون صادقا إنْ لم أعبِّر عن الفخر بهذا النضال وبهذا التاريخ الذي يمثل جزءا أساسيا من هويتنا.
ولكن هل يَسَعُكَ أنْ تُنْكِر حقيقةَ أنَّ عملك هذا يندرج ضمن فئة "أفلام التكليف" (les films sur commande)، ما يعني أنَّهُ نابٍعٌ من تكليف رسمي يفرض ضوابط محددة ومسبقة؟ بعبارة أخرى: كيف يتسنى التعبير عن الرؤية الشخصية أو وجهة النظر في مثل هذه الحالات؟
في تاريخ السينما العالمية، هناك الكثير من الأمثلة عن الأفلام التي بادر بها المنتجون ولقيت استحسان النُّقاد بعد ذلك. ويتبادَرُ لذهني هنا فيلم توب غان الشهير الذي أطلق نجومية توم كروز في عالم السينما.
هذا الفيلم جاء بطلب من القُوَّات الجويَّة الأمريكية ولكنَّ مُخرِجه توم سكوت استطاع أن يصنع فيلما خاليا نوعا ما من الديماغوجية بل إنَّ كثيرا من المشاهدين أعْجِبُوا بقِصة الفيلم وحبكته وراح الكثير من الشُبَّان يهتمُّون بعالم الطيران والدفاع الجوي بعد مشاهدته.
عندنا، لا يمكن أنْ ننسى فيلم (تحيا يا ديدو) الذي أخرجه محمد زينات بطلبٍ من بلدية الجزائر العاصمة. إنَّهُ مثالٌ رائع عن الأفلام التي يمكن أن تنفرد بجمالها وشاعريتها على الرغم من ضوابط الإنتاج التي ذكرتها.
بإمكان الأفلام المنتجة بطلب من الشركات المنتجة، رسمية أو غير رسمية، أن تكون حاملةً لوجهة نظر مخرجها الذي يبقى صاحب الكلمة الأخيرة في نهاية الامر، خاصة فيما يتعلق بالجوانب التقنية والجمالية. نعم، يمكن للمخرج أن يُعبِّر عن حسِّه الفنِّي حتى وإن كان عمله بطلب من هيئة رسمية أو شركة إنتاج.
لقد عملْتُ، من جهتي، في جوٍّ من الاحترام والثقة بيني وبين منتج الفيلم وزارة المجاهدين ولن أتردَّدَ لاحقا في قبول العروض المشابهة التي تتوافق مع المبادئ الفنِّية التي أؤمن وأعمل بها.
وبالمناسبة، يطرح هذا الفيلم إشكالية الذاكرة بصفة ضمنية غير مباشرة. هل تؤمن بأن للسينما، وللفن بصفة عموماً، قوّةٌ علاجية قادرة على تضميد الجراح؟
دوْرُ السينما والفن هو إحياء الذاكرة الجماعية بصفة مستمرة، ولكنَّي أفضل كلمة إحتفائية عوض كلمة علاجية، لأنّ الشعب الجزائري انتصر في ثورته وهي أعظم الثورات المعاصرة على الإطلاق.
لقد ثار الشعب الجزائري الأعزل ضدّ أكبر امبراطورية استعمارية آنذاك وتمكنّ من افتكاك حريته بالكثير من الشجاعة والعبقرية وكثير من التضحيات، وما كان ذلك لِيتِمَّ دون الأحداث الأليمة التي وقعت أثناء الحرب وقبلها، ولكنَّ حُدُوثها كان ضروريا لتحقيق النصر، نصرٌ لا مثيل له في التاريخ الحديث. عندما ينتصرُ المُحارِب، يحتفي بالنَّصرِ قبل أن يُضمِّد جراحه، ورُبَّما يبدأ في احتفاله والدماء ما تزال تنزف، وهذا لا يعني أنَّه سينسى جراحه أو يشفى منها.
أظنّ أنَّهُ من واجبنا أن نتذكَّر دائما جراح الماضي، لكن بِنشْوةِ الانتصار لا بغيره، حتى لا ننسى ما قام به الشهداء والمجاهدون، وحتى لا ننسى أنَّ الحرية التي ننعم بها لم تأت من عدم.
حاوره عمر خضرون

