1859
0
محمد بن عبد الكريم المغيلي ...عالم نشر الإسلام في إفريقيا وطرد اليهود من تمنطيط
في تلمسان، بلد الحضارة والقِيَم، ترعْرع محمد بن عبدالكريم المغيلي في أحضان مغيلة، وهي فرْع من قبيلة صنهاجة، ولاية تيارت حاليا. وذلك سنة 831 هـ الموافق لسنة 1427 ، عاش في كنف أسرة عُرفت بالعِلْم والأخلاق الفاضلة.
مريم بوطرة
كان الابْنُ يرى طلاَّب العلم يتوافدون على والدِه عبدالكريم الَّذي اشتهر بالعلْم والورع والتَّقوى، فرَأَتْ عيْنا الطفل محمَّد الأب الوقور الَّذي يحترمه النَّاس، وكان يجلس معه يستمِع لكلامه الَّذي تتلقَّفه آذان المريدين بكلّ شغَف وحبّ، وعندما ينتهي الوالد مِنْ حلقتِه يَخرج الطلاَّب بكلِّ وقار واحتِرام وهُم يقبِّلون رأس العالِم وابنِه، ينظر لكلّ هذه المشاهد التي رسخت في مخيلتِه وسنراها فيما بعدُ تَكْبر معه، وتكون هي اللبنة النيّرة التي كوَّنت شخصيَّة هذا الطفل.
دراسته
تلقى دراسته الأولى بتلمسان حيث حفظ القرآن على يد السيد احمد بن عيسى المغيلي التلمساني المعروف بالجلاب، كما اخذ عنه أمهات الكتب الفقهية كالرسالة ومختصر خليل وبن الحاجب وبعض كتب بن يونس كما تتلمذ على يد يحي بن يدر و تربى على يد أبي العباس الوغليسي فقد أجاد عدة فنون مختلفة، فتفقه في مذهب الامام مالك بن أنس وقد ساعده على التحصيل ذكائه المتقد و مكارم اخلاق التي اتصف بها، لقد نمت في نفسه بذور الصوفية وغذاها اتصاله بالشيخ العالم سيدي عبد الرحمن الثعالبي، الذي تتلمذ عنده فلازمه فترة لا بأس بها حيث لم يكن يومئذ من الشيوخ المغاربة من يفوته في علم الحديث، كما أخذ عنه التفسير والقراءات، وبصورة أخص علم التصوف ولما تمت الصحبة بينه وبين شيخه الثعالبي صاهره بابنته زينب والتي أنجبت له ثلاثة أبناء وكانت له زوجة ثانية تزوجها أثناء تواجده بالسودان الغربي.
وصايا الشيخ الثعالبي لتلميذه المغيلي
من الوصايا الهامة التي أوصى بها الشيخ الثعالبي تلميذه المغيلي عند عزمه الرحيل إلى تلمسان، أنه دعاه بألا يعاشر أهل سفاهة، وأن لا يستوطن مكان إهانة، حيث أنه بعد هذه الرحلة التي توسعت فيها مداركه ومعالمه وتزود بما يكفيه ليكون مدرسا وشيخا، تتلمذ على يديه عدد لا بأس به من الطلاب كما أنه بقي مواصلاً تحصيله العلمي بتلمسان، غير أن الحال لم يستقم له بها نظرا لتوتر الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية بسبب ما أحدثه اليهود من أمور ليست من الدين في شيء، فقرر مغادرة تلمسان متجها إلى القصور التواتية.
الوظائف التي تقلدها :
من خلال الرحلات العديدة التي قام بها الإمام المغيلي إلى عدة بلدان إفريقية في سبيل إصلاح المجتمعات فاتصل بعدة علماء أنذاك ونظرا لعلمه وإدراكه الواسع وسمعته الطيبة بين الناس جعلته يتقلد عدة وظائف منها: - منصب قاضي الجماعة التواتية كداعيا لنشر العلم فكان عالما وثوريا وسياسيًا حيث أنه وبعد استقرار الأوضاع في توات أوكل له منصب قاضي فتصدى لأخطر مسألة عرفتها المنطقة في عصره ه وتباين حولها آراء العلماء، فأفتى صراحة بعدم جواز استحداث اليهود كنيسة في تمنطيط وتوات، فأصبح المغيلي إماما بالمسلمين بهذه البلاد.
وكان داعيا ومصلحا ثم مستشارا ثم رئيسا للقضاء والإفتاء إلا أن أصبح مدرسا وواعظ ومرشدا واستقر بمدينة تيقدا، حيث كانت مزدهرة بالثقافة والفنون وتعج بالتجارة فاشتغل فيها بالتدريس والوعظ والإرشاد .
زاوية الإمام المغيلي
أسس الإمام المغيلي زاويته بقصر بوعلي على إثر الخلاف الذي وقع بينه وبين شيخ زاوية أبي يحيى النياري عبد الله العضوني وهذا سنة (885هـ - 1480م)، وبدأ نشاطه التعليمي بها وسرعان ما جمعته هذه الزاوية بين المهمة التعليمية والمهمة الحربية حيث كانت قاعدة لانطلاق جيش المغيلي لضرب قواعد اليهود.
فكانت بالدرجة الأولى مركزا للعبادة والتعليم والتربية. – كانت مقرا لثاني أكبر دار للقضاء بتوات، بعد مركز تمنطيط وقد كانت تختص في الفصل في القضايا والخصومات والنوازل، وكان الشيخ المغيلي يشرف بنفسه على جميع هذه القضايا ملتزما بتطبيق الأحكام الشرعية التي يراعي فيها دائما خدمة المصلحة العامة.
وفاته ومؤلفاته :
بقي المغيلي في بلاد السانغاي مدة من الزمن يواصل عمله الإصلاحي الديني والثقافي إلى أن بلغه نبأ قيام اليهود بقتل ابنه الشيخ عبد الجبار في توات، فغضب وتألم وطلب من الأسقيا أن يعتقل كل التواتيين ففعل ولم يخالف رأيه، ولكن الشيخ أبا المحاسن محمد أنكر على المغيلي ذلك وعاتبه وقال له ما ذنب هؤلاء هنا بالسانغاي، وبما فعله أولئك بتوات فأصغى لرأيه واستصوبه، وتدخل لدى الأسقيا ورجاه أن يطلق سراحهم فامتثل لرغبته كذلك، وبعد ذلك عاد المغيلي إلى توات ليرى بنفسه ويعاين ماذا جرى، وعاد معه جمع من أصحابه وتلاميذه واستقر بها وتوفي سنة 909هـ/1503م ودفن في زاويته.
خلف المغيلي وراءه تلاميذ كثيرين يعدون بالآلاف في غرب إفريقيا ما يزالوا يدينون حتى اليوم له بالولاء الفكري والأدبي، ويعترفون بفضله على مجتمعاتهم الإسلامية، وكتب كثيرون عنه وعن سيرته الشخصية والاجتماعية والثقافية، مثل أحمد بابا التنبكي، وابن مريم المليتي، والزركلي، وحسن ،غوارزو، وبروكلمان وزبادية، والمقري واليفريني وغيرهم، وعدوه من كبار المصلحين ببلاده السودان الغربي خلال القرنين التاسع الهجري والخامس عشر الميلادي.
ومع ذلك فإن جوانب كثيرة من حياة المغيلي ونشاطه العلمي والفكري والأدبي ما تزال مجهولة وتحتاج إلى بحث وتدقيق وتمحيص وفرز .
إن جهود المغيلي في توات والسودان الغربي رائدة حتى في المجال السياسي وجدير بأن يخلد عمله بإبراز اثاره الفكرية والأدبية وإقامة معهد إسلامي باسمه يواصل رسالته الحضارية.
وقد خلف المغيلي من ورائه كذلك إنتاجا فكريًا غزيرا في ميدان التأليف، وما يزال الكثير منه مخطوطا ومحفوظا لدى تلاميذه والمتشيعين له من الأسر الإسلامية في بلاد السودان الغربي.
مؤلفاته :
- تاج الدين فيما يجب على الملوك والسلاطين،أسئلة الأسقيا وأجوبة المغيلي البدر المنير في علوم التفسير - مصباح الأرواح في أصول الفلاح، تنبيه الغافلين عن مكر الملبسين بدعوى مقامات العارفين، وشراح خطبة المختصر ومقدمة في العربية، وكتاب الفتح المبين وفهرسة مروياته، وعدة قصائد كالميمية على وزن البردة ورويها في مدحه للرسول صلى الله عليه وسلم . له تأليف في المنهيات ومختصر تلخيص المفتاح ، وشرحه، ومفتاح النظر في علم الحديث فيه أبحاث مع النووي في التقريب، وشرح جمل الخونجي في المنطق ومقدمه فيه شرح البيان في علم التبيان شرح- منح الوهاب في رد الفكر إلى الصواب رسالة في الخلافة - إتمام الأنجال في أحكام الآجال ثلاثة شروح على منظومة منح الوهاب.
وفي الختام يمكن إعتبار المغيلي من بين أعظم العلماء الذين جالوا أقطار العالم الإسلامي عامة، والمغرب الإسلامي خاصة ،حيث اشتهر بمواقفه السياسية الصارمة وبنشاطه الإصلاحي المجدد، كما كان له دور بارز في الجانب العلمي والدعوي والذود عن دينه وإصلاح مجتمعه، كما اشتهر أيضا بكرهه وحقده الشديد على اليهود الذين كانت لهم مواقف سيئة بتمردهم على الحدود الدينية فثار عليهم وفق ما تحدده الشريعة الإسلامية من واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
كما كان له دور بارز في إقليم توات والسودان الغربي من خلال عمله الدعوي والإصلاحي بنشر أفكاره وحماية الدين الإسلامي ونشر العقيدة الإسلامية الصحيحة القائمة على الكتاب والسنة.