2318
1
مفهوم العلم في الفكرين الإسلامي والغربي
بقلم د. عبد الله لعريبي
أستاذ بالمدرسة العليا للأساتذة بالقبة حاليا، وبالمدرسة الوطنية المتعددة التقنيات بالحراش سابقا.
مقدمة
للعلم تعاريف عديدة ومفاهيم متنوعة. ولقد اختلفت المدارس الفكرية الإسلامية منها والغربية، قديما وحديثا، في تحديد مفهومه، فليس من السهل إعطاء جواب شاف عن سؤال ما العلم؟
لهذا نرى ريتشارد فاينمان (1918-1988) Richard Feynman، العالم الأمريكي الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1965، يقف موقفاً صريحاً من غموض مفهوم العلم ومعناه، فيقول: "اشتغلت بالعلم طوال حياتي عارفاً تماماً ما هو، ولكن الإجابة عن السؤال: ما هو العلم؟ هو الأمر الذي أشعر أني عاجز عنه!" [7].
بينما ذهب أبو الحسين بن اللبان (ت 402ه) إلى عدم الجدوى من تعريفه: "لأنه أظهر الأشياء، فلا معنى لحده بما هو أخفى منه." [2].
ويُعد مفهوم العلم "من المفاهيم الرئيسية في الدراسات المعاصرة؛ خاصة مع الجدل المتزايد حول حصر مفهوم العلم في الجانب التجريبي، والتساؤل بشأن علمية البحوث الاجتماعية، وإقصاء الدراسات الدينية والشرعية من وصف العلمية باعتبار المعرفة الدينية “ما ورائية” وقضاياها غيبية لا يمكن اختبارها بالتجربة المعملية التي هي مقياس ومعيار العلم التجريبي الحديث." [13].
نحاول، في هذا المقال، ضبط مفهوم العلم في الفكرين الإسلامي والغربي، وبيان أوجه الاتفاق والتباين بينهما وأسباب ذلك.
1. العلم في الفكر الإسلامي
يتبوأ العلم مكانة مرموقة في القرآن الكريم والسنة النبوية، ويكفي أن نُذَكّر بأن أول ما نزل من القرآن الكريم الآيات الخمس التالية: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)﴾ [سورة العلق]، التي تتناول قضية واحدة تقريبا، وهي قضية العلم، وافتتحت بكلمة ﴿اقْرَأْ﴾ التي هي مفتاح كل العلوم والمعارف.
العلم لغةً واصطلاحاً
العلم نقيض الجهل، ويطلق في اللغة على "المعرفة". يقال: عَلِمت الشيء أي عرفته. "فالعلم في معناه اللغوي إنما سمي علما لأنه علامة يهتدي بها العالم إلى ما قد جهله الناس، وهو كالعَلَم المنصوب في الطريق. أما تحديد العلم في صناعة الاصطلاح فمن العسير تحقيقه تحقيقا يتفق عليه الباحثون في القديم، وفي عصرنا هذا أيضا." [7].
"وجاءت كلمة العلم في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم مطلقة، ودونما تقييد أو تحديد؛ فهي تشمل كل علمٍ نافعٍ يهدف إلى خير الدنيا وعمارة الأرض، وكل علمٍ يهدف إلى صلاح الناس، والقيام السليم بواجبات الخلافة البشرية على هذا الكوكب." [5].
العلم عند فخر الدين الرازي
عرّف الإمام فخر الدين الرازي ( 543ـ- 606هـ/ 1148 - 1209م) العلم بقوله: "العلم والمعرفة عند من يرى ترادفهما درجات، تبدأ من الاتصال الحسي إلى التجريد العقلي إلى المرور في مراحل الحفظ والتفكير، وهو كذلك حدس داخلي، أو معرفة وجدانية، وهو كذلك إدراك للجزئيات كما أنه إدراك للكليات، إدراك للبسيط كما هو إدراك للمركب، وله طريق حسي، وطريق قلبي، وطريق عقلي، وبعضه إدراك بديهي، لا يحتاج إلى دليل ونظر وكسب، وبعضه الآخر كسبي يحتاج إلى النظر والاستدلال." [1].
وللعلم والمعرفة مترادفات كثيرة، يمكن إحصاؤها من خلال اللغة والاستعمال ومن خلال بعض آيات القرآن الكريم. ولقد أحصاها الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله في تفسيره الكبير، فوجدها ثمانية وعشرين مرادفاً وهي: "الحفظ، التذكر، الذكر، المعرفة، الفهم، الفقه، العقل، الدراية، الحكمة، علم اليقين، الذهن، الفكر، الحدس، الذكاء، الفطنة، الخاطر، الوهم، الظن، الخيال، البديهة، الأوليات، الروية، الكياسة، الخبرة، الرأي، الفراسة، الإدراك، الشعور." [1].
وجوه التباين بين العلم والمعرفة
ومع اعتبار أن العلم والمعرفة كلمتان مترادفتان في نظر البعض، "من حيث أن كلا منهما يعني إدراك الشيء على ما هو عليه، إلا أن ثمة تباينا بينهما من الوجوه التالية:
1. المعرفة مسبوقة بجهل، أو إدراك مسبوق بجهل. وليس العلم كذلك، ولذلك يقال للحق سبحانه وتعالى عالم، ولا يقال له عارف.
2. كما أن المعرفة قد يراد بها العلم الذي تسبقه غفلة، وليس العلم كذلك، ومن ثم يُسمى الله تعالى العليم وعالم الغيب وعلام الغيوب ولا يُسمى عارفا.
3. تُطلق المعرفة على إدراك البسيط، ويطلق العلم على إدراك المركب، فتقول: عرفت الله ولا تقول علمته.
4. تُطلق المعرفة على ما يُدرك بآثاره ولا تُدرك ذاته، ويُطلق العلم على ما تُدرك ذاته، ولذلك يقال: عرفت الله، ولا يقال: علمته.
5. خلاف المعرفة الإنكار، وخلاف العلم الجهل، وذلك لأن في معنى المعرفة الاعتراف والإقرار.
6. وقيل: إن المعرفة تُستعمل في التصورات، والعلم يُستعمل في التصديقات، ولذلك تقول: عرفت الله ولا تقول علمته، لأن من شرط العلم أن يكون محيطاً بأحوال المعلوم إحاطة تامة. ومن أجل ذلك وصف الله تعالى نفسه بالعلم لا بالمعرفة." [9]
العلم عند محمد عبده
عرّف الإمام محمد عبده (1266-1323هـ/1849-1905م) العلم بقوله: "فالعلم هو القوة أو الصفة التي تنكشف بها المعلومات للنفس، بكسب أو بغير كسب." [12].
ويفرّق الإمام محمد عبده بين علم الله وعلم البشر بقوله: "علم الله صفة ذاتية تتعلق بكل شيء تَعَلق انكشاف وإدراك من غير سبق خفاء". [12].
علم الله وعلم البشر
بداية، نبادر إلى القول بأنه لا مجال مطلقا للمقارنة بين علم الله وعلم الإنسان، وذلك من عدة وجوه، منها:
- المقارنة بين الخالق والمخلوق متعذرة ابتداءً.
- علم الإنسان عطية من الله عز وجل لعبده، فهو الذي ﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق:5]، ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ [البقرة:31]، فلولاه، سبحانه وتعالى، ما كان للإنسان علم أصلاً.
لذلك نشير هنا، إلى بعض الفروق بين علم الله وعلم الإنسان، من حيث أن:
· علم الله لا يسبقه جهل بخلاف علم الإنسان المسبوق بجهل.
· علم الله مطلق لا يصل إلى كنهه أحد، وعلم الإنسان نسبي ويتغير مع الزمان والمكان، ويزداد وينقص، ويختلف من إنسان إلى آخر في نفس الموضوع، واليقين فيه درجات.
تقسيم العلوم
تُقسم العلوم، من المنظور الإسلامي، إلى قسمين كبيرين هما: العلوم الشرعية والعلوم الحياتية.
فالعلوم الشرعية هي "العلوم التي يُعرَف بها الله تعالى، ويُعرَف بها كيف تكون العبادة الصحيحة. ويشمل ذلك كل العلوم المتعلقة بدراسة الدين وفقه الشريعة، مثل علوم القرآن، وعلوم السنة والحديث الشريف، وعلوم العقيدة، وعلوم الفقه وأصوله، وعلوم الأخلاق، وغير ذلك مما يتعلق بالشريعة والدين. ويرتبط بهذا القسم بعض العلوم الأخرى التي يُحتاج إليها في فقه تلك العلوم الشرعية، مثل علوم اللغة والأدب والتاريخ، ونحو ذلك." [5]
أما العلوم الحياتية فهي " العلوم النافعة التي يحتاج إليها الإنسان ليصلح بها حياته، ويعمِّر بها أرضه، ويستكشف بها كونه وبيئته، وذلك مثل علوم الطب والهندسة والفلك والكيمياء والفيزياء والجغرافيا، وعلوم الأرض والنبات والحيوان، وغير ذلك من العلوم المشابهة." [5].
2. العلم في الفكر الغربي
إن كلمة" العلم" العربية تقابلها في الإنجليزية والفرنسية كلمة Science المشتقة من كلمة Scientia اللاتينية التي تعني المعرفةKnowledge .
العلم في نظر فرانسيس بيكون
العلم في رأي الفيلسوف والأديب الإنجليزي فرانسيس بيكون (1561-1626) Francis Bacon هو ذلك الذي يمكن أن يُثمر أعمالا ويؤدي إلى تغيير حقيقي في حياة الناس. وهذا يعني أن العلم الذي يُدرس في معاهد العلم الموجودة [آنذاك] ليس علما، وأنه لا بد من حدوث ثورة شاملة في نظرة الناس إلى العلم، وإلى وظيفته وإلى طريقة تحصيله.
وهكذا اتجهت دعوة بيكون إلى القيام بأنواع جديدة من الدراسات العلمية التي ترتبط بحياة الإنسان ارتباطا وثيقا، بحيث يكون هذا العلم أساسا متينا تُبنى عليه الفلسفة الجديدة، بدلا من الأساس الواهي القديم وهو التجريدات اللفظية الخاوية. [3].
انطلق بيكون من نقد العقل حيث رأى أنه يجب تكوين عقل جديد يستند إلى منطق جديد يهدف إلى استكشاف الطبيعة بدلاً من العقل القديم القائم على منطق أرسطو (322-384 ق.م) الذي ابتعد عن التجربة
واستهدف معرفة ماهية الوجود. ولذا سمى بيكون كتابه "الأورجانون الجديد" (Novum organum) الذي عارض فيه أورجانون أرسطو) أي منطق أرسطو الذي أسماه بالأورجانون أي" الأداة" باللغة اليونانية).
فإذا كان العلم القديم يبحث في ماهية الوجود من منظور نظري بحت، فإن العلم الجديد الذي يدعو إليه بيكون يبحث في الكيفية. وهذا لا يتم، في نظره، إلا عن طريق الملاحظة والتجربة اللذين بهما يمكن استخلاص القوانين التي تتحكم في الطبيعة.
يقول بيكون: "لا يمكن السيطرة على الطبيعة إلا بالخضوع لها، لا بالثورة ضدها، يجب أن نتعلم كيف نفهم الطبيعة... إن ذلك هو ما سيُمكننا من توقع نتائج أعمالنا، وبالتالي التحكم في الضرورة التي تريد الطبيعة فرضها علينا". [10].
لقد حاول بيكون التعويل على الطريقة الاستقرائية ونبذ الطريقة القياسية الموروثة من أرسطو. فقد كان من أكبر المناهضين لأرسطو، حيثُ أبرز نقائض المنطق الصوري، ودعا إلى ضرورة الاعتماد على التجربة، لأنه يرى أن العلم الصحيح هو القائم على التجربة والملاحظة.
وكان كتابه "الأورجانون الجديد "الذي بدأ في تأليفه منذ سنة1608 م ثم عدل فيه 12 مرة، ونشره نشرة نهائية سنة 1620م، من أهم الأعمال التي فتحت الطريق لإصلاح العلوم باعتماد المنهج التجريبي، الذي ابتكره العلماء المسلمون، من أمثال جابر بن حيان، والخوارزمي، والرازي، والحسن بن الهيثم، وغيرهم.
العلم في نظر أوغست كونت
إن مفهوم العلم في الحضارة الغربية قائم [أساساً] على الملاحظة بدل الاستشهاد، فالحقائق في المنظور الغربي يجب التأكد منها بالملاحظة، وليس بالرجوع إلى النصوص القديمة [أي الدينية]. [11].
ومن الذين قالوا بذلك، الفيلسوف الاجتماعي الفرنسي أوغست كونت Auguste Comte (1798-1857) الذي حصر المعرفة في نطاق التجربة والإدراك الحسي الوضعي حيث قال إنه" لا سبيل إلى المعرفة إلا بالملاحظة والخبرة"، وكل ما وراء ذلك من الأديان٬ والغيبيات مرفوض باعتباره غير علمي. لذا يرى كونت أن الغيبيات "افتقدت مبرر وجودها " لأنها كانت تؤثر في الناس بأحلامها الباطلة، قبل أن تتكاثر العلوم الوضعية. [4].
العلم في القواميس الغربية
لكلمة "العلم" عدة تعريفات، في الفكر الغربي نتيجة لتطور مفهوم العلم منذ أرسطو إلى العصر الحديث. "ففي المعاجم الإنجليزية الحديثة، على سبيل المثال، نجد التعاريف الآتية:
1. مجموعة متنوعة من فروع المعرفة أو مجالات فكرية تشترك في جوانب معينة.
2. فرع من الدراسة تلاحَظ فيه الوقائع وتصنف وتصاغ فيه القوانين الكمية، ويتم التثبت منها، ويستلزم تطبيق الاستدلال الرياضيّ وتحليل المعطيات على الظواهر الطبيعية.
3. الموضوع المنظم في المعرفة المتحقق منها، ويتضمن المناهج التي يتم بها تقديم هذه المعرفة والمعايير التي عن طريقها يختبر صدق المعرفة.
4. مجال واسع من المعرفة الإنسانية، يُكتسب بواسطة الملاحظة والتجربة، ويتم توضيحه عن طريق القواعد والقوانين والمبادئ والنظريات والفروض." [13].
واستنادًا إلى التعريفات السابقة يتضح أن العلم في التعريف الغربي سماته، [13] :
1. الجمع بين العلم كنظرية وكتطبيق.
2. الجمع بين العلم كمنهج للبحث وكمضمون معرفي.
3. التوكيد على العلم بمعناه الطبيعي؛ أي الذي يعتمد على التجربة والملاحظة.
4. أن العلم يتعلق بمجال أخص من المعرفة العامة.
تصنيف العلوم
لقد "اهتم أوغست كونت بتصنيف العلوم، فرتبها حسب درجتها من البساطة والتجريد نزولا، ومقدار تعقيدها وتشابكها صعودا إلى ستة: الرياضيات، الفلك، الفيزياء، الكيمياء، البيولوجيا، السوسيولوجيا أو (الفيزياء الاجتماعية). أما بقية العلوم فهي في نظره إما مجرد تطبيق لعلم آخر كالطب الذي هو تطبيق للفيزيولوجيا، أو مجرد علوم في الظاهر، لا في الحقيقة كاللغة. أما علم النفس فليس علماً مستقلا لأن موضوعه تتقاسمه البيولوجيا والسوسيولوجيا." [15].
3. مقارنة مفهوم العلم بين الفكرين الإسلامي والغربي
لقد تبيّن، مما سبق ذكره، أن مفهوم العلم في الفكر الغربي يختلف عن مفهومه في الفكر الإسلامي، لذلك فمن المنطقي أن نتساءل:
- ما الفرق بين مفهوم العلم في الفكر الإسلامي والفكر الغربي؟
- ما هي أسباب هذا الاختلاف؟
إن مفهوم العلم في الفكر الغربي مقصور على ما قام على الملاحظة والتجربة، فهو يقصي كل ما قام على الاستشهاد بالنصوص الدينية. في حين يقوم مفهوم العلم في الفكر الإسلامي على المزاوجة بين العقل الصحيح والنقل الصريح، فلا تعارض بين ما جاء به العقل بناءً على الملاحظة والتجربة وما أخبر به "الوحي الإلهي المنزل على الرسول (ص) بواسطة الوحي الجلي كالقرآن الكريم، أو الوحي الخفي الذي يوحي الله به إلى قلب رسوله بواسطة رؤيا في نومه، أو نفث في روعه في اليقظة." [8].
إن الاختلاف بين مفهوم العلم في الفكرين الغربي والإسلامي، من حيث موقفهما من الوحي إقصاءً واعتماداً، مرده إلى موقف علماء الغرب من رجال الكنيسة الذين اضطهدوهم بسبب آرائهم العلمية التي لم يتقبلوها بدعوى أنها تخالف ما جاء في الكتاب المقدس!؟
ومن أمثلة ذلك الاضطهاد "أن نيكولاس كوبرنيك (1473- 1543م) Nicolas Copernic توصَّل عام 1543 إلى دوران الأرض، وأن الشمس هي مركز الكون وليس الأرض كما كان معتقَدًا قبل ذلك، إلاَّ أنها كانت كارثة في أوروبا. فقد رفض رجال الكنيسة الحقيقة العلميَّة، بميزان "الحقائق" الإنجيليَّة، فرأوا أنها تتناقض مع معتقداتهم؛ فاضطهدوا كوبرنيك، الذي لم يقوَ على مواجهة المعارضة العنيفة وعاش بعيدًا، ومات في نفس السنة التي نشر فيها كتابه بعد تحمس أحد معجبيه، وبعد أن أدخل تعديلات يُقِرُّ فيها بأن نظريته مجرد فروض تحتمل الخطأ.
ولكن حين تبنى جوردانو برونو (1548-1600) Giordano Bruno نظرية كوبرنيك، بعد موته بثمانين عامًا، باعتبارها حقيقة، سارعت محكمة التفتيش إلى تحريم قراءة كتاب كوبرنيك وإلى إعدام برونو - الذي طوّر آراء كوبرنيك وأضاف إليها من عنده - حرقًا في ميدان عامٍّ.
وأفكار كوبرنيك كانت هي الأساس لأفكار غاليليو غاليلي (1564-1642) Galileo Galilée، الذي استدعته الكنيسة الرومانية مرتين للتحقيق معه في صحة مناصرته لنظرية كوبرنيك، وحكمت عليه عام 1633 بالسجن المؤبد.
كما أصدرت محاكم التفتيش قرارات تُحرِّم قراءة كتب غاليليو غاليلي، وجوردانو برونو، وإسحاق نيوتن Isaac Newton (1642-1727) لقوله بقانون الجاذبيَّة، وأمرت بحرق كتبهم. وقد أَحرق بالفعل الكاردينال إكيمنيس في غرناطة 8000 كتاب مخطوط لمخالفتها آراء الكنيسة!" [6].
إن هذا الواقع الرهيب الذي ساد أوروبا قرونًا طويلة، سميت بالعصور الوسطى، رسَّخ في أذهان العلماء والفلاسفة أنه لا أمل في طلب العلم والابتكار إلا بهدم سلطان الكنيسة، والاتجاه إلى الإلحاد، والدعوة إلى إعلاء العقل بدل النصوص الدينية. فأعلنوا صراحة معارضتهم للكتب المقدَّسة كالتوراة والإنجيل، لاحتوائهما على ما يتعارض مع الحقائق العلميَّة. والتعارض الحاصل بين العلم الصحيح وما جاء في الكتاب المقدس، مرده إلى التحريف الذي لحق بالكتاب المقدس، كما بين ذلك بعض علماء الغرب أنفسهم.
ولقد بيّن الجراح الفرنسي موريس بوكاي Maurice Bucaille(1920-1998) هذه الحقائق في كتابه الذائع الصيت "الإنجيل والقرآن والعلم" حيث قال: “دون أية فكرة مُسبقة، وبموضوعية تامة أجدني أتوجه أولاً إلى الوحي القرآني باحثًا عن درجة التوافق بين نصّ القرآن ومعطيات العلم الحديث، وقد كنت أعرف من بعض الترجمات أن القرآن يسوق كل أنواع الظواهر الطبيعية، ولم أكن أملك منها إلا معرفة جزئية، ولكن بعد تدقيق النص العربي بإمعان شديد، قمت بجردة شاملة، استبان لي فيها أنه ليس في القرآن تأكيد يمكن أن يُنتقد من الوجهة العلمية في هذا العصر الحديث”. [14].
وعلى خلاف هذا التناغم الذي لاحظه موريس بوكاي بين القرآن وحقائق العلم الحديث؛ فإنه سجل تناقضات بين هذه الحقائق العلمية وما جاء في العهد القديم والأناجيل؛ فأردف قائلاً: “وقد قمت بالتدقيق ذاته للعهد القديم والأناجيل بالموضوعية نفسها، فلم يكن ثمة بالنسبة للأول ما يحوج الانتقال إلى أبعد من سفر التكوين للوقوف على تأكيدات مناقضة لمعطيات العلم المعترف بها في هذا العصر.. ويغرق المرء دفعة واحدة عند فتح الأناجيل في نسب المسيح الذي يبدو من الصفحة الأولى في مشكلة مهمة، وهي أن نصَّ متى هو في هذه النقطة متناقض صراحة مع نصِّ لوقا، وأن هذا الأخير واضح التناقض مع المعارف الحديثة المتصلة بقدم الإنسان على الأرض”. [14].
إن المقارنة بين القرآن الكريم وغيره من الكتب المقدسة، بالنظر إلى ما توصل إليه العلم الحديث من حقائق ثابتة، تبين لنا صدق القرآن الكريم وثبوت حفظه مصداقا لقوله تعالى ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، كما تبيّن لنا كذلك التحريف الذي لحق بالكتب السماوية الأخرى.
خاتمة
إن العلم، في الفكر الإسلامي، يشمل كل علم نافع يهدف إلى تحقيق عبادة الله تعالى وعمارة الأرض، فهو يشمل العلوم الشرعية والعلوم الحياتية. أما العلم، في الفكر الغربي، فهو قائم أساسا على الملاحظة والتجربة وليس على الاستشهاد بنصوص الكتاب المقدس باعتباره غير علمي.
والفرق بين مفهوم العلم، في الفكرين الإسلامي والغربي، هو أن الفكر الإسلامي يعتمد على الوحي بينما الفكر الغربي يقصيه. ومرد الإقصاء يعود إلى الاضطهاد الذي لحق بالعلماء والفلاسفة، في القرون الوسطى، من قِبَل رجال الكنيسة، وإلى تعارض الكتاب المقدس مع الحقائق العلمية بسبب التحريف الذي لحق به، على خلاف القرآن الكريم الذي رفع مكانة العلم والعلماء، ولم تتعارض آياته المسطورة مع آيات الكون المنظورة.
dr.abdallah.laribi@gmail.com
مراجع
[1] الرازي، فخر الدين، التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب، دار الفكر، دمشق، 1981.
https://waqfeya.net/book.php?bid=1372
[2] الزركشي، بدر الدين محمد، البحر المحيط في أصول الفقه،
https://al-maktaba.org/book/21593
[3] زكريا، فؤاد، آفاق الفلسفة : الأورجانون الجديد وفلسفة بيكن، مؤسسة هنداوي، القاهرة، 2019.
[4] الزُّنيدي، عبد الرحمن، مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فيرجينيا، 1992.
[5] السرجاني، راغب، العلم وبناء الأمم، مؤسسة اقرأ، القاهرة، 2007.
[6] السرجاني، راغب، ماذا قدم المسلمون للعالم، مؤسسة اقرأ، القاهرة، 2010.
[7] الطالبي، عمار، مفهوم العلم وحرية البحث العلمي في الإسلام،
https://histoirphilo.yoo7.com/t520-topic
[8] القرضاوي، يوسف، موقف الإسلام من العقل والعلم، مكتبة وهبة، القاهرة، 1996.
[9] الكردي، راجح، نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فيرجينيا، 1992.
[10] حسين، عبد العزيز، بيكون.. الأرغانون الجديد، مقال منشور على الأنترنت،
https://arabi21.com/story/
[11] راسل، برتراند، أثر العلم في المجتمع، المنظمة العربية للترجمة، لبنان، 2008 .
[12] كاظم، أحمد خيري وسعد، يسي زكي، تدريس العلوم، دار النهضة العلمية، القاهرة، 1974.
[13] حول مفهوم العلم، موقع إسلام أون لاين (بدون اسم المؤلف)،
https://islamonline.net/archive/
[14] Bucaille, Maurice, La Bible, le Coran et la science, Editions Seghers, Paris, 1976.
[15] Comte, Auguste, Cours de philosophie positive, Editions Hermann, Paris, 1975.