152

0

مالك بن نبي في شهادته على القرن العشرين أو  "النموذج الآسيوي في شاهد القرن"

 

مسعود ضاهر

يعتبر مالك بن نبي من المفكرين العرب المسلمين الذين أولوا اهتماماً بثقافة عصر العولمة انطلاقاً من رؤية ثاقبة لسيرورة التاريخ العالمي أو التاريخ المعلوم منذ بداية عصر النهضة الأوروبية وانتشار أفكار "عصر الأنوار" على المستوى الفكري. .إمتلك ثقافة موسوعية،  وقد  تمحورت كتبه ومحاضراته حول قضايا الفكر والنهضة والتربية وتحرر الشعوب المستعمرة، والمشكلات الاستراتيجية التي تطال مستقبل العالم الاسلامي.

وشدد في دراساته النقدية المعمقة على إشكالات الحضارة الإسلامية ومدى تفاعلها مع الحضارات الأخرى، في الماضي والحاضر والمستقبل.ونبه إلى ضرورة الاستفادة من تجارب التحديث الآسيوية التي قدمت نماذج إيجابية حول كيفية التحديث السليم دون السقوط في دائرة التبعية والتغريب.
حملت أبحاثه الفكرية، وندواته التثقيفية، رؤية شمولية واسعة لدور الفكر في بناء مؤسسات عصرية تتلاءم مع ثقافة العصر، وتعيد للعرب وللمسلمين دوراً فاعلاً في تاريخهم المعاصر. ولعبت مقولاته الثقافية دوراً مهما في تعريف العرب والمسلمين على إيجابيات ثقافة عصر العولمة وسلبياتها في زمن التبدلات السياسية والاقتصادية المتسارعة التي شهدها العالم في القرن العشرين. وقد أطلق مقولات ثقافية تنسب إليه بشكل واضح لأنه أول من استخدمها وأعطاها مضامين ثقافية، بأبعاد سياسية واقتصادية، وتربوية واجتماعية.

ولعل أبرزها مقولته المعروفة عالمياً حول "القابلية للاستعمار"**فالاستعمار لا يبقى مجرد عامل خارجي بل يدخل في السلوك النفسي للإنسان الخاضع له بحيث يتحول إلى ذات طَيِّعَةٍ تقبل أفكاره وتمكنه من البقاء طويلاً بعد تحرير الأرض من القوات العسكرية الأجنبية.وعبثاً يحاول عرب اليوم إلقاء اللوم الدائم على الخارج الاستعماري طالما أن البنى الثقافية والسياسية والإدارية والتربوية التي بنيت إبان مرحلة الاستعمار لا تزال مستمرة بعد رحيله وهي ما زالت تسمح للمقولات الاستعمارية بأن تبقى فاعلة في المؤسسات العربية والاسلامية بعد أكثر من نصف قرن على رحيل غالبية الجيوش الأجنبية عن بلاد العرب والمسلمين .

فالقابلية للاستعمار هي السلاح النفسي الأكثر خطورة لتكريس التبعية الثقافية والاقتصادية والسياسية والإدارية للخارج الاستعماري. وبنتيجتها رحلت جيوش الاستعمار لتحل مكانها جيوش الخبراء والتقنيين والمستشارين وتقاليد اللباس والطعام والسلوك الاجتماعي وغيرها. وما زال غالبية العرب والمسلمين محكومين بعقدة الدونية تجاه من استعمرهم طويلاً، وذلك انطلاقاً من مقولة ابن خلدون الشهيرة "تشبع المغلوب بالغالب"، في مختلف المجالات. وفي هذا السلوك الدوني تكمن أهمية مقولة مالك بن نبي حول"القابلية للاستعمار" باعتبارها من أكثر المقولات العلمية قدرة على تفسير سلوكيات الكثير من القادة السياسيين وأصحاب القرار لدى العرب والمسلمين.
على جانب آخر، وبعد أن هاجم بعنف ذهنية "القابلية للاستعمار" لدى الشعوب المقهورة، فنّد مزاعم دعاة المركزية الثقافية الأوروبية لاعتبارهم إياها المقياس الذي يحدد به تقدم الثقافات والمجتمعات الأخرى أو تخلفهّا.إعتبر مالك بن نبي المركزية الثقافية الأوروبية بمثابة نظرة استعمارية تجعل الثقافات غير الأوروبية في موقع التابع لثقافة المركزية الأوروبية. هي ترى ان أوروبا كانت وما زالت منطلق الحداثة، ونموذجها الأرقى الذي تقاس به كل أشكال الحداثة في التاريخ المعلوم. وهذا يفسر، إلى حد بعيد، نظرته الإيجابية للنهضة اليابانية التي أنتجت حداثة سليمة خارج المركزية الأوروبية.
وُصِف مالك بن نبي بحق أنه مجدد متميز في الثقافة العربية الاسلامية. وهو من أبرز المثقفين العرب والمسلمين في القرن العشرين الذين دعوا الى الانفتاح التام على ثقافات عصر العولمة دون خوف، وذلك انطلاقاً من الحفاظ على الجوانب الإيجابية في التراث العربي الاسلامي.وبعد أن درس بعمق مقولات ابن خلدون في إطارها التاريخي، استنبط مقولات جديدة متممة لها، وتصلح لدراسة المجتمعات العربية في عصر العولمة.

ولم يدخر جهداً لاستنباط حلول عملية لاستنهاض العرب والمسلمين عبر قيام نوع من الكومنولث الاسلامي الذي يحصّن وحدتهم الدينية، وثقافتهم الاسلامية بعد تخليصها من نظرة سلفية تقدس التراث، وترفض تحويله الى موضوع ثقافي يتم الاستفادة منه وتطويره بعد استيعابه ونقده. ورأى أن الأمة الاسلامية في نهضتها المرجوة بحاجة ماسة إلى علوم عصرية، وتكنولوجيا متطورة يتم استيرادها ثم توطينها والابداع فيها. وذلك يتطلب مثقفين إمتلكوا ثقافة عصرية دون أن يتنكروا لتراثهم الحضاري، ولا يقيمون تعارضاً مفتعلاً بين التراث والمعاصرة. فالثقافة العربية والاسلامية ليست مجرد تراث من الماضي الذهبي، بل أيضاَ ثقافة عصرية، ينتجها مثقفون عرب ومسلمون تملكوا شروط الابداع الثقافي من مصادره الكونية ويشاركون في انتاج ثقافة شمولية حضارية بأبعاد انسانية ومستقبلية. 
توفي مالك بن نبي عام 1973 تاركاً وراءه الكثير من الأعمال المنشورة بالفرنسية، وبالعربية أو المعربة.   ومنها دراسات تظهر فهمه لحركة التحديث اليابانية: خاصة في كتبه "شروط النهضة" و"تأملات" و"القضايا الكبرى". وقبيل وفاته صدر له كتاب بعنوان "مذكرات شاهد للقرن" عام 1970،  ويظهر فيه بوضوح أثر نهضة شعوب الشرق، ومنها اليابان، في تكوين مالك بن نبي السياسي ومقولاته الثقافية التي تجلت لاحقاً في خطبه السياسية وأفكاره الاصلاحية. فقد تأثر، منذ فترة العشرينات من القرن العشرين، بالشرق القريب أي المشرق العربي وتركيا الكمالية، وبالشرق البعيد أي الهند واليابان والصين وروسيا وغيرها. يقول ذلك : "بدأ الشرق القديم منه والحديث، يستهويني بأمجاده ومآسيه".وأضاف: "في ذلك العصر، كان أبناء جيلي يبحثون دون أن يدركوا عن الهروب أو التحرر. وقد فتح لي طاغور باب ذلك الهروب فلم تعد أفكاره تسرح نحو تمبوكتو، وبدأت الرياح أيضاً تسوقها الى الهند الغامضة.

كانت تشدني اليها على الرغم من أني لا اعرف عنها شيئاً غير أنها مستعمرة إنكليزية". في هذا المجال، لا بد من الاشارة إلى أن مالك بن نبي أفرد كتباً ودراسات عدة لمناقشة مقولات الاستنهاض الآسيوي. يكفي التذكير هنا بكتابيه "فكرة كومنولث اسلامي"، و"فكرة الأفريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونغ". وتحدث بالتفصيل عن المبررات الجغرافية، والسياسية والسيكولوجية وغيرها لتوحيد العالم الاسلامي على أساس من التفاعل الثقافي بين الحضارات الآسيوية والأفريقية واعتبار الحضارة الاسلامية جزءاً لا يتجزأ منها.
رغم اقتباس النموذج البريطاني لجمع تلك الدول في كمنولث اسلامي فان المضمون الثقافي له كان مستوحى بصورة واضحة، من النظرة الايجابية جداً التي كان يكنها للنهضة اليابانية.فنجاح اليابان في تحديث الدولة والمجتمع، وبناء مؤسسات عصرية فاعلة عبر بيروقراطية قوية وتعمل لمصلحة اليابان العليا، قادها الى اطلاق حداثة سليمة غير قابلة للارتداد.

وهي حداثة من خارج المركزية الأوروبية لكنها استفادت كثيراً من مقولاتها الايجابيةوعلومها العصرية.فأظهر اعجابه الشديد بتلك النهضة التي لم تقدم تعارضاً بين التراث والحداثة أو المعاصرة. وكان يرى أن من واجب العرب والمسلمين دراسة تلك النهضة بعمق واستخلاص الدروس المفيدة منها.لقد تبدلت الاندفاعة العاطفية لمالك بن نبي الشاب وحلت مكانها صورة واقعية لليابان بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية وسقوطها تحت الاحتلا ل الأميركي.

فارتدت مقولاته الجديدة طابع النقد والتدقيق والمقارنة الموضوعية، دون أن تغيب بشكل كامل بعض ملامح الصورة الزاهية عن النهضة اليابانية. فاتسمت دراساته بعد الحرب العالمية الثانية بنظرة أكثر دقة وموضوعية تجاه اليابان بعد أن زال عامل الانبهار الذي طبع نظرته اليها في مرحلة الشباب. وقدم كتابه "فكرة الإفريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونغ" نموذجاً واضحاً على ذلك التحول.فقد تجاوز النهضة اليابانية الى طرح "مشكلة الرجل الأفرو آسيوي" بشكل عام.

وعالج "بناء الفكرة الأفرو آسيوية" ، وكيفية تحليل حضاراتها والتركيز على خصوصيات الثقافات الأفروآسيوية، وضرورة قيام اقتصاد أفرو آسيوي فعال. وحلل مضمون تلك الفكرة من حيث هي رسالة تعايش بالدرجة الأولى بين شعوب وحضارات متقاربة في الجغرافيا، وتعرضت لأشكال متقاربة من الإضطهاد المشترك. وعالج بالتفصيل ثلاث نقاط مركزية: فكرة الآسيوية والعالمية، والعالم الاسلامي والفكرة الأفروآسيوية، وأوروبا والفكرة الأفروآسيوية.وناقش بدقة طبيعة النهضة التي شهدتها اليابان وبعض المناطق العربية في القرن التاسع عشر الذي يعتبر في نظر المؤرخين قرن الاستعمار المباشر على المستوى العالمي.

ورأى أن النهضة كانت ظاهرة عامة في مختلف البلاد المستعمرة. لكن المسألة المنهجية في هذا المجال هي: إذا كانت النهضة هي الفعل الذي ردت به الشعوب المستعمرة في تلك الظروف، فلماذا اختلفت النتيجة طالما أن الأسباب التاريخية كانت واحدة؟ وتوصل الى نتيجة عقلانية مفادها أنه لا بد من تجاوز مقولة رد فعل الشعوب المستعمرة ضد الاستعمار إلى ربط النهضة برد فعل الشعب الناهض بالحضارة الغربية التي هي علة الاستعمار. وبعد أن رسم مسار النهضة اليابانية بصورة ثقافية تثير الاعجاب، استخلص منها العبرة التالية: "لو حللنا الصورة الشمسية الخاصة بنهضة اليابان، فإننا نجد فيها مع الأشياء الغربية الحديثة أشياء عتيقة من مخلفات حضارة (الميكادو والساموراي). وإننا لسوف نجد فيها إلى جانب عالم زاخر بالأشياء، عالماً آخر زاخراً والأفكار الجديدة: الأفكار التي نبعت من عبقرية اليابان لما اصطدمت بواقع القرن التاسع عشر. وهذه الملاحظة جديرة بالتأمل لأنها تكشف لنا عن الفارق العظيم بين الصلة التي ربطتها اليابان بالحضارة الغربية وبين صلتنا بها. إن اليابان وقفت من الخضارة الغربية موقف التلميذ، ووقفنا منها موقف الزبون. انها تستورد منها الأفكار خاصة ونحن نستورد منها الأشياء خاصة".  
ختاما تجاوز اليابانيون مقولات المركزية الثقافية الأوروبية التي فرضت عليهم وعلى العرب منذ القرن التاسع عشر. إلا أن غالبية الشعوب العربية والاسلامية بقيت عاجزة عن التخلص منها حتى الآن. لذلك، وبعد أكثر من ثلاثين سنة على رحيله، ما زالت مقولات مالك بن نبي صالحة لاستنهاض العرب شرط أن يحرروا أنفسهم أولاً من سلبيات مرحلة "القابلية للاستعمار" 

* [ يبدو استخدام العولمة هنا بمعنى العالمية ؛ قبل صك مصطلح العوملة وأطروحتها ، مع صطلحات النهايات ، ورؤية مالك للعالمية تتجلى في أعمق ودق دلالات رؤيته في فصل الثقافة في اتحاه العالمية من فصول كتابه "مشكلة الثقافة "].
**رفض عبد الله العروي المصطلح ؛ بحجة صفته "النفسية "، فيما يبدو أنه  ردّ فعل نفسي لنقد مالك بن نبي له في مسألة جوهرية ؛ هي المغالطات المنطقية المبيتة لنتائج مدمرة للبنيان العقائدي والتشريعي الذي بني عليه الإسلام ؛ إذ كتب العروي وظيفيا عن مكسيم رودينسون الفيلسوف الماركسي الفرنسي بناء " منطقيا صوريا" : مقدمة 1:  كل مسلم يعتقد أن دينه ـفضل الأديان . مقدمة 2: المسلم يرى أن مجتمعه متخلفا  . النتيجة : الحتمية التي إن سكت صاحبها عن قولها فعقله { بالتعبير مالك الدقيق } سيتكلم  بـ: الإسلام دين متخلف . إذن مالك برهن على تحليله بالدليل المفحم ، أنا العروي فرفض حنق وبغض  المنهزم امام الجبروت العقلي لمالك المستنير بسرمدية الحقائق القرآنية . 
وهنا أشير لمسألة قلّ ما يدخلها المتحدثون عن مالك بن نبي سلبا أو أيجابا في التقييم والأحكام؛ هي عصاميته والظروف الخاصة التي أحاطت حياته ومساره  ، خصوصا في معرض المقارنات بينه وبين كبار المفكرين والكتاب والباحثين العرب والمسلمين المعاصرين  خاصة منهم ذووا النحل الفكرية والأيديولوجية المغايرة للذاتية والمذهبية الإسلامية النهضوية ،الذين أكثرهم  تقلبوا في مدرجات كبرى الجامعات العربية والأجنبية، وتلقوا العلم والفلسفة عن كبار الأساتذة والفلاسفة المعاصرين .وأكثرهم أيضا حظي بأفضل الشروط المادية والاجتماعية في حياته الشخصية والعائلية والأكاديمية والإسنادات المؤسسية السياسية الوطنية والأجنبية المحترمة والمخترمة بالمشروعات الحضارية الكبرى لمواجهة التغيير الحضاري المتوازن الأصيل .و هذا الإغفال والغفلة يتراوحان بين الغفلة الساذجة ومَحْسَدَةِ الغيرة والتحقير و الكبر وخيانة الأخلاق العلمية.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services