بقلم الدكتورة يمنى أبوزريق

 

في المشهد المتغير باستمرار لعلم النفس الإرشادي، يظهر الجيل الثالث من العلاج المعرفي السلوكي كتحول نوعي، أشبه بانتقال فنان من ترميم لوحة قديمة إلى نحت تحفة عصرية، لم يعد التركيز محصورًا في إصلاح "الأفكار الخاطئة" كبقع صدأ تعيق صفاء الذهن، بل اتسع ليشمل فهم وظيفة هذه الأفكار ضمن الإطار الأوسع لتجربة الإنسان، تخيل الفكرة ليست مجرد كلمة عابرة، بل هي نغمة في سيمفونية حياتنا الداخلية، قد تكون نشازًا، لكن محاولة إسكاتها بالقوة قد يزيد من صخبها، هنا، يألق الإبداع في قبول هذا النشاز كجزء من اللحن الكلي، مع تعلم كيف لا ندعه يقود الأوركسترا بأكملها.

القبول: احتضان الذات: لم يعد القبول مجرد استراتيجية علاجية، بل هو موقف وجودي، إنه أشبه بتقبلنا لظلنا الذي يطاردنا في الشمس والقمر، محاولة إنكار عقيمة، بينما فهم طبيعته وتأثيره يسمح لنا بالتحرك بحرية أكبر، الإبداع هنا يكمن في تحويل الألم النفسي من عدو يجب هزيمته إلى ضيف نتعلم كيف نتعايش معه بسلام، مع إدراك أنه ليس هو سيد المنزل.

القيم: بوصلة الروح في متاهة الأفكار: إذا كانت الأفكار والمشاعر هي الطقس المتقلب لحياتنا الداخلية، فإن القيم هي النجوم الثابتة التي تنير مسارنا، الجيل الثالث لا يكتفي بتهدئة العاصفة، بل يركز على تحديد اتجاه الرحلة، الإبداع يكمن في مساعدة الفرد على اكتشاف "لماذا" وراء أفعاله، وتحويل السلوك من رد فعل قهري للألم إلى تعبير إرادي عن جوهره، إنه أشبه بنحات يكتشف الشكل الكامن في الحجر، بدلًا من مجرد تكسيره.

اليقظة الذهنية: نافذة اللحظة الراهنة: الوعي الذهني ليس مجرد فنية استرخاء، بل هو أسلوب حياة، إنه فتح نافذة على اللحظة الحالية بكل ما فيها من جمال وقبح، دون الوقوع في فخ الماضي أو تشغيل أنفسنا بشأن المستقبل، الإبداع هنا يكمن في تحويل الانتباه من قاضٍ دائم يحاكم أفكارنا ومشاعرنا إلى مراقب فضولي يستكشف ثراء التجربة الإنسانية بكل تفاصيلها الحسية والعاطفية، إنه أشبه برسام يرى الألوان والظلال بدقة متناهية، بدلًا من مجرد رؤية صورة باهتة.

الذات كسياق: المسرح واللاعب: تصور "الذات كسياق" يقدم نقلة إبداعية في فهم الذات. لم تعد الذات هي الأفكار والمشاعر، بل هي المسرح الذي تُعرض عليه هذه الأحداث الداخلية، الإبداع يكمن في مساعدة الفرد على إدراك أنه ليس القصة التي ترويها أفكاره، بل هو الوعي الراسخ الذي يراقب هذه القصة تتكشف هذا الفصل يحرر الفرد من قبضة التوحد مع معاناته.

نماذج علاجية كحدائق متنوعة: ACT ليست مجرد بروتوكول، إنها حديقة واسعة تتيح نمو استراتيجيات متنوعة للقبول والالتزام، العلاج السلوكي الجدلي هو الفن الدقيق لموازنة القبول والتغيير هي ، CFT هي زراعة بذور التعاطف في تربة النقد الذاتي. FAP هي تحويل العلاقة العلاجية إلى مختبر حيوي للتغيير السلوكي، الإبداع يكمن في فهم المبادئ الأساسية لهذه النماذج وتكييفها بمرونة لتناسب الفرد.

تطبيقات إبداعية في حقول متنوعة: لم يعد تطبيق الجيل الثالث محصورًا في عيادات الصحة النفسية، تخيل استخدامه لتعزيز الإبداع الفني من خلال تقبل حالات الشك والإحباط، أو لتحسين الأداء الرياضي عن طريق التركيز على القيم واللحظة الراهنة، أو حتى في حل النزاعات من خلال تعزيز التعاطف وفهم وجهات النظر المختلفة، الإبداع هنا يكمن في توسيع مظلة هذه المفاهيم لتشمل جوانب أوسع من التجربة الإنسانية.

تحديات وفرص للإبداع المستقبلي: التحدي يكمن في ترجمة هذه المفاهيم الفلسفية المعقدة إلى ممارسات إرشادية عملية ومبتكرة، تكمن الفرصة في استمرار البحث والتجريب لدمج هذه الأفكار بطرق جديدة وخلاقة، مع الأخذ في الاعتبار التنوع الثقافي وخصوصية كل فرد.