475

0

قراءة نقديةفي ديوان (جراحات المطر)

للشاعر فرحان الخطيب

 

بقلم : د . عبدالله الشاهر

لا أستطيع أن أحيط بهطولات الشاعر فرحان الخطيب فالمطر عام شمل كل مناحي الحياة على الرغم من الجراحات التي أدمت القلب وأدمعت العين لكن مطر الشاعر كان غزيراً ما يوحي بغلال وفيرة سمتها الحب والخير والقوة والفعل.. بل والتوق إلى الارتقاء الذي يحمل التفاؤل..

 

وعلى الرغم من الجراحات ظل الأمل معقوداً على غيث عميم يغسل الجراح كي تندمل وتشرق الشمس التي حلم بها الشاعر لتكون قيثارة الوجد والجمال كي يصبح الوطن منارة..

فرحان الخطيب ومن خلال جراحات مطره يستنجد بالذكريات ومشاهد الحب والوفاء ويستمد من ماضيه لغة مشحونة بالوطنية والقومية فهذه الجراحات التي يراها الشاعر ستندمل وسيثري المطر بلادنا وأنفسنا ولذلك سندخل عالم ديوان الشاعر كي نسمع هطولاته ..

أولاً: في العنوان:

العنوان لافت للانتباه إذ فيه مفارقة واضحة (جراحات المطر) فالجراحات ألم ونزف قد يصل إلى حد تعطيل الحركة والفعل بينما المطر خير وعطاء يغنيان به الناس ويفرحون...

وما بين الألم والفرح والرجاء يبدو المشهد مفتوحاً لاحتمالات شتى.. إذن العنوان انسجام بين حالتين متضادتين وهذا سرّ جاذبيته والتوق لمعرفة دواخله وقد نجح الشاعر في اختيار عنوان ديوانه وجعل المتلقي في حالة التساؤل والرغبة في اكتشاف سر جراحات مطره.. بقي أن أقول في العنوان الذي كتب باللون الأحمر.. اقترح عليك يا صديقي أن تبقي الجراحات بلونها الأحمر وتستبدل مفردة (المطر) بلون أخضر حتى يتطابق العنوان مع المضمون وأنت الذي تقول:

هذي بلاد النّدى والقمحُ قامتها

والخبزُ شيمتُها نعطي وتعطينا

ثانياً: في الغلاف

جاء الغلاف بثلاث صور متداخلة على خلفية مفتوحة بلون رمادي متدرج، والحقيقة أن الغلاف بتداخلاته يحمل دلالات واسعة وعميقة بآن معاً، فصورة الطفلة التي تستقبل المطر بفرح على الرّغم من أنّ جذعها وساقيها مليئة بالجراح، وهي مستوعبة أنها  ضمنت بهاء الشخصية الكلية التي لا نرى منها سوى هيبة حضورها وكذلك دائرة المطر الذي جاء غيثاً وودقاً والغيث استرسال وإسعاف، والورق إيقاظ وحركة وفعل..

الغلاف معبّر وقراءته تأخذ الكثير من المعاني والدلالات ولذا فإن الغلاف جاء صدى للمحتوى بكل أبعاده وهذا يعزز القراءة من قبل المتلقي.. وما قول الشاعر هذا إلا صدى للغلاف:

 

هو المرءُ طفلٌ روّضَ الدهر حافياً

ولو عاندتْ مسعاه في القيظ بِيْدُها

فإنْ تخذل الأيام جدّي وهمّتي

فيكفى بأنّي للمعالي شهيدُها

ثالثاً: في التقديم

في الحقيقة أنا لست مع تفسير الشّعر أو التقديم له لأن الشعر مشاعرٌ والمشاعر يفترض أن تقدّم نفسها بنفسها ولذا فأنا لا أرغبُ في تقديم أيّ مجموعة شعرية فالتقديم قد يصادر مشاعر القارئ ويجعله أسير نظرة المقدّم للنص الشعري ومع هذه فإن ما كتبه الأستاذ الناقد عبد الله علي شبلي شكّل إضاءة وإضافة للمحتوى بشكل عام، وهو يُشكر على ما تقدّم به من آراء ناضجة حول الديوان وهذا يشير إلى مقدرة الأستاذ الناقد وتمرّسه في قراءة النص ودلالاته وهو الذي يقول: (حينما يغدو الشعر مطراً يستنبت العطر به استشفاء لجراحات لا تندمل)  فهذا دليل على وعي جمالي للنص الشعري.

رابعاً: في المضمون:

يبدو المضمون واسع الطيف متعدد الاتجاهات فقد جمع الشاعر بين دفتي ديوانه (جراحات المطر) عواطف وهموماً وجراحات وقضايا وآمال وآلام كثيرة فكانت قصائده حالة بانورامية تسيّدها موقف الذكريات، وألمّ بها حزن مغلّف بالأمل وتوق إلى ما كان، يقول الشاعر:

يا شاعرَ الحبّ همسُ العشقِ غادرَنا

أصواتنا ملأتْ أرجاءَ وادينا

كنّا نُجدّلُ شَعْرَ الشمس حين ضُحىً

نَزِيْنُ غُرّتَها فُلّاً وَنَسْرينا

كُنّا نُخضّرُ أيّاماً نُقلّمُها

حتى لتبدوَ للرائي بساتينا

كنا نغالبُ ريحَ الوقت، نغلبُها

واليوم تغلبنا، صَارتْ تُعرِّينا

إن هذه ال (كنّا) هي غصّة في ذات الشاعر يقلّبها بين نصوصه الشعرية محاولاً إخراجها لتكون واقعاً، وهو الذي يرغب أن يستبدل مفردة (كنّا) بمفردة (أصبحنا) أو (صرنا) وهذا أمل يراود الشاعر والذي يعتبره ليس ببعيد..

إذاً الشاعر بنى مضمون ديوانه على ثلاثية الماضي والحاضر والمستقبل ومن خلال هذه الثلاثية دعّم رأيه بنصوص تثبت ما أراد أن يصل إليه، وسأورد ذلك من خلال:

 1- الاعتزاز بالماضي والرغبة في إحيائه لما فيه من قيم وتلاحم اجتماعي ومن مكارم أخلاق وقد تبدّى ذلك من خلال قصيدة (قهوة الشيخ) يقول الشاعر:

من صباحات قريتي أتذكر

قهوةُ الشيخ والدي فوق مجمر

وهي تغلي كأنّها في طرادٍ

بين أمهارِ حيّنا تتبخترْ

في هذه القصيدة يستعرض الشاعر حياة القرية وحياته الأسرية وأحلام الطفولة يسترجعها بحنين حين يقف أمام داره يقول الشاعر:

بعد ستين غرّبَتْنا حياةٌ

أيّ شيء للرّغد ما عاد يُذكرْ

بعد ستين من سنين حياتي

كل شيء في دارنا قد تغيّرْ

هذه الحميمية وهذا الوفاء الذي يحمله الشاعر ويصوغه نصاً مؤثراً هو دليل انتماء يشد الشاعر إلى تلك البقاع وإلى أولئك الذين زرعوا فيه ذلك الحب.

2- في كثير من قصائد الشاعر في هذا الديوان تبدو أبيات الحكمة والعظة واضحة والتي استنبطها من تجارب الحياة وهذه الأبيات المنثورة في نصوصه أقرب إلى أن تكون بمثابة مقولة يحتذى بها وقد تجلّت هذه المقولات في قصيدة (جميلات عمري) حيث يقول الشاعر:

هو الدّهر غدّار وما انفكّ ظالماً

ويمشي على رغد الأماني يبيدها

 

ويقرن الشاعر هذا بحالات التمني التي يعلم أنها لا تتحقق ولكن ذلك من باب الرجاء البعيد حيث يقول:

وليت همومَ الناس تنهار دارُها

ولكنْ ذئاب الدهر قهراً تشيدُها

ثم يستدرك أن الأماني لا تتحقق إلّا بالعزيمة والإصرار على الوصول إلى  الطموحات الكبرى التي تتعشقها النفوس الأبية والنبيلة ، يقول :

وكم يعتلي ظهر المطايا فوارسٌ

وًما رجّفَ الصّحراءَ إلّا عقيدُها

 

3- ويبدو أن الشاعر آثر أن يكون للرثاء حضور في (جراحات المطر) حيث أودع الشاعر فيه قصيدتين طويلتين، القصيدة الأولى والتي جاءت تحت عنوان (فما أقساك يا خبر) وهي في رثاء أخيه الأكبر والتي من خلالها قام بسرد قصة حياة الأخ المتوفي وفيها يقول:

 

زيدان قالوا، فقلت الأفقُ معتكرُ

يا ذا الصباح فما أقساك يا خبرُ

خليتني مثل أوراقٍ تبعثرُها

كفُّ الرّياح، ولم يشفعْ ليَ القدرُ

أما الثانية والتي جاءت تحت عنوان (بعض الرحيل أسى) وهي في رثاء صديقه حيث يقول فيها:

أيّ القصائد في ذكراك أنشدُها

يا مَنْ رحلتَ تُراكَ اليوم تسمعني ؟

وكنت حمّال دهرٍ من مواجعنا

وكنت موّالَ عصْرٍ طافحِ الشجنِ

والواقع أن الشاعر في نصه يجيد الرثاء والبكائيات التي من خلالها يذكّرنا بمناقب من فقد.

4- أما في الجانب الوطني والقومي فقد ترك الشاعر لنفسه العنان لتأخذ قصائد الديوان حيّزاً لا بأس به عن الوطنية والقومية وهو الذي افتتح ديوانه بقصيدة عنوانها (دمشق) والتي يقول فيها:

سألت دمشقُ الشعرَ كيف تراني ؟

فأجاب يلهج بالجمال لساني

فإذا تحشّدت الزنابق بالرُّبى

صرخ الجمال بمربعِ الرّيّان

وتتوالى قصائده (شعلة الضوء) وهي عن الشام ويقول فيها :

قلْ هي الشام لم تزل في بلادي

شعلةَ الضوء والسّنا والجهاد

لقد أخذت الشام حيّزاً واضحاً في نصّه الشعري من حيث هي الحب والجمال والتاريخ والعزة والكرامة.

وقد عزز انتماءه بذلك الفخر والزهو الذي بدا في قصائد الشاعر عن اللغة العربية وجمالها وأصالتها من خلال قصيدة (أسئلة الأدب) وقصيدة (يا للشذا يتضوع) وقصيدة (روح القصيد) وفي هذه القصيدة يقول:

هي حرفنا العربي ضاء وجودنا

شتان ما بين البصيرة والعمى

5- ولا ينسى الشاعر أن يودع بين دفتي جراحات المطر عواطف جياشة عن الحب والعشق من خلال قصائده مثل قصيدة ( يا شاعر الحب) وقصيدة (جميلات عمري) وقصيدة (قلبي هناك) وقصيدة (عاشقان) وقصيدة (دفاتر اللهفة) ومن هذه الدفاتر نجتزئ مقطعاً يقول الشاعر فيه:

كنا معاً كفراشتين مع الضحى

نغماً يدوزن عشقنا زرياب

وتتفّح الخدّان ضوّأ وجهُها

وتشاهقتْ عند العناق قبابُ

جراحات المطر خلطة من الوطنية والقومية والذكريات والحب والعشق تداخلت فيما بينها فكونت مضمون الجراحات.

 خامساً: في البنية الفنية

من الواضح أن الشاعر من أنصار قصيدة العمود فقد بنى نصه الشعري على وحدة البيت ذي الشطرين والإلتزام بالقافية فكان للقصيدة عنده موسيقى خاصة التزم بها وتعامل معها بجملة شعرية مسبوكة وبإيقاع خارجي طاغي في نصه الشعري وقد اختار الشاعر القافية المناسبة للموضوع فكانت قصائده بإيقاعيتها تنسجم لغة وجملة شعرية وموسيقى خارجية وقافية لتشكل وحدة كلية تحقق جمال النص.

ففي الإيقاع الخارجي اعتمد الشاعر التكرار في عدد كبير من قصائده والتكرار يأتي للفت الانتباه والتأكيد على الفكرة التي يريد الشاعر أن تصل إلى الآخرين، فقد كرر الشاعر في قصيدة (فما أقساك يا خبر) عبارة (لو كنت) خمس مرات وفي قصيدة (أسئلة الأدب) كرر الشاعر (كم) ست مرات و (نحن) ست مرات كذلك، وهذا ما يجعل الشاعر إما في حالة استرجاع أو استذكار أو اعتزاز..

كما استخدم في قصائده الإنزياح من تقديم وتأخير وحذف واستبدال ما جعل الصورة الشعرية لديه واضحة المعالم مفعمة بالروح الجمالية يقول الشاعر في قصيدة (يا أنتِ):

يا أنتِ يا امرأة وتبزغ لهفة

وأنا بروض رهافة موعودُ

يا أنتِ يا امرأة تلذًّ فصولُها

كروايةٍ وختامها مقصودُ

ويمكن لنا أن نذكر بعض النقاط التي يمكن أن تكون علامات فارقة في النص الشعري للشاعر فرحان الخطيب ومنها:

أدخل الشاعر مفردة (الغنج) والغنج هوالدلع والدلال وهي مفردة راقصة يقول الشاعر:

بردى يُغنّجهُ البنفسجُ لهفةً

والقاسيون لمجدنا عنوانُ

وقد وردت هذه المفردة في أكثر من موقع في الديوان، كما استخدم كلمة (جديلة) وهي الظفيرة وفي موقع جميل يقول الشاعر:

كنا نجدّل شَعْرَ الشمس حين ضُحىً

نَزِيْنُ غُرَّتَها فُلّاً ونَسرينا

واستخدم الشاعر مفردة مقعّرة مثل (قِرْم) والقرم هو السيد يقول الشاعر:

سوى في يديّ الفذّ إذْ رامَ قهرَها

وأورى زنادَ الجدّ قِرْمٌ يجيدُها

كما استخدم مفردة أقرب للعامية أو المتداولة منها إلى الفصحى مثل (شلّعتها) أي اقتلعتها يقول الشاعر:

قد يبّسَ القلبَ مُرُّ البعد عن وطني

كزهرةٍ شلّعتها الرّيحُ عن فننِ

كما استعمل الشاعر الدمج بين مفردتين مثل (الراحتْ) ومعناها التي راحت وهو استخدام شائع باللغة الدارجة وقد تكرر هذا بمفردات أخرى يقول الشاعر:

ورحتُ أذكر باب الدار كم شهقتْ

عين لمفتاحه الرّاحت تودّعني

واستعمل الشاعر مفردات صعبة مثل مفردة (تخبُّ) والخبب حركة أسرع من المشي وأقل من الركض يقول الشاعر:

للمسجد الأقصى تخبُّ جحافلٌ

ويحفُّها الإنجيلُ والقرآنُ

(جراحاتُ المطر) أنشودة تعددت نوطاتها الموسيقية وتعالت نفحاتها من جوقة استطاع الشاعر أن يضبط سلمها الموسيقي بروح منتمية ولغة منسجمة.

 

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2024.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2024.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services