30
0
قراءة نقدية في "فاكهة الغرباء" ليوسف الباز بلغيت: تشريعٌ للذات في زمن الاغتراب
.jpg)
"فاكهة الغرباء" ليوسف الباز بلغيت ليست مجرد عنوان لكتاب، بل هي استعارة وجودية تختزل حالة المثقف العربي في زمن الاضطراب. فالغريب هنا ليس من نأى عن وطنه، بل من شعر بالاغتراب في وطنه، بين لغته، وتراثه، وقيمه. يمثل هذا العمل رحلةً في أعماق الذات العربية المتصدعة، يحاول فيها المؤلف أن يعيد تشكيل الهوية من خلال اللغة، والفكر، والإيمان، مقدماً رؤيةً نقديةً حادةً لواقع الثقافة العربية، متسلحًا بلغة شاعرية مكثفة، تجمع بين جمالية التعبير وعمق التحليل، حيث لا يكتب مقالًا أدبيًا تقليديًا، بل ينحت من الكلمات تماثيلَ لفكرة، ومن الحروفِ عوالمَ للتأمل.
من أبرز ملامح هذا الكتاب ذلك التزاوج العجيب بين اللغة الشاعرية والرؤية النقدية، فبلغيت لا يفصل بين الأدب والفكر، بل يدمجهما في بوتقة واحدة، وكأنه يقول: "لا خلاص للفكر من دون جمالية التعبير". في مقال "الشعلة الذهبية" يكتب: "تنتاب الكاتب شذرات فكرية وأخرى وجدانية، يُشعر من خلالها نوافذ علامة الضمير إلى القارئ... ستّة اللغة أن تتواتر وتنجذب وتستمر.. وتنشق!" هنا يتحول الكاتب إلى كائن وسيط بين العالمين: عالم الأفكار المجردة، وعالم المشاعر الإنسانية، واللغة عنده ليست أداة نقل فحسب، بل هي فعل مقاومة ضد التسطيح والابتذال، إنها "شعلة ذهبية" تضيء ظلام الواقع.
يعيش المثقف في نصوص بلغيت حالة من الاغتراب المضاعف: اغتراب عن مجتمع لا يقدر المعرفة، واغتراب عن ذاته التي تبحث عن معنى في زمن الفوضى. في مقال "هم ونحن.. المعرفة والإبداع" يكتب: "صحيح أنّ لكلّ زمن رجالات ومبدعين، ويُخطئ من يعقد بأنّ الإمكانات التي توفر للواحد منّا اليوم ستجعله روائيًا أو شاعرًا... كانوا يكتبون بأمل عن آلامهم المشرقة بنور مصابيحهم وظهر رؤاهم." هنا يضع بلغيت يده على جرح الأمة: انفصال الإبداع عن المعاناة الحقيقية، وتحوله إلى سلعة استهلاكية، فالمثقف الحقيقي هو من يكتب من داخل المعاناة، لا من خارجها.
يتناول بلغيت بإتقان العلاقة الشائكة بين الدين وحرية التعبير، فهو يرفض تلك النظرة التي تقدم الدين كقيد على الفكر، ويؤكد على أن الإسلام الحقيقي يدعو إلى التفكر والاجتهاد. في مقال "الدين.. وحرية التعبير" يقول: "يترأى للبعض أنّ الدين يُقيد الفكر ويكبح السلوكات... ولكنّ الدافع في نظري من وراء هذه الإشكالية يكتشفه عاملان هامّان؛ أولهما خُصّ نوعيّة الفكر والثاني خُصّ عقيدة." بلغة فلسفية عميقة، يحلل بلغيت كيفية تحول "حرية التعبير" إلى شماعة تُعلق عليها كل أنواع الهجوم على الثوابت، بينما الغرب نفسه بدأ يعيد النظر في مفهوم الحرية المطلقة.
يقدم بلغيت نقدًا لاذعًا للإعلام العربي الذي تحول من أداة تنوير إلى وسيلة لتكريس التخلف. في مقال "زيد صحفي" يسخر من صحفي يتصل به ليجري حوارًا، ثم يطلب منه أن يكتب الأسئلة بنفسه! فيقول: "بـ يتطلب الأمر سوى دقيقة على الأكثر! وفي الحقيقة؛ إنه يقدّر ما أعلى سمعي أدبٌ طارئٌ مستعجلٌ بقدر ما تعجّبت من وقاحته المستعجلة!" هذا النموذج يرمز إلى انحدار المهنية الإعلامية، وتحولها إلى فضاء للاستعراض والسطوة، فالإعلام لم يعد ينير العقول، بل يغرقها في بحر من التفاهة.
في مقال "خواطر عن ثورة الشباب"، يتناول بلغيت ظاهرة الثورات العربية برؤية نقدية عميقة، فهو لا ينكر حق الشعوب في التحرر، لكنه يحذر من تحول الثورة إلى فوضى، والحرية إلى فتنة. يكتب: "في معادلة الثروة والثورة تتباين المواقف إزاء تقدير حجم المُرتَقى منهما بعد زوال الغيوم." هنا يظهر بلغيت كمفكر استشرافي، يدرك أن الثورة ليست مجرد هدم، بل هي بناء، وأن غياب الرؤية قد يحول الحلم إلى كابوس.
يخصص بلغيت مساحة كبيرة للدفاع عن اللغة العربية الفصحى، معتبرًا إياها وعاء الهوية وذاكرة الأمة. في مقال "الفصحى في خطر" يحلل بعمق أسباب تراجع الفصحى، ويعددها في: العامية والثقافة، والثنائية التعليمية، والنقد الهجين، والمناهج المتضاربة، ويخلص إلى أن حربًا ممنهجة تُشن على الفصحى بهدف قطع الأمة عن تراثها وجذورها، فاللغة هنا ليست مجرد أداة تواصل، بل هي هوية وكينونة.
يقدم بلغيت رؤية متزنة لقضية المرأة، يرفض فيها التطرف الديني الذي يقهر المرأة، والتطرف العلماني الذي يستغلها. في رده على مقال "المرأة.. موءة مكانتها الفطرية القائمة" للكاتبة فاتن نور، يقول: "ما أصعب أن تكون الغربة التي تريد صاحبة المقال أن يُحرّرها الداعي لنفيها أفكارها السامة... في اللحظة التي تريد أن تؤسس فيها لغربة فطرية متحضرة." هنا يظهر بلغيت كمدافع عن المرأة الحقيقية، لا المرأة المُستغلة باسم التحرر، ولا المرأة المُقموعة باسم الدين.
"فاكهة الغرباء" ليوسف الباز بلغيت هو كتاب لا يقدم إجابات جاهزة، بل يطرح أسئلة عميقة تزعج القارئ، وتدفعه إلى التفكير، إنه كتاب يعيد للمثقف دوره كحارس للقيم، وكمنارة للأمة في ظلام العولمة. بلغة شاعرية مدهشة، ورؤية نقدية جريئة، يقدم بلغيت تشخيصًا دقيقًا لأمراض الأمة، مع الإيمان بإمكانية الشفاء، فالكتاب هو محاولة لصنع "فاكهة" من "غربة" المثقف، وكأنه يقول: إن الإغتراب قد يكون بداية للإكتشاف، والغربة قد تكون منبعًا للإبداع. يظل "فاكهة الغرباء" شهادة أدبية وفكرية مهمة، تثبت أن الأدب الحقيقي هو الذي يلامس الجرح، ويبحث عن الخلاص، ولا يخشى قول الحقيقة وإن كانت مريرة، فبلاغيت في هذا الكتاب لا يكتب بكلمات، بل ينحت بأحرف من نور، وكأنه يريد أن يقول لنا: "إن الغريب الحقيقي هو من يعيش في وطنه بلا هوية، وبلا لغة، وبلا حلم"، والكتاب هو محاولة لإستعادة ذلك الحلم.

