49

1

قضم الإسلام

 

 

بقلم محمد مراح 

التيار اللاّمذهبي في الجزائر ترسخ وجوده وتوسع في أرجاء البلاد منذ الانفتاح السياسي عقب أحداث 1988 ؛ فبعد ان كانت بيئته ومحضنه يكاد يقتصر على  مدن معينة ، ولم يكن يُلتفت إليه في معظم جغرافيا الجزائر، ولم يكن يَطْمح في اقتناص ساحة الدعوة من الحركة الإسلامية والصحوة الإسلامية التي أصبحت ظاهرة ثقافية ودينية واجتماعية ثم سياسية .

فقد كان لدعاتها  من قوة التأثير والجذب ما لم يتوفر لشيوخ اللامذهبية . كما كان الطرح التغييري الذي اكتسحت به الصحوة الإسلامية البلاد خطابا بلغة العصر وقضاياه  و فلسفته ومذاهبه ونظرياته الكبرى و نظمه ومناهجه وسياساته ؛ يشتبك  في ذلك مع المنظومات الحضارية الكبرى أو بتعبير أدق مع المنظومتين الرأسمالية والشيوعية المهيمنتين على العالم ؛ والفلسفات والتنظيمات والنظريات والأفكار الغربية الوافدة على العالم الإسلامي مذ تغلغل الحركة الاستعمارية ؛  فكان الخطاب الإسلامي الصحوي منخرطا في مدافعتها بما انشق عنه الفكر الإسلامي المعاصر التجديدي  بشرطي الأصالة الإسلامية العريقة واجتراح بدائل يطلبها البناء الجديد لأمة  ، تأسيسا لمستقبلها في " الشهود الحضاري" كما اصطلح عليه أستاذنا المفكر عبد المجيد النجار في ثلاثيته البديعة :" مشاريع الإشهاد الحضاري " المنوط بأمتنا بمقتضى قوله تعالى ﴿ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ..."البقرة 143.

 فتحدد بذلك لجيل الصحوة صبغة تدينه و مادة  تفكيره ، وقضايا وألوان ثقافته، و روح جهاده ، و وجهة سعيه، ومصارف كسبه .  فوضعته الصحوة في قلب مقتضيات العصر وحضارته ، كل ذلك و هو واقف مع أمته على أخطر مصطبة حضارية شهدتها عبر تاريخها ؛ مصطبة " التخلف" ، فكيف يواجه، في عصر تغيرت فيه الإنسانية كما لم تتغير قَبْلُ ، وآمنت أن الوجود و واقعها لا يمكن أن يكونا إلا كذلك .

فانطلقت حركة إحياء وتجديد واسعة في الميادين الثقافية والفكرية والدينية والفلسفية ، في موكب واحد لكن بسفن مختلفة حَدَّ التنافر والتناكر والتدافع : بحسب الطاقة المغذية والمحركة لكل سفينة ، بحسب مصدر الطاقة ونوعها ؛ ليبرالية ، أو اشتراكية ، أو رأسمالية ، أو شيوعية ، أو "إنسانية " أو دينية روحية ، أو دينية إصلاحية ، أو إسلامية تجديدية .

وكانت الصحوة الإسلامية ثمار الحركة التجديدية الإسلامية ؛ لأنها  أدركت ببصائر أَنَارَ  الله رؤاها ، أن سقوط جسمها السياسي آذان بتلاشي شخصيتها الحضارية التي أوجدها الإسلام ، مهما تعددت الروافد الأخرى بين جنبات الأمة معرفة وفلسفة و لسانا و عادة وتقليدا . وهذه الأمة وجدت لتبقى ؛ فهي على ما قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله ؛ تمرض ولا تموت؛ لأنها إذا ماتت انتهى الإسلام ، وهذا باقي ليوم القيامة.

حرك السقوط الأعظم الذي حلّ من قريب، القلوب المتوقدة والعقول الذكية ، والمدارك الحكيمة ، والعزائم الراسخات ، فانطلقت المراصد تجول في الخرائب والأنقاض، تقييما للوضع الحضاري ، وإيقاظا لسنة التجديد في الأمة ، ومن هنا بدأ المسلمون يسمعون غير ما ألفوا قبل السقوط؛ في عقيدتهم و ثقافتهم و سلوكهم و مشكلاتهم الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية ، وعلاقاتهم مع العالم ، كلّ هذا يلقى إليهم ويبلغون به ، ويُغتدى عليهم به في مساجدهم وصحفهم وكتبهم ، ثم إذاعاتهم من بعدُ، وهكذا كان المُنْبَثَقُ الإسلامُ الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، وأبدع في أبنية معارفه وأحكام عقيدته وأحكام تشريعاته و قواعد أخلاقه وسلوكه عقول جبارة وأئمة هداة لم تعرف البشرية قبلهم  من أتباع نبي مثيلهم ورعا وتقى ونباهة وذكاء ومضاء عزيمة وتوازن فكر وثاقب استشراف وإبداع منظومة حضارية ، تقف على شطي تدبير المعاش والخطو نحو المعاد به ، في موكب ملائكي يفيض بشرا بما يرسمون ويضعون للأمة الخاتمة ، وللبشرية قواعد الحضارة الراشدة ، التي تفضى بهم إلى معاد كريم يوم الوعد الحق والوعيد المستحق .

توصيلا لهذا المسار  الأصيل الذي لا يضل عنه إلا هالك ، جاء التجديد الحضاري على أيدي أعلامه وعباقرته وأئمة هداه ، نسقا غائر الأقدام في مواطن الهدى والقوة والاستقامة والرشد والسوية والحكمة والتبصر والنظر والإبداع الفريد و الإخلاص العميق،لله تعالى ،كل أولئك لاستنبات قول حضاري جديد في مُنْهضات أمة على وقع سنابك خيل العصر ؛ جالبة تحديات لم يسبق للأمة مثيلها ؛ سائلتها عن القول في العقائد والأخلاق والأحكام والتشريعات والأفكار والإجماع  والنفس والاقتصاد والأنظمة العمرانية ، والقول في الدين وصلته بالعلم، و قدرته على الحياة التي خلقتها الحضارة الغربية خلقا غَيَّر وجه الأرض والخلق ،كاد أن يكون معه الإنسان غير الإنسان والموجود الحادث غير ما وجد على كرّ القرون السوالف على الأرض مذ دب على أديمها الإنسان .  عندئذ انبثق قول في العقيدة الإسلامية المعاصرة خرج بها عن خلافات الأوائل ومقالاتهم ومللهم ونحلهم ؛ فلم تعد مسائلها في التجسيم والكسب والصفات والأسماء ، والأشاعرة والماتريدية والمعتزلة والمرجئة ؛ فالتحدي يستهدف وجود العقيدة على الأرض ، والإيمان في الحياة ، ووجود الخالق تعالى، والاعتراف له بحقه في عبودية الكون له ، وحاكميته عليه ، وحقه في عبودية المستخلف في أرضه له، وحقه في بقاء كلامه الذي أوحى به لرسوله صلى الله عليه وسلم حيا فيهم حاكما لهم مهيمنا على حياتهم ، هاديا لها ولهم . فالحياة خلقت للإسلام  والإسلام خلق للحياة ، والتخارج بتمازجهما في كينونة المسلم حضارة الإسلام الممهدة لرضوان والجنان .

 هذه الخصائص التي كان يجب أن ينتقل لأرجائها التصور الإسلامي لله والوجود والكون والحياة والإنسان، فبعد مهادات النقلة إليه على أيدي أئمة الإصلاح الإسلامي : الأفعاني ومحمد عبدو والسنوسي وابن باديس رغم التداخل الزمني مع انبثاق الصحوة الإسلامية وفق المدركات التي ذكرنا وخصوصية الحركة الإصلاحية في الجزائر، تشرع كوكبة الدعاة والمفكرين والمغيرين العاملين الميدانيين والعلماء في تشييد البنيان الإسلامي الجديد أو استئناف المسلمين خطوات العودة للحضارة ضمن الإدراكات الواعية العميقة للعالم الجديد المباين كليا للعالم مذ دب فيه دبيب بنيه .

وكانت القاعدة الذهبية في هذا العود ، ربط العمل والتغيير  بالتصور ، لذا كانت الخطى الأولى فيه الاتصال المباشر بين الدعاة وعامة المسلمين في المساجد والمجالس والمنتديات والمقاهي وغيرها ، يوقظون في نفوسهم الإسلام المعتق عبر قرون الإسلام ثَوَاء فيهم، أرضا وحياة وشعورا وتعليما وممارسة ، لكن عبر قنوات فكرية ومعرفية وقولية وعاطفية وسلوكية وعملية جديدة حية ، تجرى في مجارى العصر و خصوصياته . لتفرز  ثمار هذه الخطى الطيبة ، معارف الحياة والعلوم الإسلامية  والنظم والتشريعات والاجتماع والنفس والاقتصاد  والإعلام وفلسفة العلوم للحياة .

فأبدع الفكر الدعوى المعاصر فلسفة وعلم عقيدة جديد على أسس العقيدة الإسلامية في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة على عهد النبوة والخلافة الراشدة، وخرج بقضاياها عن علم الكلام الذي دعت ظروف خاصة المسلمين في عصور التالية لها لابتكاره وإبداعه وخوض مسائله تصديا للتحدي العقائدي الذي واجهوه ، ثم انجروا إلى متاهات عطلت التقدم الحضاري الإسلامي أعطالا مميتة تحققت في تحويل العقيدة الإسلامية إلى مصارع الروح والعقل والحكمة والتقدم .

كان التأسيس المتين لهذه النقلة العبقرية كتاب الشهيد سيد قطب رحمه الله في كتابيه" خصائص التصور الإسلامي " و" مقومات التصور الصور الإسلامي" الذي نشر بعد استشهاده ، ضمن محاور  أو أركان الرؤية والفكرة والتوجيه في السفر الأول : الربانية ــــ الثبات ــــ الشمول ـــ التوازن ــــ الإيجابية ـــ الواقعية ـــ التوحيد .

وفي السفر الثاني المقومات : ألوهية وعبودية ـــ حقيقة الألوهية ــــ حقيقة الكون ـــ حقيقة الحياة ـــ حقيقة الإنسان. فعبر 588 صفحة عاد  سيد قطب رحمه الله بالعقيدة من كلاميات الفرق الإسلامية إلى أصولها في الكتاب والسنة ، ودورها التغييري البناء في عهد النبوة والخلافة الراشدة ، والنقلة إلى حيز البعث الحضاري الإسلامي المعاصر ؛ تكون طاقة الدفع فيه ، وصُوَى الطريق الضابط لمسار الأفكار والتصورات والمعالجات والإبداعات ، وضمانات من تفلت الهدف الأسمى .

فهذا الإبداع في التفكير العقائدي الجديد ، والطاقة المولدة للتجديد الفكري والحركي والإصلاحي والإبداعي ، جمع متفرق الرؤية  وشتات القول ، ومعالم التفكر ، وسائس التغيير ، وآمان الاسترشاد في أفق العود الإسلامي المأمول .

تعزز المنهج المقترح على الفكر الإسلامي والحركة الإسلامية بمؤلفات حهبذ الفكر والحركة الإسلامية في القرن العشرين الإمام أبي يعلى المودودي ، خاصة في كتابه المصطلحات الأربعة في القرآن ، ثم جاء كتاب الشيخ يوسف القرضاوي " الخصائص العامة للإسلام" بنظرة الفقيه والمفكر والداعية فكان بمثابة التأصيل الشرعي لكتابي سيد قطب .

ولكن النقلة الكبرى في تقديري بالرؤية التوحيدية الإسلامية المعاصرة التي هي جوهر وأساس وروح التصور الإسلامي ، حدثت على يدي المفكر الإسلامي الشهيد إسماعيل راجي الفاروقي في سفره البديع :"التوحيد ومضامينه على الفكر والحياة" عبر أبوابه :" التوحيد جوهر الخبرة الدينية ـــ التوحيد لُبَاب الإسلام ـــ التوحيد مبدأ التاريخ ـــ التوحيد مبدأ المعرفة ـــ التوحيد : مبدأ الغيب ـــ التوحيد : مبدأ الأخلاق ــــ التوحيد : مبدأ النظام الاجتماعي ـــ التوحيد مبدأ الأمة ــــ التوحيد مبدأ الأسرة ـــــ التوحيد : مبدأ النظام السياسي ــــ التوحيد : مبدأ النظام الاقتصادي ــــ التوحيد : مبدأ النظام العالمي ـــــ التوحيد : مبدأ الجمال .

وظف المفكر الكبير معارفه الموسوعية في مقارنة الأديان وعلم العقيدة و الشريعة،و علم الاجتماع، والفلسفة، والفنون ، و الاطلاع الواسع على الفكر الغربي الحديث في مضانه الإنجليزية على الخصوص ؛ بحكم موقعه الأكاديمي الرفيع  في جامعة تمبل الأمريكية في زمن قوة الفكر الغربي الأكاديمي ، و زخارته بعباقرة كل علم وفن . 

تعمقت الرؤية التوحيدية الإسلامية في هذا السفر الجليل، ووضعت له فلسفته العميقة بمستوى فلسفي وفكري ومعرفي ساخت بالتصور التوحيدي الإسلامي في أرض العصر والحضارة والتميز والإبداع والترقيى لمستوى الشهود الحضاري .

وقد بُنِيَ على " الخصائص والمقومات " كلّ التراث الفكري الصحوي الإسلامي المعاصر عليها ، ونمت نظريا الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والأخلاقية والسياسية والفنية  في مؤلفاتهم على ذاك الفتح المبارك الكريم ، الذي دخل بالفكر الإسلامي إلى خاصية العصر المعرفية والفكرية و الأيديولوجية و التنظيمية .

وهنا يطرح السؤال الصغير قيمة و وزنا ، الكبير خطرا ماحقا للإسلام والمسلمين في معترك الصراع والتداقع والمغالبة المعاصرة : أي وزن لخطاب وعمل لبدعة اللامذهبية في تناولها للتوحيد ، وإدارة القول عليه ، عند فتح صندوقه تجده  استرجاع لكلاميات الفرق والملل والنحل الإسلامية التي ذكرنا ، ثم إدارة معارك كفر وإيمان ، سنة وبدعة ، شرك وضلال .

ولسنا ندري هل سألوا أنفسهم يوما : من تواجه الأمة اليوم هل هم المعتزلة والأشاعرة ؟ ومن يحارب الأمة اليوم ؟ ومن يعمل على استئصال الأمة من جذورها وقيمها وروحها الإسلامية، وأخلاقها الإسلامية وشريعتها الغراء ؟ وهل دار بفكرهم ان الإسلام دين حضارة ، وأن المعركة و التحدى الأعظم هو عودتنا للحضارة بسمات العصر لنبلغ رأس الترتيب الحضاري في الأمم ومن ثمة نستحق شرف الشهادة عليهم ؟ سمعت مرات من دعاة منهم طبقت شهرتهم الآفاق يقول بعضهم : والله نحن لسنا في حاجة لصناعة السيارة والطيارة ، فهذه يصنعها الغرب الذي سخره الله لنا ، ورسالتنا تبلغ العقيدة .  

 

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services