28

0

قبور الأحياء خلف القضبان: فلسطين تُذبح في السجون الإسرائيلية بصمتٍ عالمي مشين

بقلم: بن معمر الحاج عيسى

 

في زاويةٍ مظلمة من هذا العالم المنكفئ على ذاته، يتعرض الفلسطينيون لأبشع أشكال الإبادة الهادئة، تلك التي لا تثير الجلبة ولا تُحدث الصراخ، لكنها تنخر الروح وتفتك بالحياة، وتترك آثارها في جدران الزنازين، وأجساد الأسرى، ودموع الأمهات، وأصوات الأطفال. داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي، ثمة مسلخ بشري، آلة صامتة للموت البطيء، ومقصلة لا تصرخ وهي تهوي على أعناق الحياة. كل شيء هنا مهيأ ليكسر الإنسان: المكان، الزمان، الجدران، القوانين، اللغة، وحتى الصمت. إنها منظومة كاملة صُممت لا لتقيّد الجسد فحسب، بل لتقتل الروح، وتُطفئ الوعي، وتُسكت الذاكرة. هناك، حيث لا قمر في السماء، ولا نافذة في الجدار، يتنفس الأسرى عبر جدران من الغصة، ويقاومون العدم بقبضات من الكرامة.

نبدأ من الجرح الطفولي المفتوح: الأطفال الأسرى، الذين يبلغ عددهم اليوم 440 طفلًا فلسطينيًا، لا تتجاوز أعمار معظمهم الخامسة عشرة، اعتُقلوا من بيوتهم، من مدارسهم، من الأزقة والطرقات، كأنهم قنابل موقوتة أو تهديدات أمنية. لكن الحقيقة أنهم مجرد أبناء للحرية، كُتب عليهم أن يولدوا في زمن الاحتلال. 205 أطفال منهم حُكم عليهم بأحكام ثقيلة، لا تعترف بأنهم قُصّر، بل تعاملهم كالبالغين المجرمين، فيما 100 طفل اعتُقلوا إداريًا، أي دون تهمة واضحة، ودون محاكمة، ودون نهاية معروفة، يُسجنون لأن "الاشتباه" كافٍ في عرف الدولة القائمة على الخوف والهيمنة. أما البقية فهم موقوفون، يقبعون في انتظار محاكمات قد تأتي وقد لا تأتي، لكن المؤكد أن أيامهم تُستنزف، وطفولتهم تُغتال، وأحلامهم تُسلَب وهم في طور التشكّل.

ومن الطفولة إلى الأنوثة المكبّلة: الأسيرات الفلسطينيات، وعددهن اليوم 47 امرأة، بينهن أمهات، قاصرات، نساء حوامل، ومصابات بالسرطان، وكل واحدة منهن تحمل قصتها الخاصة، وتروي فصلاً دامياً من كتاب الصمود الفلسطيني. في الزنزانة الضيقة، تسكن الأسيرة سهام أبو سالم (66 عامًا)، التي تحمل على أكتافها عبء السنوات والوطن، شاهدة على انعدام الرحمة، وعلى الجريمة التي لا تتوقف. بين الأسيرات، 15 أماً تحاول كل واحدة أن تحتفظ بصورة طفلها في ذاكرتها المرتجفة، وتقاوم نسيان صوته، رائحته، كأنها تتمسك بخيط الضوء في نفق معتم. قاصرتان اختُطفتا من ربيع المراهقة، ومُزجت أحلامهما بالتحقيقات والشتائم والإهانات، بينما 10 نساء يواجهن الاعتقال الإداري بلا تهمة، فقط لأن الاحتلال قرر أنهن يشكّلن خطرًا غير مرئي. أسيرتان حامل، وأخريان مصابتان بالسرطان، تُجبران على المقاومة من داخل الألم، ويواجهن الموت في أماكن لا تعترف بالحياة. أما شاتيلا أبو عيادة وآية الخطيب، فهما نموذج للخيانة الدولية، أسيرتان منذ ما قبل الحرب، ولم يُفرج عنهما رغم كل المبادرات والصفقات، وكأن الصمود يُعاقب، والكرامة تُدان.

ثم يأتي فصل آخر من المأساة: الصحفيون الأسرى، وعددهم 55 صحفياً، ليسوا مجرمين ولا مسلحين، بل فقط أصحاب كلمة وصورة، امتلكوا شجاعة الحقيقة، فقررت إسرائيل أن الكاميرا عدو، والقلم سلاح. قُمعت عدساتهم، وكُسرت أقلامهم، لأنهم قرروا أن يكونوا شهودًا على المجازر، لا شركاء في الصمت. كل تقرير كتبه أحدهم كان حُكماً عليه بالسجن، وكل صورة التُقطت لصرخة فلسطينية كانت تذكرة إلى الزنزانة. إنها معركة بين من يحمل الحقيقة ومن يحترف طمسها، ومع الأسف، في هذا العالم، تُنتصر الأكذوبة حين يكون الإعلام أسيرًا.

ثم يبتكر الاحتلال مصطلحًا جديدًا: "المقاتلون غير الشرعيين". بهذا الوصف يُصنف 2,214 أسيرًا من غزة، فلا يُمنحون حقوقهم كأسري حرب، ولا يُعرضون على محاكم مدنية، بل يُحتجزون إلى أجل غير مسمى، في سجون عسكرية ومعسكرات مثل "منشه"، و"سيديه تيمان"، و"عناتوت"، و"نفتالي"، و"الرملة تحت الأرض". لا أسماء، لا محامين، لا عائلات، لا صوت. إنهم مدفونون أحياء في ثقوب سوداء، محذوفون من الوجود، لأن إسرائيل قررت أن لا شرعية لهم، فصار قانونها سيفاً مصلتاً على الحق.

ثم تأتينا الصدمة الأكبر: الأسرى الشهداء. 310 شهيدًا ارتقوا في سجون الاحتلال منذ 1967، منهم 73 شهيدًا منذ 7 أكتوبر فقط، ما يشي بأن آلة القتل تصاعدت، ولم تعد تتورع عن شيء. 115 شهيدًا نتيجة التعذيب، وهو تعذيب ممنهج، لا يهدف لانتزاع معلومة، بل لتدمير الإنسان. 109 استشهدوا بالإهمال الطبي المتعمد، حيث يُترك الأسير يتألم حتى الموت، و79 أُعدموا بعد اعتقالهم مباشرة، و7 أُطلق عليهم الرصاص داخل الزنازين، كأنهم ليسوا أسرى بل أهداف متحركة. وحتى بعد الموت، لا تُردّ أجسادهم: 80 جثمانًا لا تزال محتجزة، منهم 71 من حرب غزة الأخيرة. لا يُسلَّمون لعائلاتهم، وكأن الموتى الفلسطينيين يشكلون خطرًا على أمن الدولة.

أما المرض، فقد أصبح سلاحًا خفيًا لقتل الأسرى ببطء. 2,500 أسير مريض يعيشون الموت في شكل بطيء ومؤلم، بينهم 260 بأمراض مزمنة وخطيرة، و27 مصابين بالسرطان، يُتركون دون دواء أو أمل. 22 أسيرًا يعانون من إعاقات حركية أو نفسية، و3 مصابون بشلل نصفي، يتحركون على كراسٍ عاجزة، في زنازين عاجزة، في وطن أعجزه العجز الدولي. السجن الإسرائيلي ليس مكانًا للعقوبة، بل مصنعًا للإبادة، يقتل الإنسان قطعة قطعة، ونبضًا نبضًا.

في سجن جانوت، ترتسم ملامح الجحيم: الطعام شبه معدوم، والوزن يتناقص، الأجساد تتهالك، الأسرى يُربطون بكوابل كهربائية، يُحرَمون من الهواء الطلق، ويُعتدى عليهم بعد زيارات المحامين، لأن القانون هنا تهمة، والعدالة مهزلة. أما الأسير محمد أبو العز، فهو صورة حية للموت المؤجل. شاب اعتُقل سليمًا، واليوم يُصارع الألم والعاهات، كأنه خرج من محرقة وليس من سجن، ضحية لجريمة مستمرة تُمارسها "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" كما يُقال، على مرأى ومسمع من العالم.

في ختام هذا المشهد الأسود، يتبقى سؤال واحد: ماذا تبقى من الضمير البشري؟ أين المؤسسات؟ أين العدل؟ أين تلك الهيئات التي تتحدث عن حقوق الإنسان؟ إنها تتوارى حين يكون الإنسان فلسطينيًا. الأسرى الفلسطينيون لا يُسجنون فقط لأنهم خالفوا قانونًا، بل لأنهم ينتمون إلى وطن يُراد له أن يُمحى. لأنهم أبناء ذاكرة، وسلالة مقاومة، ورموز لحكاية لم تنته. في كل زنزانة فلسطينية، هناك شهادة. وفي كل جدار، هناك دم. وفي كل صمت دولي، هناك خيانة.
فإلى متى سنتركهم وحدهم في مواجهة الجلاد، والظلام، والتواطؤ؟
وإلى متى سنستمر في تدوين أرقامهم... بينما تُزهق أرواحهم؟

 

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services