53
0
حين يصمت العالم ويتكلم القلب: التوحّد… حكاية الأرواح التي تسمع بلغة أخرى

الحاج بن معمر
في ركنٍ هادئ من هذا العالم الصاخب، يجلس طفلٌ يحدّق في العدم، يراقب الضوء وهو يتسلّل من شقوق الستائر، يتتبع ذبذباته بعينيه كما لو أنه يرى فيه موسيقى لا يسمعها أحد سواه. تظنّه غارقًا في الصمت
في ركنٍ هادئ من هذا العالم الصاخب، يجلس طفلٌ يحدّق في العدم، يراقب الضوء وهو يتسلّل من شقوق الستائر، يتتبع ذبذباته بعينيه كما لو أنه يرى فيه موسيقى لا يسمعها أحد سواه. تظنّه غارقًا في الصمت، لكنه في الحقيقة يحاور الكون بلغةٍ لا نعرفها بعد. تلك هي عوالم التوحّد، العوالم التي ما زالت تخيف البعض وتربك الأطباء وتُلهم الشعراء وتُعلّمنا كل يوم أن الإنسان ليس قالبًا واحدًا، بل عوالم متفرّقة تتوحّد فقط حين نفهم الاختلاف.
التوحّد ليس مرضًا كما يظن الكثيرون، بل هو حالة عصبية نمائية معقدة ترافق الإنسان منذ الطفولة وتؤثر في تفاعله الاجتماعي وقدرته على التواصل والسلوك. يصفه العلماء بأنه "طيف" لأن درجاته متفاوتة من الخفيف إلى العميق، وكل حالة تحمل بصمتها الخاصة، مثل اختلاف بصمات الأصابع. ومع ذلك، فإن وراء هذا الطيف الواسع قاسمًا مشتركًا واحدًا: عقل يعمل بطريقة مختلفة، لا أقل ذكاءً، بل مختلفة فقط.
يقول البروفيسور طلال عبد الحميد، أستاذ علم الأعصاب بجامعة القاهرة: “الطفل المصاب بالتوحد لا يعيش في عزلة كما نتصوّر، بل يعيش في عالم حسيّ مكثّف، يسمع الأصوات بشكل مضاعف، ويرى الألوان بنبضات أقوى، ويشعر بالألم والفرح بطريقة لا يمكننا إدراكها. إن ما نعتبره انسحابًا من الواقع هو في الحقيقة هروب من ضجيج العالم الذي يؤذيه.”
وقد أظهرت الدراسات أن نسبة الإصابة بالتوحّد في العالم ارتفعت بشكل ملحوظ خلال العقدين الأخيرين. فبحسب تقارير منظمة الصحة العالمية لعام 2024، يُقدّر أن طفلًا واحدًا من بين كل 88 طفلًا يعاني من اضطراب طيف التوحّد بدرجات متفاوتة. هذه النسبة، وإن بدت صغيرة، تُخفي وراءها ملايين الأسر التي تواجه تحديات يومية في الرعاية والفهم والتقبّل الاجتماعي.
تقول الأخصائية النفسية الدكتورة سعاد رزوق من مركز الدعم السلوكي ببيروت: “المشكلة الحقيقية ليست في التوحّد ذاته، بل في نظرتنا نحن كمجتمع. الأطفال المصابون بالتوحد لديهم قدرات خارقة في بعض المجالات، لكننا نحاصرهم في قوالب تعليمية واجتماعية لا تتسع لاختلافهم. بدل أن نراهم عبئًا، علينا أن نراهم فرصة لاكتشاف أشكال جديدة من الذكاء.”
وتضيف أن بعض الأطفال المصابين بالتوحّد يُظهرون مهارات مذهلة في الموسيقى والرسم والرياضيات والبرمجة، حتى بات يُطلق عليهم لقب “الأوتيست العبقري” في الغرب. الأمثلة كثيرة، من الفنان الأمريكي ستيفن ويلمشر الذي يرسم المدن من الذاكرة بتفاصيل دقيقة بعد رؤيتها مرة واحدة، إلى الطفل الياباني هاروتو ناكاي الذي حلّ معادلات فيزيائية معقّدة في عمر السابعة. هؤلاء لا يخرقون القاعدة، بل يوسّعون مفهوم العبقرية الإنسانية.
لكن خلف هذه القصص الملهمة، توجد أيضًا معاناة صامتة. فالأمهات اللاتي ينجبن طفلًا مصابًا بالتوحّد يواجهن مشاعر مختلطة من الصدمة، والذنب، والخوف من المستقبل. تقول أمٌّ تُدعى نجلاء في إحدى المقابلات: “عندما اكتشفت أن ابني مصاب بالتوحّد، شعرت وكأن العالم انهار. لكن مع الوقت، أدركت أن الله لم يختبرني بضعف، بل علّمني حبًّا من نوع آخر. ابني لا يقول لي أحبك، لكنه يُمسكني من يدي بطريقة لا يفعلها أحد.”
الأطباء يوضحون أن الكشف المبكر هو المفتاح الذهبي في التعامل مع التوحّد. فكلما شُخّصت الحالة في سن صغيرة، كانت فرص تحسين التواصل والسلوك أفضل. ويؤكد الدكتور وسيم بركات، خبير التوحد والسلوكيات النمائية في الأردن: “العمر الذهبي للتدخل هو ما بين عامين إلى خمس سنوات. خلال هذه الفترة يمكن تعديل السلوك وتطوير اللغة من خلال برامج علاجية فردية مثل تحليل السلوك التطبيقي (ABA) والعلاج باللعب.”
ومع ذلك، فإن الواقع في البلدان العربية ما زال صعبًا. فالكثير من الأسر لا تملك إمكانات العلاج، والمراكز المتخصصة قليلة، وغالبًا ما تكون مكلفة. كما أن الوعي المجتمعي بالتوحد ما زال ضعيفًا، إذ يواجه الطفل المصاب بالتوحد وأسرته وصمةً اجتماعية مؤلمة. يقول الدكتور خالد العبدلي، استشاري الصحة النفسية في الرياض: “الوصمة الاجتماعية تقتل الأمل أكثر من المرض نفسه. حين يُمنع الطفل من المدرسة بسبب اختلافه، نخسر نحن كأمة فرصة لتعلّم معنى الرحمة.”
من الناحية العلمية، ما زال الجدل قائمًا حول أسباب التوحّد. الأبحاث ترجّح أنه مزيج من العوامل الوراثية والبيئية، فقد وُجد أن بعض الجينات تلعب دورًا في تطور الجهاز العصبي بطرق غير اعتيادية، بينما قد تؤثر عوامل مثل التعرض للملوثات أو الالتهابات أثناء الحمل في زيادة احتمالات الإصابة. ومع ذلك، يؤكد العلماء أنه لا علاقة للتطعيمات باضطراب التوحد كما روّجت بعض الشائعات في الماضي.
ولأن الإنسان ليس آلة، فإن البعد الإنساني في التعامل مع التوحّد يظلّ الأهم. فكل طفل على هذا الطيف يحتاج إلى الحب، وإلى من يفهم صمته. تقول الدكتورة ريم بوزيد، معالجة النطق في الجزائر: “العلاج ليس فقط جلسات ووسائل تعليمية، بل علاقة إنسانية تقوم على الثقة. حين يشعر الطفل بالأمان، يبدأ بالتواصل تدريجيًا. بعض الأطفال لم ينطقوا طوال سنوات، ثم قالوا أول كلمة عندما شعروا أن أحدًا يفهمهم.”
ومن المثير للاهتمام أن التكنولوجيا الحديثة بدأت تلعب دورًا مهمًا في حياة هؤلاء الأطفال. تطبيقات الذكاء الاصطناعي باتت تُستخدم لمساعدتهم على التواصل عبر الصور والأصوات، مثل تطبيق “Proloquo2Go” الذي يمكّن الطفل من التعبير عن مشاعره بجمل مصوّرة. كما تستخدم مدارس خاصة في كندا واليابان روبوتات صغيرة للتفاعل مع الأطفال وتشجيعهم على النطق والتواصل الاجتماعي.
في الجانب النفسي للأسرة، تشير الأبحاث إلى أن وجود دعم اجتماعي فعّال يقلّل من معدلات الاكتئاب والإنهاك لدى الأمهات. فحين تشعر الأسرة بأنها ليست وحدها، تتغير قدرتها على الصمود. وفي هذا الإطار، بدأت مؤسسات عربية عديدة إنشاء جمعيات ومراكز للتوعية مثل “جمعية الأمل للتوحد” في تونس، و“مركز راية” في فلسطين، و“جمعية خطوة” في مصر، وكلها تعمل على إدماج الأطفال في المجتمع بدل عزلهم.
ويؤكد الخبير الاجتماعي الدكتور أمين صوان أن الإعلام يلعب دورًا خطيرًا في تكوين الصورة الذهنية عن التوحّد. يقول: “كلما عرضنا التوحد كحالة مأساوية، ترسّخ الخوف والشفقة. علينا أن نظهره كاختلاف طبيعي، كتنوع إنساني يثري المجتمع.” ويقترح أن تُدرج قصص الأفراد المتوحدين في المناهج الدراسية وفي الأعمال الفنية حتى يكبر الجيل الجديد على ثقافة التقبّل لا التنمّر.
أما من ناحية التربية، فإن التعليم الدامج هو السبيل الأنجع. فبدل إنشاء مدارس خاصة تعزل الأطفال المصابين بالتوحد، ينبغي دمجهم في الصفوف العادية مع دعم إضافي من معلمين متخصصين. فقد أثبتت التجارب في فنلندا والإمارات أن الدمج يزيد من ثقة الطفل بنفسه، ويحسّن مهاراته الاجتماعية.
العلماء اليوم لا ينظرون إلى التوحّد كخلل، بل كطريقة مختلفة في التفكير. فبينما يعتمد الدماغ العادي على معالجة شاملة للمحفزات، يعمل دماغ الطفل المتوحد بشكل تفصيلي دقيق، ما يجعله قادرًا على التركيز الشديد في الجزئيات الصغيرة. لذلك نجد كثيرًا من العلماء والفنانين عبر التاريخ ربما كانوا ضمن هذا الطيف دون تشخيص، مثل نيوتن، وآينشتاين، وبيتهوفن، الذين أظهروا أن العبقرية قد تكون شكلًا من أشكال الاختلاف العصبي.
لكن ما الذي يحتاجه المجتمع فعلًا؟ ليس الشفقة، بل الوعي. أن نكفّ عن استخدام كلمة “توحد” كشتيمة، وأن ندرك أن كل طفل يحمل بداخله عالمًا خاصًا يستحق الاحترام. تقول الدكتورة هند الأطرش، خبيرة علم الاجتماع: “الدمج لا يبدأ من المدرسة، بل من نظرة الأم في البيت ونظرة الجار في الشارع. حين نكفّ عن النظر إلى المختلف على أنه ناقص، نكون قد بدأنا أول علاج حقيقي.”
إن التوحّد يعلّمنا أن التواصل لا يعني الكلام فقط، وأن الصمت قد يكون لغة كاملة بحد ذاته. هؤلاء الأطفال يذكّروننا بأن الإنسانية ليست في الكلمات، بل في الفهم، في الصبر، في اليد التي تمتد دون أن تُسأل لماذا.
وربما يكون الأجمل في قصة التوحّد هو ما يرويه الواقع كل يوم: طفل لا ينظر في العيون لكنه يرى ما وراءها، لا يتكلم لكنه يُعبّر برسمٍ أو نظرة أو إيماءة، لا يعيش مثلنا لكنه يذكّرنا بما نسيناه — أن الروح لا تُقاس بالكلمات.
يقول الأب الفرنسي فيليب لابرو، مؤسس إحدى مدارس التوحد في باريس: “كنت أعتقد أنني سأعلّم ابني كيف يتكلم، لكنني اكتشفت أنه هو من علّمني كيف أسمع دون كلمات.”
ربما هذا هو الدرس الأكبر الذي يقدّمه التوحّد للعالم: أن الإصغاء أعمق من السمع، وأن الاختلاف ليس عيبًا بل مرآة نرى فيها تنوع الخلق وجماله.
وفي النهاية، يبقى السؤال الذي يجب أن نواجهه بصدق:
هل نحن مستعدون لاحتضان أولئك الذين يسمعون العالم بنغمة مختلفة؟
إن الإجابة لا تُقاس بالقوانين ولا بالمراكز، بل بمدى استعدادنا لأن نكون بشرًا بحق.

