149

0

هل تُقتل الحقيقة بالذكاء الاصطناعي؟ حين تحوّلت الأكاذيب الإسرائيلية إلى جيشٍ رقميٍّ يبرر الإبادة

بقلم الحاج  بن معمر 

في زمنٍ لم تعد فيه الحقيقة ابنةَ الواقع بل صناعةَ الشاشات، صعدت إسرائيل إلى مستوى جديد من الجريمة: لم تكتفِ بقتل الإنسان الفلسطيني، بل سعت إلى اغتيال ذاكرته ودفن صورته في الوعي الجمعي العالمي عبر أدواتٍ رقمية مُبرمجة بعناية لتصنع الوهم وتقدّمه للعالم على أنه حقيقة. هذه ليست حربًا على غزة فحسب، بل حربٌ على الإدراك الإنساني ذاته. فحين تتحول الأكاذيب إلى مقاطع مصوّرة مدعومة بتقنيات الذكاء الاصطناعي ثلاثية الأبعاد، وحين يُستبدل الدليل الجنائي بدليلٍ رقميٍّ مفبرك، يصبح العالم أمام أخطر انقلاب في تاريخ الإعلام: انقلاب الحقيقة إلى مُنتَجٍ سياسيٍّ جاهز للتصدير.

لقد كشفت الأشهر الأخيرة من حرب الإبادة في غزة أن إسرائيل لم تكن تخوض معركتها بالأسلحة وحدها، بل بجيشٍ آخر لا يُرى بالعين المجردة: جيشٍ من المبرمجين والمصممين وخبراء الدعاية النفسية الذين يعملون في الظل على إعادة إنتاج الواقع بوجهٍ مزيف. فبينما كانت الطائرات تُمطر القطاع بالقنابل، كانت وحدات الحرب الإلكترونية والإعلامية في تل أبيب تُغرق الفضاء الرقمي بسيلٍ من المقاطع المصنوعة رقمياً لتبرير تلك الغارات أمام الرأي العام الغربي.

هذه ليست صدفة؛ بل منظومة متكاملة تأسست منذ سنوات تحت لافتة “الهاسبرا” – أي الدعاية الرسمية الإسرائيلية – التي تطورت اليوم من خطابٍ سياسي إلى تكنولوجيا للتمويه والخداع.

تشير تقارير بحثية حديثة إلى أن ما لا يقل عن ثلاثةٍ وأربعين مشهدًا مصورًا بثّتها وسائل إعلام إسرائيلية خلال الأشهر الأولى من حرب 2023 تمّ تركيبها جزئيًا أو كليًا باستخدام برامج تصميم ثلاثية الأبعاد، بعضها مأخوذ من مكتباتٍ رقمية تجارية وأخرى من ألعاب الفيديو.

من بين تلك المواد، لقطات نُسبت إلى مستشفى الشفاء في غزة تُظهر ما زُعم أنه “مركز قيادة للمقاومة” تحت الأرض، ليتضح لاحقًا أنها مركّبة من صورٍ لموقف سيارات في واشنطن، ومشاهد من متحفٍ بحريٍّ في إدنبرة، وأخرى مأخوذة من لعبة “كول أوف ديوتي”. لكن الخطر لا يكمن فقط في فعل التزييف ذاته، بل في الاستعمال المنهجي لهذا التزييف كأداة سياسية لإنتاج “شرعيةٍ زائفة” للقتل.

كيف يمكن للعالم أن يُحاسب قاتلاً يُخفي جرائمه داخل خوارزميات مقنعة بالعلم والتقنية؟

إن دولة الاحتلال، التي لطالما امتلكت آلة دعائية ضخمة، وجدت في الذكاء الاصطناعي فرصةً لتطوير أدواتها إلى مستوى غير مسبوق.

فبدلاً من المتحدث العسكري الذي يقدّم روايته أمام الكاميرات، باتت الصورة نفسها تؤدي الدور. الصورة المفبركة أصبحت البيان العسكري الجديد، والمقطع المصنوع رقمياً صار أقوى من ألف تصريح.

في عصر السرعة والضجيج المعلوماتي، لم تعد الجماهير تبحث عن الدليل، بل تكتفي بما تراه، حتى وإن كان وهماً مصمماً على حواسيب وحدة الحرب الإعلامية الإسرائيلية. هنا تكمن المأساة الكبرى: العالم لم يعد يُصدّق ما يُقال، بل ما يُعرض أمامه على الشاشة، والشاشة صارت تحت سيطرة القاتل.

لكن لماذا تفعل إسرائيل ذلك؟ لأن الحرب لم تعد فقط على الأرض، بل على الرواية. فمنذ عقود، وهي تدرك أن أخطر ما يهدد مشروعها الاستيطاني ليس الصاروخ ولا الحجر، بل الوعي الفلسطيني الذي يفضحها أمام العالم. لذلك طورت منهجاً كاملاً في “إدارة الإدراك” قائم على تقنيات التضليل الرقمي، واختراق الرأي العام، وتوجيه الأخبار عبر الذكاء الاصطناعي.

في الكواليس، تعمل شركات خاصة مرتبطة بالجيش الإسرائيلي مثل “سيتيماب” و”إنسايت” و”زيروبوينت” على إنتاج مواد بصرية موجهة لمنصات التواصل الاجتماعي، تُبث باللغات الإنجليزية والفرنسية والإسبانية لتشكيل رأيٍ عالمي يتقبل الحرب بوصفها “دفاعاً عن النفس”، إنها نسخة حديثة من البروباغندا، لكنها مموهة بلغة التكنولوجيا، ما يجعل كشفها أكثر تعقيداً وخطرها أعمق.

وفي موازاة ذلك، تطورت “الرقابة الرقمية” كذراعٍ مكمّلة لهذه الحرب. إذ يُلاحظ أن المنصات العالمية الكبرى – من فيسبوك إلى إنستغرام وتيك توك – قامت خلال العامين الماضيين بحذف آلاف الحسابات الفلسطينية أو تقييد وصولها، بينما منحت حرية كاملة للمحتوى الإسرائيلي. هذه ليست مصادفة تجارية بل اصطفاف تقني في خدمة السردية الأقوى تمويلاً ونفوذاً.

فحين يُحجب الألم الحقيقي، وتُسوّق الأكاذيب كحقائق، تتحول الإنسانية ذاتها إلى برنامج مراقبة تديره خوارزميات لا تعرف العدالة ولا الأخلاق.

تاريخيًا، لم تكن إسرائيل بعيدة عن توظيف الأكاذيب لتبرير جرائمها. لكنها اليوم انتقلت من مرحلة الكذب السياسي إلى صناعة “الواقع البديل”، حيث تُدار المعركة على عقول الناس لا على حدود الجغرافيا.

في حرب 2008 و2014، كانت تل أبيب تعتمد على إعلامها العسكري وبعض الصحف الغربية لتلميع صورتها. أما في 2023، فقد أصبحت تمتلك جيشاً من الذكاء الاصطناعي قادرًا على إنتاج مشهد مزيّف خلال دقائق وإغراق الإنترنت به قبل أن يتمكن أي صحفي مستقل من التحقق. هكذا وُلدت حقبة “الإبادة الرقمية” التي لا تكتفي بتدمير الجسد الفلسطيني، بل تُعيد صياغة موته بطريقةٍ تجعل العالم يتعاطف مع الجلاد لا مع الضحية.

الأخطر من ذلك أنّ هذه الحرب الرقمية لا تُمارَس فقط ضد الفلسطينيين، بل ضد وعي البشرية جمعاء. فحين تُصدّر إسرائيل صوراً مزيفة على أنها حقائق، فإنها لا تُضلّل العالم فحسب، بل تُعيد تعريف مفهوم الحقيقة نفسه. أيّ معنى ستبقى له الحقيقة إذا أصبحت قابلة للبرمجة؟ وكيف يمكن للمجتمع الدولي أن يميّز بين الدليل الجنائي وبين منتجٍ رقميٍّ أُنتج في استوديوهات تل أبيب؟ الأسئلة كثيرة، والإجابات تزداد قتامة مع كل مقطع جديد يتم كشف زيفه. إننا أمام مرحلة تاريخية جديدة، حيث يصبح الذكاء الاصطناعي شريكًا في الجريمة، لا في توثيقها.

وتكشف مصادر إعلامية أوروبية أن عدداً من هذه المواد المزوّرة صُنّعت داخل مراكز بحثية إسرائيلية بالتعاون مع شركات تقنية غربية في إطار ما يسمى “التحالف الأمني المعلوماتي”. الهدف المعلن هو “مكافحة الدعاية المتطرفة”، لكن النتيجة العملية كانت إنتاج بروباغندا رقمية تُجمّل جرائم الحرب، إنها استعمارٌ ناعم للعقول يُدار بالأرقام، حيث تُقاس المصداقية بعدد المشاهدات لا بحجم المأساة. والمفارقة أنّ الغرب الذي بنى مفهوم حرية الصحافة على كشف الأكاذيب، أصبح اليوم يموّل من يبتكرها.

في هذا السياق، برز تصريح ديمتري دلياني، عضو المجلس الثوري والمتحدث باسم تيار الإصلاح الديمقراطي في حركة فتح، الذي قال فيه إنّ “جيش الإبادة الإسرائيلي حوّل التكنولوجيا إلى أداةٍ لتزوير الوعي الإنساني”. هذه العبارة تختصر المأساة بأكملها: إنّ الحرب لم تعد حرباً على أرضٍ محتلة بل على وعيٍ عالميٍّ يُعاد هندسته.

فالمجرم بات يعرف أنّ السيطرة على الرواية أخطر من السيطرة على المدينة. ولأنّ الصورة أصبحت أقوى من الحقيقة، قررت دولة الاحتلال أن تكتب التاريخ بعدستها هي، حتى وإن كانت عدسةً مزيفة.

إنّ الكارثة الكبرى تكمن في تواطؤ الصمت الدولي مع هذه المنظومة الرقمية. فبينما تُقتل آلاف الأرواح في غزة، تتردد المؤسسات الأممية في مواجهة التضليل الرقمي الإسرائيلي. لا لجان تحقيق مستقلة، ولا مسائلة للشركات التي ساهمت في إنتاج أو نشر الأكاذيب. فهل يمكن للعالم الذي يجرّم الأخبار الكاذبة حين تمسّ مصالحه أن يلتزم الصمت أمام دولةٍ تستخدم الكذب لتبرير الإبادة؟ وكيف يمكن أن نثق بنظامٍ دوليٍّ يساوي بين الضحية والمحتل في مساحةٍ إعلاميةٍ تهيمن عليها الخوارزميات؟ إنها أسئلة لا تنتظر إجابة بقدر ما تفضح خواء الضمير الإنساني.

لقد أثبتت التجربة أن المعركة المقبلة لن تُخاض بالبندقية، بل بالبيكسل. والوعي سيصبح الجبهة الأخيرة التي يحاول الفلسطيني الدفاع عنها بكل الوسائل. في مواجهة الجيوش الرقمية، يبرز الإعلام الحرّ والمستقل كسلاحٍ أخلاقي لإنقاذ الحقيقة من المقصلة التقنية. الصحفي الفلسطيني اليوم لا يحمل كاميرا فقط، بل يحمل مسؤولية التاريخ في زمنٍ تتساوى فيه الحقيقة والكذب أمام خوارزمية واحدة. ومن هنا فإن واجب المؤسسات الإعلامية الدولية أن تطور آليات تحقق مستقلة، وتعيد النظر في سياسات النشر والتوثيق، لأن ما يُرتكب في الفضاء الرقمي لا يقل فتكاً عمّا يُرتكب على الأرض.

إن السؤال الذي يجب أن يُطرح اليوم ليس كيف تُمارس إسرائيل الكذب، بل كيف سمح العالم لها بتحويل الكذب إلى منهج دولي؟ ما الذي يجعل المقاطع المزيفة أقوى من شهادات الأطباء والصحفيين في غزة؟ ولماذا يسكت الغرب عن جرائم تكنولوجية تُرتكب باسمه؟ لعل الإجابة تكمن في المنظومة الأخلاقية المختلة التي تُقدّم التقنية على الحقيقة، والبرمجة على الضمير. لقد أصبح الإنسان المعاصر مستهلكًا للمعلومة لا باحثًا عنها، وصار كل ما يُعرض عليه مقبولًا طالما أنه مصمم بإتقان. هذه هي الجريمة المثالية التي ابتكرتها إسرائيل: أن تقتل الفلسطيني مرتين، مرة بالقصف ومرة بالبرمجة.

في النهاية، لن تنقذ الحقيقةَ أدواتُ الذكاء الاصطناعي، بل وعي الإنسان. فالتاريخ لا يُكتب بالصور المصنوعة بل بالذاكرة الحيّة للشعوب. وإذا كان الاحتلال قد نجح في إنتاج “واقعٍ رقميٍّ” يبرر جرائمه، فإن الواقع الإنساني يظل أقوى من كل الأكواد. فصورة الطفل تحت الركام، وإن حجبتها الخوارزميات، تظل محفورة في الضمير البشري، وشهادة الطبيب الذي رأى الموت بعينيه أقوى من ألف مقطع مزيف. إن الحرب الرقمية التي تخوضها إسرائيل ليست سوى محاولةٍ أخيرة لطمس الحقيقة، لكنها ستفشل كما فشلت كل أدوات القمع، لأنّ الحقيقة وإن تأخرت، لا تموت.

يبقى السؤال المُلِحّ: إلى أي مدى يستطيع العالم أن يواجه هذا الشكل الجديد من الإبادة؟ ليس الإبادة الجسدية فحسب، بل الإبادة المعرفية، حين تُسحق الحقيقة تحت ركام الأكواد وتُحوَّل المأساة إلى ملفٍّ بصريٍّ جميل يخدع الضمير العالمي. إن مواجهة هذه الجريمة لا تحتاج فقط إلى الشجاعة، بل إلى ثورةٍ في أخلاق الإعلام، وثورةٍ في ضمير البشرية الذي أُغتيل على شاشةٍ مضيئةٍ تحترف الكذب وتبرر الموت باسم التقنية.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services