89

0

هل سيحكم الجيش ويسقط حكم المخزن المغربي؟

بقلم: الحاج بن عمر

سؤال يطرق الأبواب الحديدية في الرباط والدار البيضاء ومراكش كما يهمس في الأزقة الفقيرة بطنجة وفاس، سؤال يخرج من رحم الغضب الشعبي ويمرّ عبر دهاليز القصر، يحمل معه كلّ التناقضات التي تعيشها المملكة، من شوارع يزدحم فيها الشباب العاطل عن العمل إلى صالونات النخب التي تتحدث عن “الاستقرار المقدّس”. فهل نحن أمام منعطفٍ تاريخي يعيد رسم معادلة الحكم في المغرب؟ أم أن النظام المخزني، بكلّ ما راكمه من خبرة في امتصاص الأزمات، سيجد طريقه مرة أخرى لترويض الشارع ولجم التململ داخل مؤسسات الدولة بما فيها المؤسسة العسكرية؟

الاحتجاجات الأخيرة لم تكن كأيّ موجة غضب عابرة. فحسب تقارير منظمات حقوقية وشهادات محلية، امتدت التظاهرات من الشمال إلى الجنوب بوتيرة غير معهودة منذ حراك الريف سنة 2016. المطلب الظاهري كان اجتماعياً: تنديد بارتفاع الأسعار، تدهور الخدمات، وفساد الإدارات، لكن خلف تلك الشعارات البسيطة كان يسكن سؤال أعمق: من يحكم فعلاً في المغرب؟ وهل مؤسسات الدولة هي أدوات تنفيذ أم مجرد واجهات لنظام مركزيٍّ مغلق تتحكم فيه قلة قليلة حول العرش؟

لكن وسط هذا الانسداد، بدأت ترتفع أصوات تتحدث عن الجيش. ليس لأن المؤسسة العسكرية أبدت نية في التدخل، بل لأن الناس في لحظات اليأس تبحث عن القوة القادرة على فرض التغيير أو على الأقل إعادة التوازن،  البعض يرى أن الجيش هو المؤسسة الوحيدة التي ما تزال تحمل قدراً من الانضباط والكفاءة والوطنية. والبعض الآخر يحذر من الانزلاق نحو أوهام الانقلابات في منطقةٍ تعلّمت من تجارب عربية مريرة أن حكم العسكر ليس دواءً للاستبداد بل شكلاً آخر منه.

المعارض اليساري “عبد الرؤوف العسري” يرى أن “الاحتجاجات كشفت عجز الأحزاب والنقابات عن تمثيل الشارع، مما خلق فراغاً خطيراً في الوساطة السياسية، هذا الفراغ هو ما يجعل الناس تفكر في الجيش كمنقذ. لكن في الحقيقة، الجيش المغربي جزء من منظومة الحكم، وليس خارجها،  القائد الأعلى هو الملك نفسه، والتراتبية العسكرية لا تسمح بأي استقلال قرار سياسي داخل المؤسسة”.

أما الباحث الحقوقي “نجيب بوعزة” فيعتبر أن “فكرة تدخل الجيش غير واقعية تماماً في السياق المغربي، لأن النظام عمل منذ السبعينات على ما يسمى بسياسة تحصين المؤسسة العسكرية ضد الطموحات السياسية، بعد محاولتي انقلاب الصخيرات والطائرة، أعاد الحسن الثاني بناء الجيش بطريقة تضمن الولاء الكامل للملك، وقسّم مراكز القوة داخل المؤسسة كي لا تتشكل نواة انقلابية أبداً. لذلك فإن أيّ حديث عن انقلاب أو حكم عسكري في المغرب اليوم يفتقر إلى مقوماته البنيوية”.

لكن إذا كانت المؤسسة العسكرية محصّنة سياسياً، فهل هذا يعني أن الشارع سيبقى بلا سند؟ الواقع أن العلاقة بين الشعب والجيش في المغرب ليست عدائية كما في بعض الدول، بل هي علاقة احترام مشوب بالرهبة. الجيش يظهر في الكوارث الطبيعية، في المهمات الإنسانية، في بناء الجسور والمستشفيات الميدانية. في المخيال الشعبي، هو ذراع الدولة القوي حين تغيب المؤسسات المدنية،  غير أن هذا الحضور الخدمي جعل الناس تخلط أحياناً بين “هيبة الدولة” و“قدرة الجيش على الحكم”، وهو خلط خطير قد يفتح الباب لتأويلات غير محسوبة في لحظات الأزمات الكبرى.

المحلل العسكري السابق “محمد العوفي” يوضح في تصريح خاص أن “الجيش المغربي لا يمكن أن يتحرك خارج الإطار الدستوري إلا إذا انهار كلّ شيء. وحتى في هذه الحالة، فإن تدخله سيكون بهدف تأمين الدولة وليس لتسلم السلطة. هناك فارق كبير بين حماية النظام العام وبين السيطرة السياسية. المغرب استثمر كثيراً في بناء صورة الجيش كقوة وطنية محترفة لا سياسية، وهو ما يميزه عن تجارب الجوار”.

ومع ذلك، يظلّ السؤال قائماً: ماذا لو انهارت الثقة بين الشارع وكلّ المؤسسات؟ من يملأ الفراغ حين ينهار العقد الاجتماعي؟ التاريخ يعلمنا أن كل نظام مغلق يعيش على إيقاع مفارقة: كلما اشتدّت قبضته على السلطة، زادت احتمالات انفجارها من الداخل، والمخزن المغربي، رغم مرونته الظاهرية، يواجه اليوم ثلاثة تحديات متزامنة: أزمة شرعية، أزمة تمثيلية، وأزمة اقتصادية،  الشرعية تُستنزف حين يعجز النظام عن تلبية أبسط حاجات المواطنين،  التمثيلية تنهار حين تتحول الأحزاب إلى ديكور انتخابي، والاقتصاد يختنق حين تتحكم فيه لوبيات الريع والمحسوبية.

في هذا السياق، تبدو الاحتجاجات الأخيرة كجمرٍ تحت الرماد أكثر من كونها ناراً عابرة،  فالمطالب الاجتماعية تخفي عطشاً سياسياً حقيقياً، والرغبة في الإصلاح تنطوي على توقٍ للكرامة والعدالة. شباب المدن الفقيرة الذين خرجوا إلى الشوارع لا يؤمنون بالخطابات الرسمية ولا ببرامج الأحزاب. إنهم جيل رقميٌّ يعيش على الهامش لكنه يراقب كل شيء عبر هاتفه. وحين يتحدث عن الجيش أو عن “سقوط المخزن”، فهو لا يطالب بانقلابٍ عسكري بل يبحث عن “قوةٍ ما” قادرة على هدم الجدار السميك الذي يفصل بين الدولة والمجتمع.

الناشطة الحقوقية “سلمى بنجلون” تصف المشهد قائلة: “إنه صراع رمزي بين دولتين داخل الدولة: الدولة العميقة التي تمثلها البيروقراطية الأمنية والمالية، والدولة الاجتماعية التي يحلم بها المواطن. كلما اتسعت الفجوة بينهما، ازداد احتمال أن يخرج الصراع عن السيطرة”.

ومع ذلك، لا يمكن اختزال المشهد في ثنائية جيش/مخزن فقط. فالعوامل الاقتصادية تلعب دوراً حاسماً،  ارتفاع أسعار المواد الأساسية، أزمة السكن، تدهور التعليم، وتراجع فرص العمل دفعت مئات الآلاف إلى حافة الانفجار،  في المقابل، تواصل الحكومة الحديث عن “إصلاحات كبرى” واستثمارات ضخمة، في حين لا يرى المواطن أثراً لذلك في حياته اليومية. هذا التناقض بين الخطاب والواقع هو ما يغذي نار الغضب.

من جهة أخرى، تُظهر المؤشرات الاقتصادية أن الفجوة بين الأغنياء والفقراء بلغت مستويات غير مسبوقة. فحسب تقارير محلية ودولية، يتحكم أقل من 10% من السكان في أكثر من 60% من الثروة، هذه الأرقام تفسر لماذا تتكرر في الشارع شعارات مثل “أين الثروة؟” و“البلاد بلادنا والمخزن يسلبنا”. ومع كل دورة انتخابية، يزداد الإحباط الشعبي من صناديق اقتراع لا تغير شيئاً.

كل هذه المعطيات تجعل السؤال عن “حكم الجيش” في المغرب سؤالاً رمزيّاً أكثر منه واقعياً. إنه تعبير عن فقدان الثقة في كلّ القنوات السياسية، وعن الحاجة إلى قوة “محايدة” تضع حداً لحكم شبكة المصالح. لكن حين نعود إلى التاريخ، نجد أن المغرب، بخلاف جيرانه، حافظ على استقرار نظامه الملكي لعقود بفضل ذكاء سياسي يقوم على الامتصاص التدريجي للأزمات: تنازلات محسوبة، تعديلات دستورية شكلية، عفو عن معتقلين، وفتح هوامش إعلامية محدودة،  هذه التقنية السياسية جعلت النظام قادراً على التكيّف مع العواصف دون أن يغيّر جوهره.

في المقابل، هناك حدود لهذا التكيّف،  فجيل اليوم لم يعش سنوات الخوف القديمة، ولا يحمل ذاكرة الانقلابات، بل وُلد في زمن الإنترنت حيث كلّ شيء يُقارن ويُقاس،  حين يرى المغربي العادي ما يحدث في دول الجوار من تحولات، يتساءل: لماذا نبقى نحن في نفس الدائرة؟ هذا التساؤل البسيط هو ما يخيف النظام أكثر من أي شعارات سياسية، لأنه يعبر عن وعي جديد لا يمكن قمعه بالقوة.

المخزن يدرك أن بقاءه مرتبط بالقدرة على التحكم في ميزان القوة بين الأجهزة، لذلك يحرص على إبقاء الجيش بعيداً عن السياسة لكنه قريباً من الولاء. كلّ الترقيات، كلّ التعينات، تمرّ عبر القصر، هكذا يُضمن الولاء قبل الكفاءة. لكن هذا الولاء قد يصبح عبئاً إذا شعر الضباط المتوسّطون بأنهم يتحملون تبعات قرارات سياسية لا يشاركون فيها،  حتى الآن، لا توجد مؤشرات على تمرد داخل المؤسسة، لكن أيّ اهتزاز اجتماعي كبير قد يغير الحسابات.

من جهة أخرى، هناك البعد الخارجي،  فالمغرب يتمتع بدعم غربي واضح، خصوصاً من فرنسا والولايات المتحدة، اللتين تعتبران استقراره ضمانة لمصالحهما في المنطقة. هذا الدعم يعني ببساطة أن أيّ تغيير جذري غير متحكم فيه، سواء من الشارع أو من الجيش، سيُواجه برفض دولي واسع. وهنا يبرز البعد الجيوسياسي كعامل كبح لأي سيناريو درامي.

ومع ذلك، يذهب بعض المحللين إلى أن “الاستقرار المفروض” لا يمكن أن يدوم إلى الأبد. فحين تغلق كلّ الأبواب أمام الإصلاح السلمي، يبدأ الناس بالبحث عن بدائل غير متوقعة،  قد لا يكون الجيش منقذاً، لكن مجرد تداول فكرة تدخله يدلّ على عمق الأزمة وفقدان الثقة في مؤسسات الحكم.

الكاتب والباحث “يوسف المريني” يلخّص الأمر قائلاً: “المغرب يعيش اليوم لحظة ما قبل الانفجار أو ما قبل الإصلاح الجذري. إما أن يلتقط النظام الرسالة ويعيد توزيع السلطة والثروة بعدل، أو أن تتكفل الشوارع بفعل ذلك بطريقتها. في كلتا الحالتين، لا عودة إلى الوراء”.

لكن ماذا عن المخزن نفسه؟ هذا الكيان الغامض الذي لا يُرى ولا يُنتخب لكنه يحكم. تاريخه الممتد منذ قرون جعله يتقن فنون البقاء أكثر من أي مؤسسة أخرى، قوته ليست في العسكر ولا في القوانين، بل في القدرة على امتصاص الخصوم وتحويلهم إلى أدوات،  ومع ذلك، يبدو أن هذا الفن بدأ يفقد فعاليته أمام جيل لا يريد أن يكون أداة ولا تابعاً.

في نهاية المطاف، ربما لا يتعلق السؤال الحقيقي بما إذا كان الجيش سيحكم أو لا، بل بما إذا كان المخزن قادراً على الاستمرار بالصيغة نفسها في القرن الحادي والعشرين،  فالعالم يتغير، والمغرب ليس جزيرة معزولة،  والتاريخ علّمنا أن الأنظمة التي لا تستمع إلى شعوبها تنتهي وإن بعد حين.

قد لا يسقط المخزن غداً، وقد لا يحكم الجيش بعد غد، لكن شيئاً ما يتغير في العمق. هناك وعي جديد يتكوّن في الشارع، في الجامعات، في مواقع التواصل، وداخل بعض مؤسسات الدولة نفسها. وعيٌ يرفض الخضوع ويطالب بالكرامة والمحاسبة. وربما لهذا السبب تحديداً أصبح السؤال: “هل سيحكم الجيش ويسقط المخزن؟” ليس مجرد تكهنٍ سياسي بل علامة على تحوّلٍ تاريخي بدأ فعلاً، وإن لم تظهر نتائجه بعد.

ففي النهاية، حين تفقد السلطة قدرتها على الإقناع، وتفقد الأحزاب وظيفتها، ويتحول البرلمان إلى صدى فارغ، ويغدو الإعلام الرسمي أداة تزويق لا إخبار، يبقى الشارع هو البرلمان الحقيقي، ويبقى الجيش رمزاً في خيال الناس لآخر ما تبقى من قوة الدولة، لكن بين الرمز والواقع طريق طويل محفوف بالمخاطر، وطالما لم يدرك النظام أن الاستقرار لا يُشترى بالخوف بل يُبنى بالعدالة، فستبقى كلّ الأسئلة مفتوحة، وسيبقى السؤال الأكبر معلقاً: من سيحكم المغرب إذا سقط المخزن؟

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services