336

0

هكذا تحدَّث حميد بن عمرة:

كي تدافع عن نفسك، ليس ضروريا أن تملك سلاحا بل كن أنت السلاح

 

 

 

 

 حاوره عمر خضرون، كاتب وناقد سينمائي

 

على هامش المقال الذي خصصناه لسينما الهواة، أجرينا هذا الحوار مع المخرج السينمائي المقيم في فرنسا، فحدَّثنا بكامل الاندفاع الذي يميزه ... عن ذكرياته في هذا المجال ... عن السينما بصفة عامة ... عن رياضة الكاراتيه ... وعن فلسفته في الحياة.

 

يوشك السائل أن يسأل كيف أتى حميد بن عمرة لسينما الهواة، ولكنه حين يشاهد الأفلام الكبيرة التي أنجزتَها بعد انقضاء مرحلة السوبر 8، يجد نفسه مجبرا على تكرار السؤال المعتاد: كيف أتى حميد بن عمرة للسينما ككل؟ أم أنك، في نهاية الأمر، تفرق فعلا بين الصيغتين وبين الحقبتين؟

لماذا لا يقال عن سبيلبرغ بأنه بدأ كهاوٍ؟ ولماذا لا يُستعمل هذا الوصف في الحديث عنه أو عن كوبريك وغودار؟ عندما أخرجتُ فيلمي الأول لم أكن أشعر بأي فرق بيني وبين حامينا وعلواش وبوعمَّاري إلا في العيار. وعندما شاهدتْ الناقدة الكبيرة موني براح أفلامي، كتبت تقول إنها تعالج ما تتحاشاه السينما الرسمية أو لا تحسن التعبير عنه. هذا موثق حرفيا بالعدد 50 من مجلة "الشاشتان" لعام 1982. كانت ثقتي بها عالية لأني كنت أدرك، رغم سني المبكرة، أنَّها كانت أهلا للثقة النقدية. وحينما شاركتُ في مهرجان بروكسل، الذي كان حينها أكبر تظاهرة لعيار السوبر 8 في العالم، استجوبني صحفي قناة التلفزيون البلجيكي لمدينة "شارلروا" ولكنه تعامل معي كمخرج محترف وليس كهاو. ثم صورتُ فيلما بمدينة بروكسل عن كوابيس السينما التي عادت لتطاردني. أذكر أن بوجمعة كاراش، مدير السينماتيك وقتئذ، طلب أن يُعرض عملي بتلمسان. ولم أكن أرفض أي طلب له وهو الذي دعمني بعرض أفلامي ثُم تكفَّلَ بإرسالها لمخبر بلجيكي لغرض تضخيمها الى عيار ال 16 مم. هذا ما حفظ تلك الأفلام وسمح لها بالبقاء أكثر من أربعين عاما منذ إنجازها. كل هذه الأسماء متنت ثقتي بالأهداف التي كنت أطمح لها. وكان هدفي آنذاك الالتحاق بالشركة الوطنية للصناعة السينماتوغرافية، لكنه كان يُشترط اقتناء شهادة إخراج ولم تكن في الجزائر مدرسة لتعلم السينما، فكان ينبغي السعي للحصول على منحة للدراسة بالخارج. ولكن المنح كانت توزع على أبناء الشلة وأبي كان سائق شاحنة بسيط لا يعرف سوى العجلات والمحرك والمقود. ثم تمكنتُ أخيرا من الحصول على منحة فرنسية بفضل وساطة من الممثل عزيز دقة والفنان نذير روماني. أذكر أيضا أن مخرجا جزائريا مكلفا من طرف الشركة جاءني أثناء دراستي بباريس، لاقتراح توظيفي بالمؤسسة لكن كمدير للتصوير لا كمخرج. لماذا يقررون في مكانك ما تريد أن تقوم به؟ ولماذا كانت تلك الشركة تنتج أفلاما لمخرجين ليس لهم أي شهادة وغير تابعين لها؟  عادة ما نقول في بوسعادة، مدينة السينما المنسية ومدينة أمي المجاهدة: ما يبقى في الواد غير حجارو، والثقيل لا يَنجرُّ أبدا مع السيول. المقصود هنا هو ثقل الشخصية ورزانتها. فأنا ما زلتُ أشعر أن مجرى المياه ظل يسيل في الجبهة التي فتحتُها مُراهقًا، وأن أفلامي مستمرة دون انقطاع لأني عرفت كيف أسيل في مجرى لا يصب في أي سدٍّ. في فيلمي الأخير"الصف الثاني"نشاهد المخرج الإثيوبي الكبير هايلي غريما وهو يقول: استمر في الإبداع دون المبالاة بعدم وصول عملك إلى هؤلاء. وأسر لي بعد ذلك: كيف لم أعرفك من قبل؟  أتساءل الآن كيف يُكِنُّ لي رجل بهذا الوزن كل هذا الحب ولا أجد الحب ذاته عند أهلي؟ مع أن أفلامي ليست ممنوعة بقرار حكومي لأنها وطنية ولا تسيء للبلاد وليست مخلة بالآداب العامة حتى تُفرض عليها الرقابة الأخلاقية. إنها أفلام شاعرية وعالية الجودة شكلا ومضمونا، باعتراف كبار النقاد والمخرجين مثل المخرج السوري الكبير محمد ملص الذي شارك شخصيا في فيلمين من أفلامي، ومثل محمد رضا، الناقد اللبناني الشهير الذي خصص لي ثلاث صفحات كاملة في موسوعته النقدية الكبيرة التي وضعها لأكثر من 500 مخرج من دول العالم. وأنا لم آت للسينما بل السينما هي التي فرضت نورها عليَّ.

 

بعد أن درستَ الفلسفة ومارست رياضة الكاراتيه في المستوى العالي، عدت لهواياتك الأولى وفضلت أن تبقى وفيا للكاميرا في حين تخلى أغلب الهواة عنها. كيف تفسر ذلك؟ 

لم أدرس الفلسفة بل احتككت بها ولم أكمل دراستي. ومصير المتخرج فيها بالوطن العربي عموما لا يتعدى منصب التدريس. ولكن الجامعة كانت مسارا طبيعيا في انتظار دراسة السينما. أذكر تحديدا أستاذا بجامعة الخروبة قبل تحويل العلوم الانسانية الى بوزريعة. الدكتور الربيع ميمون وشغفه بالفكر الديكارتي. كان يقول لنا حين يكثر الضجيج بالمدرج: أنا أحبكم يا أبنائي، فلماذا لا تحبونني؟ كل شيء مبني على الحب. وحتى أن حب الذات أمر مشروع، فمن لا يحب ذاته لا يمكنه أن يمنح غيره قليلا من ذلك الحب. وأنا كنت أحب العدسة، تلك العين الثالثة التي استحوذت على فكري. أنها مرآة ذات ذاكرة كما يقول الممثل الكبير محمد اَدار في فيلمي "هواجس الممثل المنفرد بنفسه". فلسفتي في الحياة كانت: كي تدافع عن نفسك، ليس ضروريا أن تملك سلاحا بل كن أنت السلاح. والسلاح هنا ليس رشاش الكلاشينكوف وإنما هو المعرفة والتفتح على الآخر. لولا الرياضة وخاصة "الكاراتيه" لما تمكنت من التصدي أربعين عاما إلى التجاهل الذي قوبلت به من رؤساء المهرجانات ومن مؤسسات الإنتاج والتوزيع ببلدي. إنه فن مناجزة الذات وجهاد النفس. كل حركة تحصن مناعتك ضد الصراصير المنتشرة في هذا الوسط، القرلوات كما أحب أن أقول. كل تمرين يمنحك الصبر الكافي للاستمرار في سَيَلانك وتدفقك المثمر. أحضر هذا العام لنيل حزام الدرجة السادسة في رياضة الكاراتيه بعدما مررت بسكتة قلبية منذ عامين. وأنا برواق الموت، بدا لي القيام بحركات من "الكاتا" كنوع من التمسك بنية القتال. فتذكرت بيت المتنبي: نعدُّ المشرفية والعوالي، وتقتلنا المنون بلا قتال. فتمسكت بالله وبقي النبض مستمراالسينمائي ليس فقط صانع أشرطة لإلهاء العامة وإنما هو صانع فكر مرئي يبصم بالذاكرة اندفاعا وتحمسا من "أجل حياة أفضل".

كلنا يتذكر الفتى بن عمرة صاحب الأفلام المتوجة في مهرجانات أفلام الهواة فترة الثمانينيات. تُرى، هل بقي شيء من حميد بن عمرة الهاوي في شخص حميد بن عمرة المحترف؟

كان غودار حين يسخر من المهنة ومن الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم أكبر من غيرهم، يسميهم (محترفي الحرفة). كلمة هاوي قد تكون في فكر بعض الناس سخيفة لأنها تحمل بين حروفها احتقارا وتصغيرا ولأنهم يستعملونها عادة للإشارة إلى ما يُنجز في أوقات الفراغ. الكلمة اللاتينية الأقرب الى كلمة هاوي هي Hobby وليس Amateur. لأن أصل الكلمة بالفرنسية هو المُحِب. عندنا، قاموا بنسخ هذا التصنيف من التسمية الفرنسية، لا غير. في ذلك الوقت استعملتُ شخصيا مصطلح: السينما الحرة. لكن مفهوم الحرية لم يكن مناسبا للوضع السائد آنذاك. الآن أسميها سينما الكوماندوس لأنها كانت بالفعل مكافحة. لكن السؤال العالق والأكثر أهمية هو: من قرر استيراد كل ذلك الكم من كاميرات السوبر8 وتلك الأشرطة الخام؟ ومن استورد آلات العرض؟ هذا القرار هو الذي خلق حركة سينمائية طليقة نهاية السبعينات والذي استمر بشكل قوي حتى آخر مهرجان لسينما السوبر8 في سيدي فرج. كان ممكنا أن تبقى تلك الحركة مثلما كانت عليه في دول أخرى، مجرد لعبة يقتنيها بعض الأشخاص لتصوير لقطات لأفراد عائلاتهم أثناء العطل، لولا بصيرة المدير السابق للسينماتيك فهو الذي أسس تلك المهرجانات وهو الذي استعمل قاعاته المنتشرة بالبلاد لنشر ثقافة سينمائية جديدة. والآن، لا أجد أي فرق بين رؤيتي السينمائية الحالية وما صورته قبل أربعين سنة. الفرق في المعدات والميزانية فقط. أما لب الإطار فلم يتحرك كثيرا. عندما يشتد ساقك فإن طريقتك في المشي لا تتغير حتى الممات. إنها بصمة ووتيرة وهوية. الأسلوب هو بطاقة تعريف شخصية. ما بقي في ذاكرتي الآن هو النية الحسنة التي كانت تجمع بيننا وبين الشاشة. وحتى وإن كانت تلك الأفلام تُعرض في إطار التسابق، فإنه لم تكن بيننا أي نزاعات أو تكتلات.

شُبِّهتَ في فترة ما بجون لوك غودار الجزائري. هل يسعدك هذا الوصف، أم أنك ترى فيه قيودا غير محببة لأنها تمنع من التفرد؟ 

موني براح هي التي بصمت هذا المصطلح على نوعية الأفلام التي كنت أقدمها. أفلام غير مقيدة بالسيناريو الكلاسيكي. لم يكن في ذلك أي تشبيه أو مقارنة وإنما إشارة إلى تمكني من التقنية دون احترام القواعد المعترف بها. الفرق بيني وبين سينما المركز الوطني للصناعة السينماتوغرافية كان في حرية التصوير وحرية المواضيع وحرية السرد. هذا ما كانت تقصده السيدة موني براح دون البوح به مباشرة. لحد الآن، مازالت هذه الكناية تطاردني لأن المشاهدين والنقاد غالبا ما يحتاجون الى تصنيف الأعمال والمخرجين، وحين لا يجدون التعبير المناسب للفيلم أو للعمل، يلجؤون دوما إلى مزج هذا بذاك. لم يكن ممكنا لي التأثر بغودار ولا أن أنسخ منه طريقتي في السرد لأني لم أشاهد له أفلاما إلَّا بعد أن أنجزت أفلامي الأولى. شبهتني أيضا جريدة "الجزائر الإخبارية" بماياكوفسكي ولم أكن أعرف سيرة الشاعر الروسي ولم أقرأ له عدا الجملة التي يتداولها الجميع من رسالة تركها قبل انتحاره. التشبيه الذي يفرضه الآخرون ليس دوما من قبيل الثناء لأن فيه عادة نفي لوجود الشخص. ما نغفل عنه دائما هو الأثر الذي يخلفه الآخرون على الأسلوب. هل المخرج مجرد منفذ لسيناريوهات يكتبها آخرون أم أنه يخرج أفلاما برؤى شخصية؟ غودار كان فلسطينا وتظاهر من أجل فلسطين وأنجز فيلما مع محمود درويش. وبيني وبين غودار حرية وثورة و...محمود درويش، فأنا بدوري، صورتُ الشاعر الكبير بوزن وطن، صورته مرَّتين.

وأخيرا هل لاحظت أن بعض الولايات أصبحت من حين لآخر تبرمج مهرجانات لأفلام الهواة، صغيرة ودون دعم كبير من الوصاية. هل ترى ذلك مجديا في ظل الظروف المثبطة للعزائم السائدة في نظام الإنتاج والتوزيع؟ ما الذي يمكن أن تقترحه لتوجيه المخرجين المبتدئين؟

ليس هناك مبتدئ وخبير في السينما. لمعان الأفكار هو الفارق بين المتفرد والعادي، بين الذي يتقن الصرف والتصرف وبين المبني للمجهول. كن أنت ولا تحاول تقمص الآخر. الإصرار هو كلمة السر التي لا تقهر. الإصرار على البقاء أولى من السراب. الموهبة وحدها لا تكفي والعمل وحده لا يكفي، بل لابد من صقل المهارة بالمثابرة والجهد المستمر

تابعتُ بعض النشاطات هنا وهناك. أخشى غياب الاستمرارية وأن تكون هذه الولائم مجرد أعراس بلا ختان وبلا زفاف. لقد اقترحتُ الكثير من الأفكار على صفحة وزارة الثقافة قبل انعقاد الأيام التشاورية حول السينما ولكنها لم ترد في ملخص الاشغال الذي بدا مثل تقرير كتبه محاسب مالي، لأنه تطرق في معظمه للمسائل المالية. لقد تحول الغضب الى موضوع في حد ذاته وأنا لا أريد الدخول في متاهات العتاب لأني أثق أن في هذا الوطن قانون ونساء ورجال يخدمونه. ولا يمكن لهؤلاء أن يسكتوا لأن الجزائر في تقدم مشهود وفي تنمية لا يمكن أن يقف في طريقها هواة التهميش والتجاهل.

 

 

 

 

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services