255
0
حديقة أول نوفمبر بباتنة… حين تتحول مساحة صغيرة إلى شريان الحياة الليلية لعائلات تبحث عن الهواء

وسط مدينة باتنة، وفي الساحة الخلفية للمسجد القطب أول نوفمبر تختبئ مساحة خضراء متواضعة لا تتجاوز بضعة مئات خمن الأمتار، لكنها تتحول كل مساء إلى وجهة لا بديل عنها لعائلات المدينة التي تبحث في حر الصيف اللاهب عن قليل من النسيم و الحياة.
ضياء الدين سعداوي
حديقة أول نوفمبر رغم تواضعها صارت في السنوات الأخيرة المتنفس الوحيد لسكان الأحياء المجاورة ، في غياب مساحات خضراء حقيقية أو فضاءات ترفيهية مهيأة تستجيب لحاجيات العائلات و الأطفال وكبار السن.
نهار خانق وليل مكتظ
في ساعات النهار تبدو الحديقة خالية على عروشها، لا صوت فيها سوى أزيز الحرارة و لا حركة سوى ظل شجرة يتقلب فوق رقعة من اليابسة، الشمس تلسع الأرض والهواء ثقيل أما درجات الحرارة تصل أحيانًا إلى ما يفوق 40 مئوية، ما يجعل التواجد في الحديقة نهارًا مستحيلًا.
لكن ما إن تميل الشمس نحو الغروب حتى تبدأ الحديقة في إستعادة نبضها ، تتدفق العائلات من كل الجهات ، يتوافد الأطفال بالعشرات ويتحول المكان إلى فسيفساء من الأصوات والألوان. يختلط ضجيج الصغار بروائح الشواء وأصوات المهرجين بتغريدات الباعة، لتبدأ جولة الحياة الليلية التي باتت تعرف في باتنة بـ"سهرية الحديقة".
مساحة صغيرة تهج بضجيج مدينة كاملة
الحديقة ليست في الأصل إلا رقعة خضراء محدودة تتخللها بعض أشجار النخيل القديمة وبعض النباتات التي بالكاد تصمد تحت الشمس ،لا توجد بها مساحات عشب واسعة ولا ممرات مخصصة للراجلين ولا أماكن ترفيه مجهزة سوى زحلوقتين و أرجوحة غير صالحة للإستعمال تحولت مع الوقت إلى هيكل مهتريء.
وعلى الرغم من كل هذا النقص في البنية يستمر الناس في التوافد عليها، ليس حبا فيها بل لأنه لا بديل سواها.
تقول السيدة فضيلة،
وهي أم لبنتين:"الحر في البيوت لا يطاق ، نأتي إلى الحديقة كل مساء، لنجعل أطفالنا ينسون قليلاً ،حتى الجلوس على الأرض هنا أرحم من البقاء محاصرين داخل الشقة."
من فضاء عمومي إلى استغلال خاص
المفارقة أن هذه الحديقة التي من المفترض أن تكون ملكًا جماعيًا للمدينة، باتت تدار كما لو كانت فضاءً خاصًا فقد قامت مصالح البلدية بكراء أجزاء منها لبعض الخواص، فتحول جزء من المساحة الصغيرة إلى نشاطات تجارية و فضاءا لألعاب و تسلية الأطفال
و هناك ركن بات مخصصًا لطاولات بيع الذرة إلى جانب بيع الحلوى و الفطائر و أخرى لبيع لعب الأطفال و البالونات، بينما تنتشر طاولات و كراسي بلاستيكية وضعت دون تنظيم حولها دخان الفحم في مساحة من الحديقة تابعة لكشك يبيع الشواء.
في أحد الزوايا يسير رجل بين الأطفال بعربة كهربائية صغيرة يكتريها للأهالي كي يقودها أبناؤهم ،سيارات الأطفال هذه رغم ما تضيفه من مرح تتحرك وسط ازدحام خانق وقد تتسبب في حوادث صغيرة بين حين وآخر.
يقول شاب من رواد الحديقة:
"لا أحد يعارض أن الناس تشتغل، لكن لا يعقل أن تُحتل الحديقة بالكامل، صارت أقرب إلى سوق شعبي منها إلى فضاء ترفيهي والضحية دائمًا هو المواطن البسيط."
إنارة منعدمة وكراسي مفقودة
مع كثافة الزوار يتزايد الطلب على أبسط عناصر الراحة: مقعدٌ، إضاءةٌ أو مساحة مظللة، لكن الحديقة لا توفر شيئًا من هذا. المقاعد قليلة، أو لا توجد أصلًا ما يدفع بالعائلات إلى افتراش الأرض كبار السن يعانون من الوقوف والنساء يجلسن على الأرصفة في ظل غيابٍ تام للتجهيزات المناسبة.
الإنارة العمومية أيضًا لا تغطي كامل الحديقة، مع حلول الظلام تصبح بعض الزوايا مظلمة تمامًا ما يعرّض الأطفال لمخاطر التعثر أو الإختفاء عن الأنظار. يلجأ البعض لإستخدام هواتفهم للإضاءة بينما يفضل آخرون ملازمة الأطراف القريبة من الشارع حيث الإنارة أفضل.
مهرجون يزرعون الفرح وسط التعب
رغم الظروف توجد ملامح جميلة وسط هذا الزحام من أبرزها حضور دائم لفريق المهرجين المعروف "بدرو"، المهرجة"فوفا الصغيرة"و "سي سي" بزيهم الملون يحملون فرشًا وألوانًا مائية ويجوبون الحديقة مساءً ليرسموا على وجوه الأطفال رسومات صغيرة تدخل البهجة إلى قلوبهم.
تقول "فوفا الصغيرة"
"أرسم لأنني أحبهم، لأن هذه المدينة تحتاج إلى شيء جميل في عيون الأطفال، أراهم يركضون نحوي كل مساء هذا وحده يكفيني."
وجود " فريق المهرجين" أصبح جزءًا من ذاكرة المكان، بعض الأطفال يأتون للحديقة فقط للقاء هؤلاء المهرجين بلباسهم الملون ، رغم بساطة أدواتهم يفعلون ما لم تستطع الجهات الرسمية فعله بأن يمنحوا الأطفال شيئًا من الفرح.
حديقة تكشف عن الفشل في التخطيط الحضري
ما تكشفه حديقة أول نوفمبر يتجاوز حدودها الصغيرة، إنها مرآة لأزمة عمرانية أوسع، مدينة باتنة ورغم كبرها السكاني والجغرافي لا تملك اليوم سوى فضاءات عمومية محدودة للغاية أغلبها غير مهيأ أو غير مستغل.