358

0

"هامغرا نتمنزوث".. حين يتحول الخريف إلى عيد جامع في تكوت الأوراس

 

على تخوم جبال الأوراس، حيث تتعانق التضاريس الوعرة مع الذاكرة الجماعية ، يتجدد في كل نهاية من شهر أوت تقليد شعبي استثنائي يحول الخريف من موسم ذبول إلى عيد جامع.

استطلاع:ضياء الدين سعداوي 

 هناك في بلدية تكوت الواقعة على بعد 95 كيلومترًا جنوب ولاية باتنة، يفتح الستار على واحدة من أعرق التظاهرات الشعبية في الجزائر: "هامغرا نْتمنزوث" أو عيد سوق الخريف.

منذ قرابة خمسة قرون ظل هذا الموعد فضاءً يتداخل فيه التجاري بالروحي والاقتصادي بالثقافي حتى غدا مؤسسة اجتماعية متوارثة تضمن تماسك المجتمع مثلما تضمن الأرض خصوبة المواسم،  في تكوت لا يباع التفاح والتين والعسل وحسب بل تستعاد الحكايات وتجدد العهود وتقام المصالحات في طقس جماعي يجعل السوق عيدًا للحياة بقدر ما هو عيد للخريف.


رحلة نحو تكوت.. طريق التفاح والذكريات

الطريق من باتنة إلى تكوت عبر تازولت، الطاقة، إيشمول وأريس   وصولاً إلى تكوت ، رحلة جبلية شاقة تستغرق ما يقارب الثلاث ساعات، تتلوى عبر منعرجات مرتفعة ومنحدرات حادة، لكنها تفيض بالمشاهد الريفية البديعة. على قارعة الطريق أطفال وشباب وشيوخ يعرضون ما جادت به بساتينهم: تفاح، إجاص، تين، خوخ بري ، موسم هذه السنة كان وفيرًا لكن الأسعار الملتهبة والركود التجاري جعلت الثمار عالقة على الأغصان ، منظر الأشجار المحملة بالثمار غير المجنية بدا وكأنه مرآة مزدوجة، غنى الطبيعة في مواجهة ضيق السوق.

افتتاح احتفالي بنكهة وطنية

مساء أمس السبت افتتحت رسمياً تظاهرة سوق عيد الخريف وسط أجواء مبهجة. حضرت السلطات المحلية و وزوار من ولايات متفرقة وجابت الفرق الفلكلورية الساحة الكبرى في استعراض كرنفالي حمل نكهة وطنية جامعة.

قدمت فرق من أدرار وغرداية وسيدي بلعباس والجزائر العاصمة وميلة وباتنة عروضها مرتدية أزياءها التقليدية العريقة، دوى البارود في سماء تكوت  بينما صدحت زغاريد الطفلات في تناغم مع إيقاعات الرحابة والرقصات الشعبية، بدا وكأن القرية الجبلية الصغيرة تحولت إلى مسرح واسع تتقاطع فيه طبوع الوطن من الصحراء إلى الساحل ومن الهضاب إلى الأوراس.

السوق أكثر من تجارة

هذا العام استقطبت السوق حرفيين وتجارًا من شتى الولايات ، امتلأت الأزقة بمنتجات الصناعات التقليدية و  المحاصيل الزراعية الموسمية وأصناف العسل والمكسرات والتمور و الملابس المصنعة و الأدوات المدرسية إلى جانب الأواني و الأفرشة و غيرها ، وبقدر ما كان البيع والشراء حاضرين كان المشهد أقرب إلى لوحة فسيفسائية تلخّص تنوع الجزائر وثراءها.

يقول مسعود محمدي، رئيس الجمعية الثقافية "إذلس تامزغا" المنظمة للحدث: "عيد سوق الخريف ليس نشاطًا اقتصاديًا فحسب، بل هو تقليد أبوي متوارث يحمل بعدًا ثقافيًا وسياحيًا كبيرًا ويروج لوجهة تكوت وما تزخر به من تراث ومعالم."

ويضيف أنّ الحفاظ على هذه التظاهرة صار مسؤولية مشتركة بين الأجيال خصوصًا الشباب الذين يضخون فيها دماءً جديدة كل عام.

ذاكرة من خمسة قرون

في السوق التقينا أحمد عبد الرزاق،  ستيني من أبناء تكوت يتجول بين الباعة والزوار، يسترجع ذكريات سمعها من والده وجده:"سوق الخريف موجود منذ اكثر من 400 سنة. كان الزوار يأتون من القرى المجاورة مثل غسيرة وكيمل ومشونش وحتى من ولايات خنشلة وبسكرة ومنطقة القبائل، يستمر ثلاثة أيام من البيع والشراء والإحتفالات ثم "يفرڨ" السوق صباح اليوم الرابع."

لكن الأسواق لم تكن مجرد منصات للتجارة بل أيضًا فضاءات للحياة الإجتماعية. فخلالها يجتمع "تاجماعت" أي مجلس العرف للفصل في الخلافات وحل النزاعات بين الأعراش والأفراد وتجديد ما يشبه العقد الإجتماعي بين الناس، إنها وظيفة رمزية تجعل السوق بمثابة طقس جماعي للتصالح وإعادة الإنطلاق.

حين يختلط البعد الروحي بالمادي

الحاج الصادق بائع تمور منذ أكثر من نصف قرن يرى بأن السوق كانت وما تزال تحمل أبعادًا روحية واجتماعية: "لم يكن الهدف قديمًا الربح المادي فقط ، السوق كانت مناسبة للصلح بين القبائل، دفع الديات، فض النزاعات المالية، وحتى الشروع في عقود الزواج كما يقال عندنا: 'كي يتسالكوا الناس يبداو لعراس'."

هذا التداخل بين التجارة والعرف والتقاليد الإجتماعية جعل من سوق الخريف مؤسسة شعبية بالمعنى الأصيل، حيث تتقاطع المصالح الفردية مع قيم الجماعة.

مشاركة الشباب و استمرار العادة

في وسط الزحام، التقينا فارس برغوتي، شاب في العشرينيات يساعد والده الفلاح:"منذ طفولتي وأنا أرافق والدي إلى السوق ، هو موعد سنوي نبيع فيه منتجات بستاننا من تفاح وإجاص وتين وعسل، هنا نشعر أننا جزء من قصة قديمة متواصلة."

كلمات فارس تكشف عن الرابطة التي يخلقها هذا الحدث بين الأجيال، رابط يضمن استمرارية "هامغرا نتمنزوث" في وجه التغيرات الحديثة.

حضور متنوّع من الأوراس إلى الطوارق


على جنبات السوق، تتجاور المعروضات: خناجر نحاسية، زرابي من الصوف، أدوات فخارية، إلى جانب الملابس الجاهزة واللوازم المدرسية استعدادًا للدخول الإجتماعي الوشيك.

بابا بن محمد كاولة، الرجل الأزرق القادم من تمنراست، يعرض بفخر مفتاح الأهڨار و سيفًا صنعه يدويًا:"هذا السيف استغرق سنة كاملة من العمل. هو نسخة من سيف تينهينان، الملكة الطوارقية التي نعتبرها رمزًا."

وجود الطوارق إلى جانب الحرفيين من الشمال الشرقي والواحات الجنوبية منح التظاهرة بُعدًا وطنيًا جامعًا، يجعل من تكوت نقطة التقاء للجزائر المتنوعة.

الفنون الشعبية جسور الوطن

البرنامج الفني لم يكن أقل ثراءً من السوق، فرق الرحابة الشاوية من مروانة ألهبت الأجواء، تلتها رقصات العلاوي القادمة من سيدي بلعباس، ورقصة "تيكوبا" الأدرارية، لتؤكد أن الفن الشعبي هو القاسم المشترك بين الجزائريين، مهما اختلفت مناطقهم ولهجاتهم.

طفلات تكوت، وهن يرتدين "الملحفة" الشاوية الملونة، اندمجن بحماس مع الإيقاعات، كما لو أنهن يستعدن ذاكرة أمهاتهن وجداتهن ويحولنها إلى لحظة معاصرة نابضة.

بين الأمس واليوم

عمي عمر البوسليماني، شيخ سبعيني مقيم في باتنة، بدا مشدودًا إلى المقارنة بين الماضي والحاضر: "في السابق، كان التجار يأتون في قوافل على ظهور الخيول من خنشلة، عين البيضاء، بوسعادة وغيرها، كانوا يبيعون الدهان والصوف والعسل والقمح بالمقايضة. اليوم تغيرت المواد لكن بقي الجوهر ، السوق هو الموعد الذي تصفى فيه الديون وتعقد فيه صفقات الأراضي وتبدأ فيه أعراس الزواج."

التغييرات الإجتماعية والإقتصادية لم تمح روح السوق، بل أعادت تشكيلها بما يتناسب مع الحياة الحديثة.

سياحة، ثقافة واقتصاد

بالإضافة إلى السوق، يتضمن البرنامج الثقافي مسابقات في القصة والشعر، عروضًا مسرحية، مسابقات في الطبخ والحلويات التقليدية، معارض للكتاب، وندوات فكرية, كما نُظمت خرجات ميدانية لإستكشاف المعالم التاريخية في المنطقة.

هذه الفعاليات تعكس حرص المنظمين على جعل "عيد سوق الخريف" أكثر من حدث تجاري، إنه منصة للتعريف بتراث الأوراس وجسر لربط الذاكرة الشعبية بالسياحة الثقافية.


رغم الأجواء المبهجة يبقى التحدي الأكبر هو كيفية تحويل السوق من موعد محلي إلى قطب سياحي وطني ودولي، غلاء الأسعار، ضعف الترويج الإعلامي وغياب استثمارات سياحية مهيكلة تجعل من هذا الحدث العريق رهينة جهود فردية محلية.

لكن ما يمنحه الزخم الحقيقي هو إصرار السكان من الشيوخ إلى الشباب على إبقائه حيًا، إنها مقاومة صامتة ضد التلاشي ومرافعة لصالح الذاكرة والهوية في زمن العولمة.

تكوت بلدة تتنفس تراثها

تكوت ليست بلدة عابرة على الخارطة، موقعها الجبلي، طبيعتها البكر، تاريخها المقاوم في الأوراس، كلها تجعل منها رمزًا صغيرًا للجزائر العميقة، "هامغرا نْتمنزوث" ليس فقط سوقًا بل هو إعلان متجدد عن رغبة جماعية في الحفاظ على التراث حيًا وعن قدرة مجتمع صغير على أن يجعل من الخريف عيدًا للحياة.

 

 

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services