185
0
غلادياتور 2: يسيرٌ هُو السبيل، سريعٌ هو السقوط
متابعات على شاشات السينما في وهران وفي العاصمة
بقلم الكاتب والناقد السينمائي: عمر خضرون
تبدو هوليوود منذ "سبارتاكوس"(1960)، رائعة المخرج الكبير "ستانلي كوبريك"، مهووسةً بمواضيع النزاع على السلطة وأساليب مزاولة الديمقراطية عبر التاريخ، التاريخ الغربي بطبيعة الحال.
في هذا الفيلم المقتبس من رواية الكاتب الامريكي هوارد فاست، يلعب الممثل "كيرك دوغلاس" دورَ مُصارعٍ يتمرد على أنظمة الاستعباد في "روما القديمة"، على خلفية السجــال الديمقراطي بين أعضاء السينا من جهة وبين الامبراطور وجيشه من جهة أخرى، الرامي لإبقاءِ روما في دورها التاريخي المزعوم، الضروري لإشعاع حضارتها على مواطنيها وعلى العالم.
كان يسود في روما شعورٌ بأن حرية المواطنين الرومان ليست ممكنة إلا باستعباد الآخرين، مثل الشعور الذي يسود لدى صقور الغرب حاليا حين يعتقدون أن حرية العالم الحر ليست ممكنة إلا بتدجين الشعوب الساكنة جنوب الكوكب وجَرِّها لعولمة طاغية، ظاهرها علماني ولكنها يهودية مسيحية قبل كل شيء.
كانت العبودية إذن تعتبر مبررا لتأكيد التفوق الثقافي الغربي وحقا مكرسا لاستعباد الأفراد (من ذوي البنية القوية، أساسا)، أسرى الحروب على الشعوب الساكنة في أطراف الإمبراطورية الكبرى، في البلقان وتركيا وبلغاريا والحبشة وفي.... شمال افريقيا، تحديدا في الجزائر. ولا ندري سبب حرص البريطاني "ريدلي سكوت" مخرج فيلم غلادياتور(2013) ثم هذا الفيلم، غلادياتور2 (2024) على الرجوع الى شمال افريقيا مرتين متتاليتين.
ولا شك أن هذا الجزء الأخير من ثنائية ريدلي سكوت ينبغي أن يثير اهتمام كل جزائري مهتم بالتاريخ بما أن أحداثه تبدأ في نوميديا باعتبارها مدينة ساحلية (هل هي شرشال إذن؟ أم إحدى حصون سيرتا على البحر؟)، بعد أن بدأت أحداث الجزء الاول في موريطانيا القيصيرية، في "زوكابار" تحديدا، مدينة "مليانة" حاليا.
يصور الفيلم جانبا من مآسي الاستعباد يمكن اعتباره "فولكلوريا" الى حد ما، لأنه فيلمٌ عن الانتقام أساسًا، ولا شك أن الانتقام هو أهم مواضيع الفن السابع منذ نشأته.
فلا حرج إذن من العودة لموضوع ثورات العبيد المعروفة في تاريخ روما إن كان ذلك في مصلحة البطل القوي صاحب القوام الاوروبي والبشرة البيضاء والأعين الزرقاء الذي يأتي لينتقم من قتلة والده ويسترجع سلطانه المنتزع، رفقة جيش من العبيد المصارعين والأوفياء المعجبين، في زمن تكاثر فيه الفساد في روما وانحطت فيها قيم الجمهورية.
في غلادياتور2، الذي يعرض حاليا على شاشات وهران والعاصمة، تُصَورُ نوميديا كحاضرة ساحلية كبيرة، متمردة على الحكم المركزي في روما، فتتعرض إذن إلى حملة "تأديب" دموية في بداية الفيلم.
وعلى الرغم من بسالة أبنائها، إلا أن المدينة تفقد أسوارها المنيعة وأحسن رجالها الذي سيقادون الى الاستعباد كما كانت تفعل روما في تلك الأزمنة. ولكن بطل الفيلم، الذي يخطئ المشاهدون إنْ ظَنُّوهُ الزعيمَ الأول للمدينة أو من بين قادتها الكبار على الاقل، ما هو، في واقع الامر، إلا مستعمِرا (بكسر الميم)، مستوطنا مثل باقي المستوطنين، لأن باقي أحداث القصة ستكشف أنه سليل روما النبيل، فقد نجا، وهو طفل قاصر، من محاولة قتل أو استعباد بعد اغتيال والده الجنرال "ماكسيموس" وحبس أمه الملكة "لوسيلا" في الفيلم الأول، ثم لجأ على ما يبدو الى نوميديا، بعيدا عن روما وبعيدا عن ظلمها.
إن زوكابار في الفيلم الأول ثم (نوميديا في الجزء الثاني) ليست إذن إلا أماكن ديكورات إضافية لغرض تكثيف الاحداث وإضفاء المزيد من التشتيت، وهي طرق الكتابة التي يحذق فيها الأمريكان كثيرا. تحضر هنا العديد من الأمثلة: في فيلم المغامرات " إنديانا جونز والحملة الصليبية الأخيرة " الذي أنتجه المخرج الكبير "ستيفن سبيلبرغ" سنة 1989، يتنقل بطل الفيلم من البرتغال إلى إيطاليا إلى تركيا إلى النمسا إلى برلين النازية إلى البتراء بالأردن، بِرغبةٍ واضحة في التجول بالمُشاهِد وإبهاره قصد تدعيم فكرة البطل الأمريكي المغامر، المغوار والحاذق، الذي لا تخيفه الحدود والذي سيعود عاجلا وآجلا ليفيد وطنه، لأن القصة تبدأ من من جامعة "كونكتيكت" التي يعمل فيها والتي تأوي، كما يمكن أن نتوقع، العدد الأكبر من الأذكياء في العالم.
على الرغم من تقدم سِنِّه (87 سنة)، يفاجئنا ريدلي سكوت مرة أخرى بفيلم مغامرات قوي، ملئ بالتشويق المبهر والمبارزات البديعة، وتمر أحداثه دون أدنى فراغ ولا ملل رغم مدته الطويلة نسبيا (ساعتان ونصف)، ولكنه يحاول دائما الوفاء بالتزاماته الفكرية التي عبر عنها في أفلام أخرى عميقة مثل فيلم "مملكة الجنة، 2005" التي تدور أحداثه أثناء الحروب الصليبية الثالثة، بتفاصيل فلسفية عالية، تصف الصراع بين الخير والشر وتبشر بالحرية والتسامح.
وحين يقف الفتى المصارع بطل فيلم غلاديلاتور2، في مشهد أساسي من مشاهد الفيلم، ظافرا بجولة أولى من جولات المبارزة التي يتسلى بها أعيان روما المتلذذين بمنظر العبيد المتصارعين على بلاط القصر ورؤية دمائهم تتدفق بين أكواب النبيذ، يتظاهر للوهلة الأولى بتجاهل الملك "غيتا" الذي يدعوه للتعريف بنفسه، ولا يرد على أسئلته، تعبيرا عن الترفع أو عن غصة ما في صدره مترتبة عن مأساته القديمة التي ظلت مدعاة للشعور بالرغبة في الانتقام، والتي رُوِيتْ أحداثها في الجزء الأول من الفيلم.
ولكنه سرعان ما يعود لينطق أخيرا ويحذر الامبراطور الروماني القاسي المتسلط بقرب سقوط عرشه، بأبيات من شعر فيرجيل، شاعر روما الأول: يسيرٌ هُوَ السبيل، سريعٌ هو السقوط. والخطاب هنا واضحٌ على الرغم من تكرره وسذاجته. فالحضارات المبنية على الاستعباد (على الاستعمار إذن) لن تستمر طويلا، وستسقط لا محالة، بمقدار السرعة التي صعدت بها.
ولكن ريدلي سكوت الذي يتظاهر في هذا الفيلم بأنه حريص على احترام ذكاء المشاهدين بالتفكير في إشكالية انهيار الحضارات وفي أسبابها، وإن بشكل متسارع وغير كامل، لا يعدو أن يكون، في حقيقة الامر، إلا رجلا شغوفا متمتعا مثل صبي في سن العاشرة، على الرغم من سنه وعلى الرغم من تاريخه المشهود في الفن السابع بأعماله الجـادة المعروفة (أفلام: بلاد رانر، مملكة الجنة، نابليون وحتى غلادياتور1).
إنه على ما يبدو غير متحمس للعودة إلى تجربته المريرة السابقة (نابليون، 2023) التي لم تقنع جمهور القاعات ولم تنل النجاح المرتقب.
وهو هنا، يتقدم بإنتاج ضخم يعيد فيه بناء روما القديمة ومسرحها الشهير، الكوليزي، بشكل ساحر ورائع وغير مسبوق، ويتسلى فيه باستعمال أحدث التقنيات والمؤثرات في خدمة أفكار شبابية مذهلة تدعو للدهشة والاستغراب معا، بمشاهد مليئة بالعنف والرجولة وسيلان الدماء الذي لا يقاوم.
لا مجال إذن لكل عاشق للسينما أن يفوت مشاهدة هذا الفيلم التجاري الكبير، وريدلي سكوت يبقى وفيا لسمعته المعروفة كأحد أكبر المبدعين الأحياء في هذا المجال، ولكنه، مرة أخرى، يخضع لإغراءات هوليوود التي باتت تتسلى بمشاعر مشاهديها وبالحقائق التاريخية المكرسة، عن طريق كم هائل ومُرَوِّع من المبالغات، ومن التلاعب بالأحداث، ومن الابهار والحيل، ومن المؤثرات التي تحجب الأفكار النبيلة التي تدعيها هوليوود، وتدعيها أمريكا بصفة عامة.
بطاقة تقنية:
غلادياتور2
إخراج: ريدلي سكوت
سيناريو: دافيد شاربا
ديكور: أرتور ماكس
المدة: 148 د
تمثيل: بول ميسكال، بيدرو باس
كال، دنزل واشنطن.