649
0
الشيخ باعزيز بن عمر ... جندي من جنود الإصلاح في ميدان الفكر والقلم
لازم ابن باديس ودعاه البشير الإبراهيمي للإشراف على جريدة البصائر
بقلم الدكتور محمد مراح
كان مقال الدكتور عمر بن قينة، "ابن عمر ضحية مؤامرة الصمت" .مجلة المنهل، السعودية 1997. دافعا لي ، لإنجاز أطروحتي للدكتور "حياة وفكر الشيخ باعزيز بن عمر" . أقتبس منها تعريفا بالشيخ رحمه الله كسرا لآفة النسيان ، التي سنقترح كيف نُجَاوِزَهَا بالإنجاز الثقافي المعرفي الوطني المستدام بإذنه تعالى .
وُلد باعزيز بن عمر في 10 أكتوبر 1906، بقرية آيت حماد الجبلية دائرة آزفون واسمه الحقيقي في الحالة المدنية هو: بازي.عبد العزيز تلقى دروسه الأولى على يدي والده ببيته ، فحفظ القرآن الكريم، و دروسا أولية في الفقه والنحو, كان لوالده عليه أثر بالغ منذ الصغر،. فجوّ الأسرة الديني هو المهد الأول الذي تكونت فيه شخصيته الدينية .
انتسب إلى زاوية عبد الرحمان اليلولي.لنسبة لمؤسسها عبد الرحمن بن يسعد المصباحي ( 1030 هـ/1601 م – 1105 هـ/1676 م)،عُرفت بالتحرر و الانفتاح على الوطنية، فلا يمنعون من إدخال الجرائد السياسية والإصلاحية والمناشير إليها، بل يشجعون على ذلك، كانت ملجأ للسياسيين الرافضين للخدمة العسكرية الإجبارية. و لنزعتها الإصلاحية خصها ابن باديس بزيارة رفقة الشيخ با عزيز .
تربي طلابها تربية أخلاقية عالية فتنمي فيهم شخصية اجتماعية متعاونة، والاعتماد على النفس والكرم و البذل و الإيثار و حتى الرفق بالحيوان. مما كان له أثر بالغ في صقل سلوك مترجمنا، و انطباعه بخلال كريمة صاحبته طوال حياته. تخرج في الزاوية شابا يتقد حيوية ونشاطا، متطلعا لمزيد من المعرفة والعلم وربما تسري فيه روح نزّاعة للإصلاح والتجديد.
- التحاقه بابن باديس لتتلمذ عليه:
- فكان اللقاء بابن باديس كفيلا بتلبية كل أولئك ففي سنة 1928، و بالعاصمة قدمه إليه الشيخ أبو يعلى الزواوي(1295-1373هـ/1878-1952م) . و ذكر له رغبة هذا الشاب للالتحاق بقسنطينة كي يتلقى العلم على يديه .و في سنة 1929 اتجه إلى قسنطينة للانخراط في صفوف تلاميذ و طلبة ابن باديس الأوائل .
و قد وجد في دروسه و طريقته ما سره وفتح أمامه آفاقا باسمة للمستقبل؛ فلم يكن يقف عند حدود الكتب المقررة، كما هي الطريقة المتبعة حينئذ في معاهد الدراسة كالزيتونة، بل كان يضيف إليها ما هو أهمّ في نظره بعد غرس ملكة التفكير والفهم الصحيحين في نفوس الطلبة وهو توجيههم لحمل مشعل النهضة، وخوض غمار الدعوة المنتظرة . فتحددت – بهذا- الوجهة الإصلاحية التي كان يُعِدُّ لها ابن باديس طلبته وتلاميذه متوسلا إليها بأسلوب تربوي حي أهمّ سماته : التعبير الجيد العالى و تهذيب الروح و الربط بالعصر دون انقطاع عن الماضي و بث روح النشاط و العمل فيه .
فاجتهد الطالب في استيعاب هذه الصفات التربوية وتقمصها كي تنمو فيه مع مرور الزمن و تنطبع بها شخصيته . و بما جُبل عليه الفتى من حب التطلع و معرفة الواقع أحب أن يعرف ما لدى غير أستاذه من علماء قسنطينة من علوم، فاستأذنه في حضور دروسهم فوجدهم جامدين على طرائقهم التقليدية يستعملون الألفاظ العامية و الجمل السخيفة التي لا صلة لها بالفنون التي كانوا يقدمون كالنحو و العروض. فازدادت قناعته بنفاسة ما يقدمه لهم أستاذه ابن باديس، مضمونا وأسلوبا وهدفا فكان – بهذا- مثله الأعلى والشخصية الأبرز تأثيرا في حياته كلها . وقد تعمقت هذه الآثار في نفسه أكثر- أيضا - لطول صحبته له و ملازمته في تنقلاته للاصلاح و مستقبله، والمحاور البارع مع أقرانه من العلماء فضلا عن خطورته في نظر الاستعمار الذي كان يرسل الجواسيس يرقبون حركاته، و تنقلاته.واتصالاته بالعلماء والمصلحين فكشفت له عن ابن باديس المخطط المحنك .
و كان للشيخ الإبراهيمي – أيضا – أثر مهمّ عليه؛ فحين مروره سنة 1929 بسطيف إلى قسنطينة استمع لدرس الشيخ فهمّ بالبقاء هناك لولا وجوب الالتزام باتفاق أبيه مع ابن باديس . ولكن اكتشافه الحقيقي لعظمة الإبراهيمي تجلّت له يوم دعاه لتحرير جريدة البصائر إثر تسلّمه رئاسة الجمعية فتهيأ له أن يعرفه عالما و كاتبا و مفكرا، رئيسا وإماما و خطيبا، فلازمه ملازمة التلميذ لأستاذه ، لنا بالقول فكان الشخصية الثانية المؤثرة في حياته بعد أستاذه الأول ؛بثقافته الواسعة و طريقة تفكيره في معالجة المشكلات و تعمقها، و أسلوب كتابته.
توجه للدراسة بالزيتونة:،لكنه هل عاد لمتابعة دروسه على يدي ابن باديس على نحو يلائم أوضاعه الخاصة.
مهامه ووظائفه :
ــــ التدريس بمدرستين هما : مدرسة الشبيبة الإسلامية بالعاصمة التي كان يديرها الشاعر محمد العيد آل خليفة(1904 – 1979) ، والثانية هي التي أنشأها هو مع ثلة من المصلحين و هي مدرسة الإقبال بالأبيار بالعاصمة و تولى إدارتها .
وقد كان للمدرسة الأولى (الشبيبة) أثرها الفعال في نشاطه الفكري والثقافي، إذا كان يزامله فيها ثلة من الأساتذة الأجلاء كمحمد العيد آل خليفة، وعبد الرحمن الجيلالي، وكانوا يجتمعون بعد العمل للمناقشة والمساجلة .
دعاه الشيخ الإبراهيمي لمهمة محرر في البصائر تحت إشرافه، لمَّا آلت قيادة الجمعية إليه ، و تقتضي صفته تلك الإشراف على الجريدة شكلا ومضمونا، وكذلك الإشراف على وسائلها، و استمر في منصبه هذا إلى أن توقفت عن الصدور.
يقول صهره المرحوم الأستاذ إسماعيل الزكري:" ...و عن تعليم الدروس الخاصة ليلا و نهارا في المنازل العائلية فقد فاقت كل التصورات و لست مبالغا إذا قلت: كان الشيخ مدرسة عصرية متنقلة فلا تكاد تسأل أحدا في عهده من الشباب و الكهول رجالا و نساء و في مختلف الطبقات عمن تعلمت؟ إلا وأجابك بأنه من تلاميذ الشيخ باعزيز بن عمر فهو معلم الجميع حتى في المحلات التجارية في الأبيار حيث يسكن و في غيرها من أحياء العاصمة ".
أما بعد الاستقلال فلم يتول وظيفا محدّدا حسب مصادرنا، فبعضهم ذكر أنه ممن سُجّلوا في وزارة التربية باعتبارهم مدرسين بالتعليم الثانوي لكنه لم يدرس به .
نخلص إلى أن باعزيز عمر تمسك في ميدان الإصلاح و التزم بما يحسنه أي : التعليم و الكتابة الصحفية فبرهن على جودة أدائه فيهما، وطول باعه في ميدان المقالة الصحفية الإصلاحية تحديدا، كونها المجال الأرحب الذي وسع إنتاجه الثقافي و الفكري في معظمه .
تحلى بخصال حميدة تصوره شخصية رائعة إيجابية؛ أجمع واصفوه على أنه طيب جدي في عمله صادق في القول و العمل مرح لا يؤذي أحدا. اشتهر بالشجاعة يقول كلمته و لو على رقبته سيف، متفتح لطيف ظريف حسن الاستقبال محسن مرهف الحس إنسان اجتماعي . فهو رجل لا يُكره ـــ كما وصفه لنا الشيخ محمد الصالح الصديق في حوار معه ـ لحرصه على ربح العلاقات، كان كالطفل الصغير في طهارته و نظافته صاحب سلوك حضاري . محافظ على وقته حلو العبارة لذيذ المعاشرة يدافع عن المظلومين وينصر الحق . وهي صفات ترقى بصاحبها إلى مصاف الشخصيات الاجتماعية النموذجية.
فلقد تميز من هذه الناحية بقوة حاسة النقد والتمييز بين الجيد والرديء وحضور البديهة، يستثمر مشاهداته في الحياة اليومية للمجتمع فيما يكتب.كما تفسر بعض هذه الأوصاف تركيزه على نقدالأوضاع العامة و الخاصة الاجتماعية التي كان للاستعمار دور كبير في صناعتها، و ظل هذا الحس متيقضا فيه إلى ما بعد الثورة و في عهد الاستقلال، فكان يبدى آراءه مع المثقفين و ينقد الواقع الاجتماعي و السياسي للمجتمع فيما يكتب.
وًفَّرَ لرسالته الإصلاحية ما أمكنه مما تحتاجه من مدد ثقافي، فضلا عمّا يرجع منها لتكوينه الأصلي فكانت قراءاته و مطالعاته متنوعة؛كان يحب قراءة الكتب الاجتماعية و الأدبية و السياسية و التاريخية فتنوعت معارفه التي كانت تسعفه بالحديث في المجالات المختلفة حديث عليم بصير
تجلت عصاميته أيضا في اكتساب اللغة الفرنسية يُناقش بها المثقفين الفرنسيين، و يترجم منها للعربية بسهولة، فقد ترجم – مثلا - مقدمة الشيخ الدكتور محمد عبد الله دراز لكتاب الظاهرة القرآنية لمالك بن نبي . وكان للثقافة العربية السائدة أثر بالغ،.
كماتأثربالجوانب المدنية في الحضارة الغربية؛ دون استلاب لها يميز بين إيجابياتها وسلبياتها، وبين الغرب المتمدن حين يحكم شعوبه، والغرب المتوحش في حكم الشعوب التي استعمرها .
ربما كان الشيخ باعزيز يرى حسبه أن دأب على استجماع ثقافة ثرية متنوعة، تفاعلت مع تكوينه الشرعي، كي يتصدى لما يعالج من مشكلات وقضايا في مقالاته الصحفية مؤديا واجبا شرعيا في الدعوة للإصلاح الديني والاجتماعي، ومناجزة الاستعمار في الميدان الثقافي، ونعتقد أنه قد أشرف على الغاية من هذه الناحية .
*ضغوط الاستعمار عليه والتربص به :
وأوذي كثيرا من طرف السلطات الاستعمارية البغيضة الغامشة، وخصوصا على أيدي جيرانه المتطرفين الحاقدين عليه في منظمة الجيش السري (O.A.S) الذين كانوا يتربصون به، ويراقبون تحركاته قبيل الاستقلال مما اضطره إلى هجر سكناه بينهم فرارا من أذاهم . وبالرغم من ذلك فلم يكد ينجو إلآ بلطف الله تعالى من محاولة اغتياله مرة عندما جاء يتفقد داره التي قنبلوها عن بعد إثر تفقده لها، وخروجه منها بعد دقائق معدودات، وهم يظنون أنه من جملة ما تحطم من أسوارها وأثاثها، وأنه تحت الردم بين الأطلال، ولولا عناية الله به لتحقق مكرهم .
توفي يوم 06 ماي 1977 وصلي عليه وأبنه بكلمة قصيرة، ومؤثرة أشد التأثير زميله الشيخ أحمد سحنون رحم الله الجميع .
*آثـاره:
مقالاته في الشهاب والبصائر التي برزت قدراته فيها على تشخيص المعضلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية، تفصيلا وتمحيصا، وتحديدا للأسباب وتقديم حلول أحيانا، وعليه فتفكيره الواقعي في مرحلة البصائر - في معضمها - صار أكثر نضجا ووضوحا، وتمثيلا لمستواه الذي رفعته إليه ثقافته العصامية، والتجهّز بالعُدَة اللازمة لرجل ومفكر الإصلاح .
أما بعد الاستقلال فكانت حصيلته فيها مقالات قليلة جدا في مجلة المعرفة ولمحات التي كانت تصدر بالاشتراك بين وزارة التربية واليونيسكو ، اتجه إلى تأليف كتب منها :
1 دروس في الأخلاق والتربية الوطنية : 4 أجزاء لتلاميذ المدارس الابتدائية والمتوسطة والأولى والثانية من التعليم الثانوي . وهو مطبوع .
2 دروس في الفقه للمدارس الابتدائية ( مخطوط ) .
3 ذكرياتي عن الشيخين : ابن باديس والابراهيمي (مخطوط) .
4 رحلتي إلى البقاع المقدسة (مخطوط)
5 الجزائر الثائرة (مسرحية تاريخية ) –نشرت عام 2003 .
نستنتج أن شخصية باعزيز بن عمر وفكره كانا نتاج تفاعل الأحداث والأفكار السياسية والاجتماعية والثقافية التي ميزت عصرهذ؛ إذ استنفرت طاقاته ومعارفه لمواجهتها ومناجزتها ومحاورتها .
وكان لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي أسلم لها قياد شخصيته أن فصاغت مقولاتها وتوجيهاتها ومبادؤهاتلك الشخصية، فتخّرج في دائرتها مثالا للجيل الثاني من زعماء الجمعية وقادتها الفكريين جنديا من جنود الإصلاح، في ميدان الفكر والقلم، يترجم فكرتها فيما عالج من مشكلات وقضايا، أو أبدع من نتائج ثقافي وفكري .
نـــــــــــــــــــــقـــــــــــــــــــتـــــــــــــــــرح
1/ التخطيط لمؤتمر وطني حول الشيخ باعزيز، تاريخه وفكره .
2/ أقترح تنظيمه في بلدية { الأبيار} ربما بالتنسيق مع المركز الوطني لدراسات الحركة الوطنية و ثورة أول نوفمبر التي شهدت محاولة إغتياله، بِقَنْبَلَتِ مسكنه وهدمه .
3/ التنسيق مع أسرته الكريمة لإحياء فكرة مشروع { أعماله الكاملة} ، وتولى الجهات الوطنية المهتمة بطبع الأعمال الفكرية والثقافية وتراث المقاومة الثقافية طبعه. .
4/ إطلاق اسمه على مؤسسات علمية وثقافية ودينية .
والله من وراء القصد