276
0
في الذكرى الـ 71لاندلاع للثورة التحريرية المباركة... تنظيم دقيق وسرية بعثرت أوراق المستدمر…
.jpg)
بقلم مسعود قادري
تتمة لحديث سابق عن الثورة التحريرية المباركة وخصوصياتها التي جعلت منها ثورة وطنية عارمة وفريدة في العالم الحديث، بفضل ما اكتسبته من خبرة الثورات السابقة وطعمتها بخصوصيتها العقائدية والتاريخية، منطلقة في ذلك من رصيدها الكبير المدون في سجل الثورات الشعبية المحلية التي واجهت الفرنسيين منذ الوهلة الأولى لدخولهم التراب الجزائري الطاهر.... وقد ظهرت إستراتيجية الثورة في بيان أول الذي حدد بالتدقيق معالم الثورة في عقيدتها، دوافعها، أهدافها ووسائلها.
وعند انطلاقها وجدت في الشعب خير من يتبناها، لأنه كان ينتظر فقط الفرصة المناسبة للثورة والانتفاضة على الغريب الذي سد في وجه أبناء الأمة كل منافذ الحياة الكريمة وجعلهم أدنى درجة من عبيد العصور المنقرضة..
لقد تشبع المناضلون والمجاهدين بمختلف فئاتهم وأسلاكهم تشبعا تاما بما يفرضه الواقع الجديد من ممارسات وسلوكات في الحياة عامة وفي العلاقة المباشرة مع المحيط خاصة من أبناء الشعب لكسب ودهم وارتباطهم بالثورة من خلال القيم الراقية التي يتمتع بها المجاهدون فيجد فيها المواطنون متنفسا وأملا في القضاء على المغتصبين.
في البداية ركز المجاهدون في مسارهم العام ومن خلال تعليمات القيادة على الجدية ،الانضباط والصرامة في التعامل مع قضايا الثورة لأن الأمور لا تتحمل التهاون والتماطل والتساهل باعتبارها تتعلق بحياة المجموعة المجاهدة أولا والشعب عامة.. ومن أبرز ما عرف عن الثورة التحريرية دقة تنظيمها على المستوى العسكري والمدني وصرامتها في تطبيق القوانين على المخالفين مهما كانت أوضاعهم ومراتبهم في السلم التصاعدي، لاسيما لما يكون السلوك أو العمل مخلا بالنظام ومضرا بالثورة والشعب والمجاهدين... وأول ما نشر في صفوف المنتسبين إليها والشعب عامة، الالتزام بالسرية التامة وعدم الخوض في قضايا الجهاد والمجاهدين والعمل النضالي في أي موقع ومع أي كان إلا عند الـتأكد التام من تأمين المكان ..؟.
فقد كانت السرية من خلال التنظيم العمودي للتواصل بين المناضلين أسلوبا ومنهجا ساهم في نجاح الثورة وحماية أفرادها ومجموعاتها. خاصة أن النظام اعتمد مبدأ : السرإذا تجاوز الاثنين شاع وانتشر ." فكان كل منتسب للثورة ـ مجاهد ، مسبل ،أو مناضل عادي ـ لا يعرف أكثر من عنصرين يتعامل معهما تفاديا للضرر عند القبض على أي واحد واستنطاقه . إذ كان يطلب من المقبوض عليه الصبر والثبات في الاستنطاق والتعذيب مدة24ساعة لتتخذ قيادة المنطقة احتياطها لمواجهة ما يتخذه العدو من أسلوب انتقامي كعادته وليتمكن المتواصلين مع السجين من الفرار وتغيير المواقع..
هذا السلوك بلغ بصرامة حتى إلى العائلات والأسر لتتجنب الحديث عن المجاهدين وإنجازاتهم واتصالاتهم وانتصاراتهم ، أمام الغرباء والأطفال خوفا من انتشار الخبر والتعرض للبحث والتحقيق من قبل مخابرات العدو ..
إلى جانب السرية والانضباط، اعتمدت الثورة على أمانة الرجال والنساء المنتسبين إليها مع بقية الشعب الذي وجد نفسه في هذه الأخلاق التي هي جزء منه ومن عقيدته وتراثه.. فقد كان الفدائي أو المسبل ينقل أكياسا من المال يقطع بها مسافات طويلة في الجبال والفيافي لا تدفع نفسه لمعرفة ما بالكيس " الشكارة " ولا تأتيه وساوس النفس الأمارة بالسوء ولا الأفكار الشيطانية، لا من بين يديه ولا من خلفه حتى يوصلها لأصحابه ، فرقيبهم الوحيد هو الله ثم ضميرهم وصدقهم مع الثورة النابع من إيمانهم العميق بضرورة التزام النظام والانضباط لطرد الغرباء من الوطن... هذا ما افتقدناه في عصرنا حيث ضاعت الأمانة عند المجتمع عامة ـ إلا من رحم الله ـ وأصبح المسؤول أول من يستغل وظيفته ويحول الملايير لحسابه وأسرته ثم يقول هذه هدايا خاصة من أصدقائي .." طبعا اصدقاؤه الذين سبق له أن فتح لهم خزائم أموال الشعب والدولة لينهلوا ويستغنوا بها على رقاب الفقراء والمساكين ثم يتكرموا عليه بفضلات يعتبرها كرما منهم ليس سحتا أو رشوة ،سبحان الله الذي خلق وفرق..؟ !..
هذا هو الفرق بين رجال الأمس في الثورة المباركة الذي كانوا ينقلون الأمانات وجيوبهم فارغة وبطونهم خاوية ولا يجدون في أنفسهم حاجة للاطلاع على ما بالكيس المحمول ولا قيمته انطلاقا من إيمانهم الراسخ بأن الحفاظ على الأمانة وأدائها لأهلها، واحد من أسباب التوفيق والنصر من الله العزيز الحكيم.
وهذا هو الفرق بين يولى منصبا يقدر قيمته وينتظر ثوابه من الله أولا، وبين من يعين في وظيفة لا يرعاها حق رعايتها، بل تستهويه مميزاتها المادية فينسى نفسه ومنصبه وما ينتظره من عقاب في الدنيا والآخرة ...؟
الجانب السلوكي الآخر المتعلق بالانضباط واحترام تعليمات الثورة، هو الصرامة في تطبيق القرارات الخاصة بمحاربة الممارسات الغريبة عن المجتمع كالتعامل مع العدو ونشر أخبار الثورة في المقاهي والشوارع في الأوقات غير المناسبة وتجنب الكذب والقسم والتخلق بأخلاق النصارى في تناول الكحول والتدخين والشمة ـ في هذه القضايا كانت التعليمات صارمة وساهمت بفعالية في إقلاع الكثير من المواطنين عن التدخين والشمة وهجرة الكحول خاصة بعد أن قطعت شوارب وأنوف بعض المتلاعبين فكانوا مثلا وعبرة لكل من يستهين بقوانين الثورة وتعليماتها..
أما الجانب المهم الذي واجهت به الثورة الحرب النفسية التي شنتها الدوائر الاستدمارية ضد الثورة والثوار، هي توعية لشعب بأهداف ومخططات العدو الرامية إلى فصل المجاهدين عن قواعدهم الخلفية بكل السبل والوسائل، باعتماد حرب نفسية مضادة وفعالة ضد سلوك العدو الذي ينشر قصصا وأخبارا كاذبة عن المجاهدين وعلاقاتهم بالشعب خاصة .
وقد واجهت الجبهة بفضل مسؤوليها السياسيين الحملات المغرضة بتنظيم تجمعات شعبية ليلية تنير فيها العقول وتبصر المواطنين بما تدبره فرنسا من مكائد للبلاد والعباد .. ساهمت الحرب النفسية المضادة بفضل نشر قصص عن المجاهدين هي اقرب إلى الخيال منها إلى الواقع لكنها متداولة بشكل واسع وبصورة لا تدعو للغرابة أو الريب فيها.. من بين القصص التي كانت متداولة خاصة في التجمعات النسوية وبين الشباب وفي سرية تامة أن فرق المجاهدين تتحول عند اللقاء بدوريات عسكرية من العدو، بقدرة الله إلى قطيع من الغنم فيمر عليها عساكر العدو دون انتباه ...؟ !.
ومثلها قصة الشيخ الذي أقلقته طائرة عسكرية فأشار إليها ببرنسه فسقطت غير بعيد عنه ..؟!.. وهناك قصص أخرى انتشرت في أوساط الشعب لتزيده ارتباطه بثورته المؤيدة من الله تبارك وتعالى الذي يوفر لمجاهدي الثورة ورجالها عامة الحفظ والحماية ويخرجهم من أقوى المعارك منتصرين على ضباط محنكين في الحروب، وفاشلين في إدارة معارك يقودها شباب لاعلاقة لهم بالتخطيط والتكتيك العسكري لكنهم موجهين من الله بإيمانهم بعدالة قضيتهم فقط.. هذه الحرب النفسية ضد العدو زادها وصول صوت الثورة إلى ربوع الوطن تحسيسا وتوعية ليزداد الشعب التفافا والتحاما بثورته حتى تحقق النصر المبين سنة 1962 بفضل الله .
والحمد لله ورحم الله الشهداء وأبعد عنا شر فرنسا ومن والاها ومن يدعم ثقافتها ولغتها واقتصادها على حساب شعب مازالت له حقوق كثيرة عندها لم يستردها لوجود من يتستر عليها هنا وهناك..

