396

0

فستق عين التوتة… حرفة شاقة على خط الذاكرة والجفاف

على تخوم الأوراس حيث تصارع الأرض عطش السنين وتكابد العائلات مشقة البقاء، تواصل حياة وزوجها مسيرتهما اليومية في فلاحة تشبه معركة لا تنتهي، فالفستق الحلبي الذي تحمله أغصان أشجار متعبة ليس مجرد محصول موسمي يباع و يشترى بل هو قصة عن ذاكرة مشروع زراعي بدأ واعدًا في سبعينيات القرن الماضي ثم تراجع تحت وطأة الإهمال والجفاف.

 

استطلاع: ضياء الدين سعداوي

 

منذ الصباح الباكر ، تحمل حياة أكياسا بلاستيكية وترافق زوجها نحو البستان ، خطواتهما المتعبة فوق المسالك الترابية الوعرة تختصر في جملة واحدة: "هذا رزقنا، ما عندنا غيره." لكن المفارقة أن المحصول الذي يحلمان بحصاده في موعد نضجه، يضطران إلى جنيه باكرًا خشية أن تمتد إليه أيادي لصوص البساتين الذين يترصدون ثماره كما يترصد الجفاف آخر قطرات ماء.

 

سرقة قبل النضج

 

الفستق الحلبي من أغلى الثمار في السوق الجزائرية، حيث يصل سعر الكيلوغرام منه إلى مبالغ لا يقوى عليها المستهلك العادي ، غير أن حياة وزوجها، مثل غيرهما من الفلاحين، لا ينالان سوى فتات هذا الغلاء.

تقول حياة وهي تضع الحبات في كيس بلاستيكي على ظهرها: "نخاف نخليه حتى يطيب كامل ، لكن نعرف بلي يسرقوه قبلنا. نفضل نتعب ونحمله للدار على رجليا خير ما يضيع تعبنا كامل."

وبينما تروي قصتها، يضيف زوجها وهو يقشر الحبات بيديه الخشنتين: "الخدمة شاقة بزاف. مرات نخمم نبطل، بصح ما نلقاش بديل، ما عندنا لا إمكانيات، لا دعم، غير ربي اللي يعاون."

هكذا تتحول العملية من جني مبكر إلى سلسلة من الأعمال اليدوية داخل البيت: تنظيف الثمار، تقشيرها ثم تعبئتها في أكياس صغيرة لا تتجاوز نصف كيلوغرام أو كيلوغرام واحد، لتباع للزبائن مباشرة، إنها فلاحة معيشية بإمتياز، حيث يتقاطع جهد العائلة مع غياب تام لشبكات التسويق أو الدعم الفلاحي المنظم.

 

17 عائلة على أرض واحدة

ليست حياة وزوجها وحدهما في هذه المواجهة اليومية، فهما جزء من 17 عائلة تشترك في استغلال نحو 800 شجرة فستق حلبي في ما يعرف بمزرعة "الحاج دريس 1 و2" ببلدية عين التوتة.

هذه المزرعة ليست مجرد أرض فلاحية عادية، بل هي بقايا مشروع زراعي وطني ضخم يعود إلى سبعينيات القرن الماضي، زمن الرئيس الراحل هواري بومدين في تلك الحقبة أُطلقت الثورة الزراعية كرهان استراتيجي لبناء الأمن الغذائي، وغرست أولى أشجار الفستق هنا في عين التوتة، ولا تزال الشجرة التي زرعها بومدين بنفسه شاهدة على تلك اللحظة التاريخية.

لكن بمرور الزمن، تحول المشروع الطموح إلى مجرد ذكرى، فالأشجار التي كانت تعانق السماء يوماً، باتت تكابد الجفاف وقلة العناية و العائلات التي كان يفترض أن تتحول إلى نموذج في الإنتاج الزراعي، صارت تعيش على فتات محصول محدود لا يكفي لتغطية تكاليف الحياة اليومية.

 

أزمة عطش عمرها عقدان

 

المشكلة الأكبر التي تواجه حياة وزوجها وبقية الفلاحين، ليست فقط في السرقة أو ضعف التسويق، بل في العطش الذي ينهش جذور الأشجار.

قبل عشرين سنة كانت سبعة آبار خاصة بالمزرعة توفر المياه لري البساتين ، لكن اليوم جفت جميعها، ومنذ ذلك الحين تعيش أشجار الفستق على رحمة السماء، تصارع سنوات الجفاف التي تزداد قسوة مع تغير المناخ.

يقول عمي رابح أكبر الفلاحين سنا وهو يشير إلى بئر جافة: "من عشرين سنة ما شربناش من هذي الآبار ، الأشجار راهي تموت قدام عينينا والدولة ما درات والو."

تبدو الأشجار الذابلة شاهدة على معركة غير متكافئة، حيث يكابد الفلاحون بين قلة المياه وغياب حلول بديلة، لا قنوات ري، ولا شبكات دعم حديثة، ولا حتى آبار جديدة أو حواجز مائية على مستوى الوادي المجاور ، تعيد للمزرعة حياتها 

 

غياب الكهرباء والمسالك

 

لا تقف الصعوبات عند حدود الماء، فالمزرعة تعاني كذلك من غياب الكهرباء ما يجعل أي محاولة للتحويل أو التخزين مستحيلة ، يضطر الفلاحون إلى القيام بكل المراحل يدويًا داخل بيوتهم: من التقشير إلى التحميص.

إضافة إلى ذلك فإن غياب المسالك الفلاحية يزيد الطين بلة، الوصول إلى الأشجار عملية شاقة خصوصًا في مواسم الجني، يحمل الرجال والنساء الأكياس الثقيلة على ظهورهم لمسافات طويلة، في مشهد يعيد إلى الأذهان صور الفلاحة التقليدية في قرون سابقة.

 

لصوص البساتي التهديد اليومي

 

كما لو أن الجفاف والعزلة لا تكفيان، يواجه الفلاحون خطرًا آخر يتمثل في "لصوص البساتين"، هؤلاء ينتظرون موسم نضج الفستق ليتسللوا ليلًا ويقطفوا الثمار قبل أصحابها.

تقول حياة بغصة: "الواحد يبات خايف، تخيل تسهر وتخدم عام كامل، وفي الأخير يجي واحد يسرق تعبك في ليلة."

هذا الواقع دفع العائلات إلى إعتماد إستراتيجية "الحصاد المبكر"، أي قطف الثمار قبل أوانها، ولو كان ذلك على حساب الجودة والسعر ، إنها مفارقة قاسية، الخوف من السرقة يحول الفستق إلى غلة ناقصة، لكنها على الأقل تبقى بيد أصحابها.

 

الفستق الحلبي الثروة الضائعة

في الأسواق الجزائرية يباع الفستق الحلبي بأسعار مرتفعة، يستعمل في صناعة الحلويات التقليدية والحديثة وفي المثلجات والمطابخ الفاخرة أو حتى في جلسات و سهرات الشاي ، غير أن المفارقة المؤلمة أن الفلاح الذي ينتج هذه الثمار لا يجني سوى القليل، بينما يشتري المستهلك الكيلوغرام الواحد بمبالغ مرتفعة، يضطر الفلاح لبيعه بكميات صغيرة وبأسعار متواضعة لزبائن يعرفهم شخصيًا ،لا وجود لوسطاء موثوقين ولا لشبكات توزيع منظمة ولا لمؤسسات دعم تضمن له عائدًا عادلًا.

 

الإرث البومديني على المحك

 

مزرعة الحاج دريس ليست مجرد فضاء زراعي ، إنها جزء من ذاكرة الثورة الزراعية ومن مشروع وطني أراده بومدين نموذجًا للتنمية الفلاحية،

لكن بعد مرور نصف قرن تحولت هذه الأرض إلى مرآة تعكس أزمات أعمق، هشاشة السياسات الزراعية، غياب الإستثمار المستدام وتراجع الإهتمام بالمحاصيل الإستراتيجية.

في وسط المزرعة لا تزال الشجرة التي زرعها بومدين بنفسه واقفة ، جذعها السميك يروي قصة طموح كبير لكن أوراقها المتعبة تذكر بأن الطموحات وحدها لا تكفي للبقاء.

 

بين الماضي والمستقبل

بالنسبة لحياة وزوجها ليست هذه الإعتبارات السياسية والتاريخية ما يشغل بالهما، فهما يفكران فقط في كيفية تأمين لقمة العيش ودفع مصاريف أبنائهما ومواجهة الغلاء المتزايد. لكن قصتهما تكشف أبعادًا أخرى ، كيف يتحول مشروع وطني ضخم إلى مجرد معيشة يومية شاقة وكيف يمكن للثروة الزراعية أن تضيع بين أيدي الفلاحين دون أن تتحول إلى قيمة مضافة حقيقية.

 

تحديات مشتركة

قصة الفستق في عين التوتة ليست استثناءً في الجزائر ، فالفلاحون في مناطق كثيرة يعانون التحديات ذاتها: الجفاف، غياب البنى التحتية، ضعف التسويق وهشاشة الدعم ، غير أن ما يميز عين التوتة هو رمزيتها كونها تحمل بصمة مشروع وطني تاريخي.

الخبراء الزراعيون يرون أن الفستق الحلبي يمكن أن يكون محصولًا إستراتيجيًا إذا ما وفرت له شروط الري والتسويق. لكن على الأرض يبقى الفلاح وحيدًا في مواجهة الطبيعة واللصوص والسوق.

 

معركة يومية من أجل البقاء

عند نهاية اليوم تعود حياة وزوجها إلى منزلهما وهما يحملان الأكياس الثقيلة على ظهريهما، في الداخل تبدأ جولة جديدة من العمل: التقشير، التنظيف و التحميص.

الأطفال يساعدون أحيانًا والجيران يتبادلون الخبرات، لكن في النهاية يبقى الجهد فرديًا منزليًا.

تقول حياة بابتسامة مرهقة: "رغم التعب، نفرح كي نشوف الناس يشكروا الفستق تاعنا ، بصح نتمنى يشوفونا، أحنا اللي نخدموه بيدينا."

في عين التوتة تجسد أشجار الفستق الحلبي معادلة قاسية، بين ذاكرة الماضي وأزمات الحاضر، بين الوعود الكبيرة والواقع الصعب.

بالنسبة لحياة وزوجها تبقى هذه الأشجار مصدر رزق متواضع ، لكنه رزقهم الوحيد، أما بالنسبة للمجتمع الجزائري، فهي دعوة لإعادة التفكير في السياسات الزراعية واستعادة ما تبقى من ثمار مشروعات لم تكتمل.

 ليست القصة عن فستق يباع ويشترى فقط بل عن أمل يجنى قبل أوانه ، حتى لا يسرقه اللصوص أو يذروه عطش الأرض.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services