52
0
فرحة المولد تخلّف عبثا في شوارعنا

أحيت الأسر الجزائرية، يوم الجمعة، ذكرى المولد النبوي الشريف في أجواء غلب عليها الفرح والابتهاج، انعكست عبر عادات وتقاليد متوارثة، فقد شهدت المنازل تحضير الأطباق التقليدية وإشعال الشموع والعنبر، فيما عمت الأجواء الروحية المساجد احتفاء بسيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وخصاله وتربيته.
نسرين بوزيان
لكن في المقابل، بقيت الشوارع والبيئة تعاني من آثار الاستخدام المكثف للمفرقعات، التي تحوّلت إلى طقس مواز للاحتفال، رغم التحذيرات المتكررة من مخاطرها الصحية والبيئية.
أحدث صيحات الزينة
تميزت سهرة المولد النبوي هذا العام بعادات وتقاليد متنوعة اختلفت في مظاهرها عمّا اعتادته الأسر الجزائرية سابقا، خاصة مع انتشار ديكورات عصرية أعدت خصيصا لهذه المناسبة.
ولم تعد السيدات تكتفي بالتحضير فقط، بل أصبحت تولي اهتماما كبيرا بالجانب الجمالي، بحثا عن أحدث صيحات الزينة، فانتشرت ديكورات تحمل رموزا دينية مثل الأهلة المزخرفة باللونين الذهبي والأبيض، ومجسمات للكعبة المشرفة إلى جانب ملصقات حائطية تحمل عبارات مثل مولد نبوي شريف ومحمد رسول الله.
كما تزينت الموائد بأطباق الحلويات، خاصة الطمينة، إلى جانب المكسرات وكؤوس الشاي، تعرض بشكل فني يعكس روح المناسبة، وانتشر تخصيص شموع تحمل أسماء وصور الأطفال، مزينة بفوانيس وأهلة ملونة حسب الطلب.
عشاء المولود
أكدت ريام أن ليلة المولد تحظى بقدسية كبيرة لدى الجزائريين، قد تضاهي قدسية ليلة القدر، حيث يتبركون بها ويختار كثيرون ختان أبنائهم في هذه الليلة، كما ترتبط بها عادة "المهيبة" التي تعبر عن تقدير العريس وعائلته لعائلة العروس، وتعكس أهمية المناسبة في توثيق الروابط الأسرية.
اناشيد المولد
لدى الأطفال أساليبهم الخاصة في التعبير عن الفرح، حيث يحرصون على شراء المفرقعات والألعاب النارية، رغم المخاطر المرتبطة بها، والتي تشكل جزءًا لا يتجزأ من طقوسهم الاحتفالية.
لا تخلو الاحتفالات من الأناشيد الدينية الموروثة التي تنشد في البيوت والشوارع، تمجيدا لمولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أشهرها :"هذا مولودنا يفرح بينا في مكة والمدينة… صلوا عليه…"، هذه الأناشيد تنتقل من جيل إلى آخر لما تحمله من رمزية دينية وبهجة روحية.
غرداية والاحتفال على طريقتها
في ولاية غرداية، تكتسب الاحتفالات طابعا خاصا يمزج بين العادات القديمة والروحانية، يقول رئيس جمعية "تغاوصة للمنسوجات والحرف التقليدية"، حسين نجار، في حديثه لـ " بركة نيوز " أن الاحتفال يبدأ منذ عصر يوم المولد، حيث يرتدي الفتيان والفتيات اللباس الأبيض التقليدي، رمز النقاء، ويتجولون في الأزقة مرددين الأناشيد الدينية قبل التوجه إلى المساجد لحضور مجالس المدائح.
ومن بين الأطباق المميزة هناك "أوشو تيني"، نوع من الكسكسي يحضر بالتمر، يقدم مع الجبن المحلي والفول السوداني، إلى جانب صينية الشاي التقليدية، معبرا عن الفرح والكرم وروح صلة الرحم التي تميز المجتمع المحلي.
كما تتزين البيوت بالفوانيس اليدوية التي تضفي جوا من الاحتفال، ويتبادل الجميع الحلويات والتمور لتعزيز الروابط الاجتماعية.
جائزة الجزائر في السيرة النبوية الخالدة
إلى جانب الاحتفالات المنزلية، تحولت المساجد إلى منارات للعلم والذكر، حيث نُظمت دروس ومحاضرات حول سيرة النبي، ومجالس مدح وإنشاد، ومسابقات دينية في تلاوة القرآن الكريم والأسئلة الثقافية، وتم تكريم الفائزين بجوائز تشجيعية.
وفي جامع الجزائر، أقيم حفل ديني بهيج أشرف عليه وزير الشؤون الدينية بحضور شيوخ الزوايا والمصلين، تم فيه تكريم الفائزين في المسابقات الدولية الخاصة بالسيرة النبوية.
لأول مرة، أعلن رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون إطلاق "جائزة الجزائر في السيرة النبوية الخالدة"، وهي مسابقة دولية تهدف إلى تشجيع البحث الأكاديمي في السيرة النبوية، ودعم الإبداع الفكري والديني، وترسيخ القيم النبوية في الفكر والسلوك.
تعد هذه الخطوة ذات بعد استراتيجي، تضع الجزائر في قلب المبادرات الفكرية والدينية الإيجابية على المستوى العالمي.
أسعار مرتفعة تثقل كاهل المواطنين
رغم الفرح والطقوس الدينية، خيّم الغلاء على أجواء الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، ليضيف عبئا إضافيا على كاهل الأسر الجزائرية، فقد ارتفعت أسعار الدجاج إلى ما بين 580 و600 دينار للكيلوغرام، فيما بلغ سعر الكوسة ما بين 250 و300 دينار.
هذا الارتفاع المفاجئ في الأسعار أثار استياء المواطنين الذين وجدوا أنفسهم بين رغبة في الحفاظ على التقاليد وتجسيد مظاهر الفرح، وبين واقع اقتصادي غير مرغوب فيه.
ومع ذلك، اصرت العديد من العائلات على خلق أجواء احتفالية رغم الظروف، معتبرة أن إحياء ذكرى المولد النبوي لا يقاس البذخ، بل بالنية الطيبة، وصلة الرحم، وتعزيز القيم النبوية في البيوت، ولو بأبسط الإمكانيات.
ما بعد المناسبة
مع بزوغ فجر اليوم التالي، تتكدس مخلفات المفرقعات في الشوارع والأحياء، مثيرة انتقادات بيئية وصحية متزايدة.
فالمخلفات لا تقتصر على ما يرى بالعين المجردة، إذ يحذر الخبراء من آثار خفية تتجاوز المظهر، فالألعاب النارية تطلق كميات ضخمة من الدخان والملوّثات التي تترك آثارا سلبية واضحة على جودة الهواء، إلى جانب ملوثات دقيقة لا تُرى بالعين المجردة.
وقد وجدت الأبحاث أن 80% من الجسيمات الدقيقة المنبعثة من الألعاب النارية قادرة على اختراق الجهاز التنفسي والوصول إلى الرئتين.
وترتبط هذه الجسيمات بعدد من المشكلات الصحية الخطيرة، من بينها: الربو، أمراض القلب، انخفاض أوزان المواليد، وغيرها.
كما تنبعث عن الألعاب النارية كميات كبيرة من ملوثات الهواء، من بينها ثاني أكسيد الكبريت، أول وثاني أكسيد الكربون، إضافة إلى معادن ثقيلة تُستخدم لإنتاج الألوان الزاهية، وهي مواد سامة بطبيعتها.
وقد لوحظ انتشار أعراض مثل السعال المزمن، البلغم، وضيق التنفس بين الأفراد المعرّضين لمستويات مرتفعة من الهواء الملوث، مما يزيد من خطر إصابتهم بـ الربو، سرطان الرئة، وأمراض تنفسية أخرى.
ولا تقتصر الأضرار على الإنسان فحسب، فمن المعروف أن الكلاب تصاب بالذعر بسبب أصوات الألعاب النارية، كما أثبتت دراسات أن لها آثارًا مدمّرة على الطيور أيضًا، ما يؤدي إلى اضطراب في نظمها البيئية.
ورغم ما تحمله هذه المناسبة من فرح وابتهاج، يبقى من الضروري أن نحتفل بوعي ومسؤولية، فلتكن أفراحنا متوازنة، لا تترك خلفها مخلفات تضر بالإنسان، ولا تسيء إلى الطبيعة التي أوصانا رسولنا الكريم بصونها وحمايتها.