243

0

فلسطين تنتصر

بقلم: الحاج بن معمر

لم يكن الحادي والعشرون من سبتمبر يومًا عاديًا في مسار القضية الفلسطينية، فقد جاء الإعلان الرسمي من لندن وأوتاوا وكانبيرا، ولحقته لشبونة بعد ساعات، ليؤكد أن شيئًا ما تغيّر في خريطة المواقف الدولية تجاه فلسطين، وأن المعركة الطويلة التي خاضها الشعب الفلسطيني على مدى أكثر من سبعة عقود بدأت تؤتي ثمارها ولو على نحو رمزي ودبلوماسي، لكنه لا يخلو من معانٍ عميقة، فاعتراف بريطانيا التي كانت أصل المأساة منذ وعد بلفور، واعتراف كندا وأستراليا اللتين ظلّتا ملحقًا بالسياسة الغربية المنحازة لإسرائيل، واعتراف البرتغال التي انضمت إلى القافلة في اللحظة ذاتها، كلها خطوات ليست مجرد بيانات بروتوكولية بل مؤشر على أن التوازن الدولي يتحرك ببطء ولكن بثبات نحو الاعتراف بحق الفلسطينيين في دولتهم المستقلة، وهو ما كانت إسرائيل تحاول بكل الوسائل طمسه ودفنه تحت الركام والدبابات والجدران العازلة والمجازر اليومية، لكن الدم الفلسطيني الذي يصر على الحياة كان أقوى من كل آلة البطش، وأشد صلابة من كل التحالفات السياسية التي حاولت إدامة الاحتلال وتجميل صورته، فها هو العالم يعترف، ولو جزئيًا، ولو متأخرًا، بوجود دولة اسمها فلسطين، لها حق الوجود وحق العلم وحق السيادة، وإن لم يتحقق بعد على الأرض

 

والمفارقة الكبرى أن الاعتراف جاء في أسوأ الظروف الممكنة، في لحظة يتعرض فيها قطاع غزة إلى حرب إبادة حقيقية تتجاوز كل المعايير، حيث يموت الأطفال جوعًا وتُدفن العائلات تحت الأنقاض وتُحاصر المدينة حتى آخر شريان حياة، وحيث تواصل إسرائيل سياسة التطهير العرقي التي حذر منها جدعون ليفي في مقاله الشهير حين قال ساخرًا ومأساويًا: أي دولة فلسطينية يتحدثون عنها وأين ستكون؟ هل في نفق يحفر بين يتسهار وأيتامار؟ هل هناك قوة ستقتلع مئات الآلاف من المستوطنين؟ ومن سيكون ذلك الجيش الذي يقرر أن يضع حدًا للجنون الاستيطاني؟ بالنسبة له ولغيره من الأصوات الإسرائيلية الشجاعة، الاعتراف الدولي بفلسطين ليس إلا عاصفة في فنجان إذا لم يترافق مع إجراءات عملية لوقف العدوان وفرض العقوبات على إسرائيل وإجبارها على الانسحاب، وإلا فإنه يبقى مجرد ورقة إضافية في الأرشيف الأممي، لكن في الوقت ذاته لا يمكن إنكار رمزية أن دولاً غربية كبرى، لطالما استخدمت الفيتو في مجلس الأمن أو التزمت الصمت في المحافل الدولية، قررت أن تكسر حاجز التردد وتعترف، لتقول علنًا إنها ترى الفلسطينيين شعبًا يستحق الدولة، وهذا بحد ذاته يفتح كوة صغيرة في جدار العزلة والإنكار

 

الفلسطينيون استقبلوا الخطوة بمزيج من الترحيب والحذر، فقد عبّر الرئيس محمود عباس عن تقديره العميق لهذه القرارات واعتبرها انتصارًا معنويًا للشعب الفلسطيني وصموده، في حين ذهبت حركات المقاومة أبعد من ذلك فاعتبرت أن الاعتراف لا يكفي، وأن المطلوب من هذه الدول أن تترجم مواقفها إلى خطوات عملية لوقف تزويد إسرائيل بالسلاح ودعمها بالغطاء السياسي، وأن تكف عن ازدواجية المعايير التي تجعل القوانين الدولية مجرد أدوات انتقائية، فكيف يمكن أن تعترف بدولة فلسطين ثم تستمر في علاقات طبيعية مع من يحتلها ويقتل شعبها؟ وكيف يمكن أن ترفع الصوت في وجه انتهاكات روسيا أو غيرها وتغض الطرف عن الاحتلال الأطول في التاريخ الحديث؟ الأسئلة كثيرة لكن في السياسة الدولية الرمزية تسبق أحيانًا الفعل، والاعتراف خطوة أولى قد تفتح الباب أمام مزيد من التحركات، لا سيما أن القضية الفلسطينية عادت إلى قلب النقاش الدولي بقوة بعد سنوات من التهميش

 

إسرائيل، كما كان متوقعًا، ردت بغضب واستنفار، فقد استدعت سفراء الدول الأربع ووجهت إليهم رسائل احتجاج شديدة اللهجة، واعتبر رئيس الوزراء الإسرائيلي أن هذه القرارات مكافأة للإرهاب وتشجيع على استمرار العنف، وهو خطاب معتاد يكرره الاحتلال كلما واجه انتقادًا أو ضغطًا دوليًا، لكن خلف الغضب الإسرائيلي يكمن إدراك عميق أن شيئًا يتغير في المزاج الغربي، وأن جدار الحماية السياسية الذي وفرته الولايات المتحدة وحلفاؤها بدأ يتصدع، وأن الرأي العام الغربي، من الجامعات إلى النقابات إلى الشوارع، لم يعد يحتمل مشاهد المجازر في غزة ولا صور الأطفال الجائعين ولا الأكاذيب المكررة عن “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” بينما هي تمارس حربًا مفتوحة على المدنيين، لذلك جاء الاعتراف كترجمة لضغط شعبي داخلي في هذه البلدان بقدر ما هو نتيجة لحسابات دبلوماسية، وهذا التحول هو ما يخيف إسرائيل أكثر من أي شيء آخر

 

المثير في المشهد أن بريطانيا، صاحبة الوعد المشؤوم قبل أكثر من مئة عام، هي نفسها التي تعلن اليوم اعترافها بدولة فلسطين، وكأنها تحاول أن تغسل بعضًا من خطايا الماضي، وإن كان ذلك لا يعوّض شيئًا من الآلام التي لحقت بالشعب الفلسطيني، لكنه يحمل رمزية لا يمكن تجاهلها، أما كندا وأستراليا فقد ظلتا لعقود أقرب إلى الموقف الأمريكي المطلق في انحيازه لإسرائيل، وجاء اعترافهما ليشكل مفاجأة نسبية وصدمة داخل الأوساط الإسرائيلية، في حين أن البرتغال، الدولة الأوروبية الأصغر، أرادت أن ترسل رسالة تضامن وانحياز للشرعية الدولية، لتقول إن أوروبا ليست كتلة واحدة أسيرة للرؤية الألمانية أو الفرنسية، بل إن هناك أصواتًا أخرى تريد أن تعيد الاعتبار للقانون الدولي

 

وبين الترحيب والحذر والغضب يبقى السؤال الأهم: ماذا بعد؟ هل يقود هذا الاعتراف إلى تحولات ملموسة على الأرض؟ أم أنه سيظل ورقة في الأدراج كما حدث مع أكثر من 140 دولة اعترفت بفلسطين سابقًا دون أن يتغير الواقع؟ هنا تكمن أهمية التحليل العميق الذي طرحه جدعون ليفي وغيره من الأصوات النقدية، فالحقيقة أن الدولة الفلسطينية لن تولد من رحم بيانات الاعتراف وحدها، بل من إرادة دولية تفرض على إسرائيل الانصياع، ومن مقاومة فلسطينية تواصل فرض وجودها على الأرض، ومن حراك شعبي عالمي يرفع الصوت بلا توقف، فإذا اجتمعت هذه العناصر يمكن أن يتحول الاعتراف إلى خطوة تأسيسية لا رجعة عنها، أما إذا بقيت الدول الغربية مترددة في مواجهة إسرائيل فعليًا، فإن الاحتلال سيستمر في ابتلاع الأرض وقتل الحلم

 

لكن رغم كل الشكوك، لا يمكن التقليل من قيمة اللحظة، فهي تحمل في طياتها أبعادًا سياسية وأخلاقية ورمزية هائلة، فهي أول مرة تتخذ فيها ثلاث دول غربية كبرى هذا القرار دفعة واحدة، وفي توقيت حساس يسبق اجتماعات الأمم المتحدة، وكأنها رسالة إلى العالم أن الصمت لم يعد ممكنًا، وأن الوقت قد حان لإعادة النظر في كل ما جرى تجاهله لعقود، وربما تكون هذه بداية مسار طويل يعيد القضية الفلسطينية إلى مركز النظام الدولي بدلًا من أن تظل هامشًا منسياً، وهذا ما يحتاجه الفلسطينيون في معركتهم الوجودية، أن يظل اسم فلسطين حاضرًا، أن يظل العالم يتحدث عن الدولة الموعودة حتى تتحقق على الأرض

 

وفي خضم المشهد لا يمكن إغفال البعد الإنساني، فكل اعتراف وكل تصريح وكل جلسة أممية تبدو ترفًا سياسيًا أمام صور الأطفال في غزة الذين يواجهون الموت جوعًا أو قصفًا، وأمام العائلات التي تُهجر قسرًا في الضفة الغربية، وأمام الأسرى الذين يعانون في زنازين الاحتلال، لذلك فإن القيمة الحقيقية لأي خطوة دولية تكمن في قدرتها على تخفيف المعاناة الفعلية على الأرض، وفي هذا السياق فإن الضغط على إسرائيل لوقف الحرب، وفرض عقوبات اقتصادية عليها، ودعم جهود محكمة الجنايات الدولية لمحاسبة مجرمي الحرب، هي الإجراءات التي تعطي للاعتراف معنى، وتجعل من كلمة "فلسطين" دولة حقيقية وليست مجرد شعار

 

منذ سبعين عامًا والفلسطينيون يسمعون الوعود، ويقرأون القرارات الأممية التي تبقى حبراً على ورق، لكنهم لم يفقدوا الأمل ولم يتوقفوا عن المقاومة بأشكالها كافة، واليوم وهم يسمعون اسم بلدهم يخرج من فم رئيس وزراء بريطانيا أو كندا أو أستراليا أو وزير خارجية البرتغال، فإنهم يشعرون أن دماءهم لم تذهب سدى، وأن العالم بدأ أخيرًا يستيقظ ولو ببطء، وهذه اللحظة مهما كانت متأخرة، ومهما كانت رمزية، فهي تمثل اعترافًا بوجودهم، ورفضًا لمحاولات شطبهم من التاريخ والجغرافيا، وهي إعلان بأن فلسطين ليست مجرد قضية إنسانية أو أزمة إغاثة، بل دولة لها الحق في الوجود، ولها الحق في الحياة

 

ومع أن الطريق ما زال طويلًا وشاقًا ومليئًا بالعقبات، إلا أن الاعتراف الأخير يثبت أن الكفاح المستمر لا يضيع، وأن العدالة مهما طال غيابها لا بد أن تجد من يرفعها شعارًا، وقد يكون هذا الاعتراف بداية لسلسلة أخرى من الاعترافات في أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا، وربما يقود إلى تحول نوعي في موقف الأمم المتحدة، وربما يفتح نقاشًا جديًا حول الفصل العنصري الإسرائيلي وبدائل الحل السياسي، وكل ذلك لن يتحقق بين ليلة وضحاها، لكنه ممكن ومحتمل في ظل عالم يتغير بسرعة

 

فلسطين تنتصر، لا لأنها نالت بعد الدولة فعليًا، بل لأنها أجبرت العالم على أن يتذكرها من جديد، لأنها صمدت في وجه حرب الإبادة، لأنها فرضت على عواصم القرار أن تعلن اسمها عاليًا، ولأنها أثبتت أن الدم لا يضيع، وأن الهوية لا تمحى، وأن الحق لا يموت، وها هي اليوم تكتب سطرًا جديدًا في كتاب النضال الطويل، سطرًا عنوانه: العالم يعترف، ولو متأخرًا، بفلسطين دولة قائمة رغم الاحتلال، وقائمة رغم المجازر، وقائمة رغم كل شيء.

 

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services