5514
0
ديميتري دلياني"القضية الفلسطينية اليوم تمر بأخطر لحظاتها التاريخية،ندعو الجميع للارتقاء فوق الخلافات الفئوية"
عضو المجلس الثوري لحركة فتح في حوار خاص لبركة نيوز

في حوارٍ مباشر مع أحد قيادات تيار الإصلاح الديمقراطي بفتح، تطفو أسئلةٌ مصيرية: كيف تُعاد هيكلة الحركة بعد عقود من التراجع؟ وما جدوى التنسيق الأمني مع الاحتلال في ظل التطهير العرقي؟ ولماذا فشلت المصالحة مع حماس رغم الدم الفلسطيني الواحد؟
هنا إجاباتٌ صريحة عن فساد بعض مؤسسات السلطة، وانهيار مشروع الدولتين، ودور القيادة التاريخية في تعطيل المؤتمر العام منذ ١٨ عاماً. شهادةٌ من داخل البيت الفتحاوي تكشف: هل ما زال الإصلاح ممكناً؟ أم أن القضية الفلسطينية تُدفع نحو الهاوية بفعل الانقسام والتبعية؟
أجرى الحوار الحاج بن معمر
بعد سنوات من تيار الإصلاح داخل فتح، ما هي أبرز الإنجازات الملموسة التي حققها التيار؟ وهل تعتقد أن القيادة التاريخية ما زالت تُعيق التغيير الجذري؟
تيار الإصلاح الديمقراطي في حركة فتح يُجسّد روح الحركة المتجددة، ويُعبّر عن استمرارية عنفوانها وتعدد أطيافها الفكرية، وهو امتداد حيّ لتاريخ طويل من التنوّع النضالي الذي شكّل على الدوام مصدر قوة لحركتنا لا نقطة ضعف.
فحركة فتح، منذ انطلاقتها، لم تكن يوماً إطاراً أحاديّ الرؤية، بل كانت بوتقة فكرية رحبة جمعت تحت رايتها مدارس فكرية متنوعة، من الواقعية الثورية إلى البراغماتية السياسية، ومن العمل الجماهيري إلى الكفاح المسلح، وقد عرفت عبر تاريخها قامات حملت رؤى مختلفة، لكنها اتفقت دائماً على جوهر واحد: فلسطين أولاً.
أما القيادة التاريخية لحركتنا، فهي تمثّل الذاكرة الكفاحية المتراكمة، بما لها وما عليها، وهي مرجعية نستلهم من تجاربها ما يعيننا على المضيّ بثقة نحو المستقبل.
دور هذه القيادة لا يمكن إنكاره أو القفز عليه، ولكن سنن التاريخ لا تتوقف، والتغيير سُنّة الحياة السياسية، ومهما اشتدّت مقاومة التجديد، فإن عجلة التطور لا تتوقف، وإن تباطأت فإنها لا تعود إلى الوراء.
إن إنجازات تيار الإصلاح الديمقراطي تُقاس بقدرته على إعادة إحياء الأمل داخل البيت الفتحاوي، وتجسيد قيم الشراكة والمساءلة، وفتح الأفق أمام جيلٍ جديد من الكادرات المؤمنة بدور الحركة كعمود فقري للنضال الوطني الفلسطيني.
التيار لا يطرح نفسه بديلاً، بل رافعة إصلاحية تُؤمن بأن تنوّع الرأي في فتح ليس طارئاً، بل راسخ في جيناتها، وهو ما يجعلها حركة عصيّة على الاحتواء، وقادرة على مواكبة التحديات الوطنية بروح نقدية بنّاءة تستمد مشروعيتها من تاريخ نضالي عريق، وإرادة لا تنكسر في معارك التحرر والبناء.
كيف ترد على اتهامات بعض قيادات فتح لك بأنك تستغل الإعلام لتشويه سمعة الحركة، بينما تفتقر إلى قاعدة شعبية حقيقية تدعم مطالبك؟"
الردّ على الاتهامات لا يكون بالتراشق الإعلامي، بل بالمواقف الوطنية الثابتة والسلوك السياسي المسؤول.
وحركة فتح وتيارها الاصلاحي أكبر من أن يُختزل في اتهامات عابرة أو حملات تشويه مجهولة المصدر؛ فهي حركة الشعب الفلسطيني ومجده النضالي، وكل من ينتمي إليها بحقّ، يتحرك من منطلق الحرص على مناعتها لا الإساءة إليها.
أما ما يُقال عن استغلال الإعلام، فنحن نؤمن بأن الإعلام الوطني هو ساحة من ساحات النضال، نستخدمه لنُعبّر عن رؤية إصلاحية هدفها حماية فتح من الانغلاق وإعادة ربطها بجمهورها الحقيقي، إننا لا نرد على اتهامات مجهولة المصدر، لأن ما لا يُبنى على مصداقية لا يستحق أن يُبنى عليه موقف.
أما بشأن القاعدة الشعبية، فإن من يقرأ نبض المخيمات، والجامعات، والساحات الوطنية، يدرك تماماً أن تيار الإصلاح الديمقراطي في حركة فتح هو تعبير صادق عن حاجة داخلية ووجدانية في فتح، لاستعادة روحها الديمقراطية، وكرامتها التنظيمية، ودورها الريادي في المشروع الوطني الفلسطيني.
نحن لا ننتظر تفويضاً من أحد، بل نستمد شرعيتنا من التزامنا بالثوابت الوطنية، وانحيازنا لكرامة الإنسان الفلسطيني، وإيماننا بأن فتح تستحق أن تعود لحمل البوصلة الوطنية دون تردد، وأن تبقى كما كانت دائماً: بيت كل الفلسطينيين، لا ضيعة لأحد.
هل تعتقد أن حركة فتح فقدت شرعيتها كرمز للمقاومة بعد تحولها إلى جزء من منظومة السلطة الفلسطينية التي يتهمها الكثيرون بالفساد؟
حركة فتح لم تكن يوماً مجرّد رمزٍ للمقاومة، بل كانت وما زالت تجسيداً حيّاً لها، واستمرار شرعيتها يُستمد من نبض أبنائها وبناتها المنتشرين في ميادين المواجهة، وفي زنازين الأسر، وفي مخيمات اللجوء، وفي كل ساحة نضال فلسطيني تحفظ الذاكرة وتعيد إنتاج الأمل.
فتح لم تفقد شرعيتها بسبب السُلطة واخفاقاتها لأنها ببساطة لم تُؤسَّس لتُقاس على معايير السلطة أو الحكم، بل لتقود مشروع تحرر وطني يتجاوز حدود الجغرافيا والسياسة. ووجودها داخل مؤسسات السلطة هو جزء من خيار وطني استُثمر لصالح شعبنا في مراحل مختلفة، لكن اي انحراف عن هذا المسار لا يُلغي نُبل الفكرة، ولا يُحمَّل لحركة جماهيرية بحجم فتح.
أما عن الفساد، فهو ظاهرة مرفوضة ومدانة في كل مواقعها، سواء في سلطة الضفة أو سلطة غزة، وهي لا تليق بتضحيات شعبنا الذي يستحق منظومة حكم ترتقي إلى مستوى نضاله وكرامته.
وهذا هو جوهر نضالنا الإصلاحي، الذي نخوضه كأبناء لفتح، لا خصوماً لها، إيماناً منا بأن الحركة لا تُقاس بمن أخطأ باسمها، بل بمن يسعى إلى استعادة دورها كإطار قيادي وطني جامع لا يُختزل في سلطة أو وظيفة.
إن إعادة الاعتبار لفتح لا تعني تبرئة الأخطاء، بل مواجهتها بشجاعة، وإعادة وصل ما انقطع بين الحركة وجماهيرها، على قاعدة أن فلسطين تحتاج فتح، وفتح تحتاج إلى كل أبنائها المخلصين لتبقى كما أرادها المؤسسون: طليعة المشروع الوطني الفلسطيني، وراية لا تنكسر.
ما هي الخطوات العملية التي تقترحها لتفعيل المؤسسات الديمقراطية داخل فتح، مثل عقد المؤتمر العام الذي تأجل لسنوات؟
الحديث عن تفعيل المؤسسات الديمقراطية داخل الحركة هو تعبير عن حاجة وطنية وتنظيمية ملحّة لإعادة الحيوية إلى البنية الداخلية لحركتنا، بما يضمن تعزيز المشاركة، وتجديد الشرعيات، وصون وحدة الصف في مواجهة التحديات الوجودية التي تهدد قضيتنا الوطنية.
إن النظام الداخلي لحركة فتح ليس مجرد وثيقة تنظيمية، بل هو تعبير عن إرادة جماعية تأسست منذ انطلاقة الحركة على قيم الشراكة، والمأسسة، والتجديد.
هذا النظام، إذا ما فُعّل بإرادة سياسية صادقة، كفيل بتأمين كل الخطوات المطلوبة لتحديث البنية القيادية، وتجسيد التداول الديمقراطي داخل الإطار التنظيمي.
هل تعتبر المصالحة مع حماس مستحيلة دون تنازلات من الطرفين؟ وما الضمانات التي تقدمها فتح لإنهاء الانقسام؟
المصالحة الوطنية ضرورة وجودية تُحتّمها تحديات المشروع الوطني الفلسطيني، الذي لا يمكن أن يُستأنف بنجاح في ظل استمرار الانقسام، أياً كانت مبرراته أو أعباره.
الوحدة الوطنية شرطاً أساسياً للصمود والمقاومة، وابناء حركة فتح وجماهيرها لطالما كانوا ولا يزالوا الحاضنة الشعبية الأوسع لفكرة الشراكة الوطنية، انطلاقاً من إيماننا بأن فلسطين أكبر من كل الفصائل، وأن الدم الفلسطيني أغلى من أي حساب سياسي.
نعم، المصالحة تتطلب من الجميع التنازل؛ لا من موقع الضعف، بل من منطلق الإحساس بالمسؤولية التاريخية.
فالقضية التي ما زال أبناؤها يواجهون الموت تحت حرب الابادة في غزة وجرائم التطهير العرقي في القدس وباقي انحاء الضفة لا تحتمل مزيداً من المراوحة أو الانقسام أو المزايدات.
ولا يمكن لأي طرف أن يدّعي امتلاك الحقيقة وحده، أو احتكار التمثيل الشعبي والوطني، لأن الشرعية لا تُستورد ولا تُفرض، بل تُستعاد من خلال الإرادة الجماعية والاحتكام لصناديق الاقتراع والمؤسسات الوطنية.
تيار الإصلاح الديمقراطي في حركة فتح، من جهته، يضع إنهاء الانقسام على رأس أولوياته الوطنية، وما نحتاجه هو توفر الإرادة السياسية الجماعية اكثر من الحاجة لضمانات من احد، والاتفاق على منظمة التحرير الفلسطيني كممثل شرعي ووحيد لشعبنا الفلسطيني، تشكل مرجعية واحدة تستند إلى الثوابت الوطنية، واحترام إرادة الشعب، والالتزام بالمسار الديمقراطي بوصفه الإطار الوحيد لتنظيم الخلافات وحمايتها من الانفجار.
نحن لا نطلب من أحد أن يتنازل عن قناعاته، لكننا ندعو الجميع للارتقاء فوق الخلافات الفئوية، والاحتكام إلى بوصلة واحدة: فلسطين أولاً، والحرية لشعبنا فوق كل اعتبار.
فالاحتلال لا يفرّق بين فصيل وآخر، والمقاومة الحقيقية تبدأ بوحدة الصف، هكذا علمنا الشهيد الرمز ياسر عرفات رحمه الله.
. كيف تفسر فشل كافة المبادرات العربية والدولية لتحقيق الوحدة الفلسطينية؟ هل المشكلة في القيادات أم في غياب الإرادة الشعبية؟
فشل المبادرات العربية والدولية لتحقيق الوحدة الفلسطينية لا يُمكن اختزاله في عامل واحد أو تحميله لطرف دون آخر، بل هو نتيجة تراكُم تعقيدات سياسية وتنظيمية وغياب الإرادة السياسية الفاعلة في اللحظات الحاسمة.
المبادرات بحد ذاتها لم تكن ناقصة من حيث النوايا، لكنها غالباً ما اصطدمت بجدار المصالح الفصائلية والشخصية، وبتفاوت الرؤى حول مفهوم الشراكة والشرعية وطبيعة النظام السياسي الفلسطيني.
المشكلة لم تكن يوماً في شعبنا الفلسطيني، الذي عبّر في كل محطاته التاريخية عن رغبة راسخة في الوحدة، بل في النخبة السياسية التي لم تُحسن في كثير من الأحيان ترجمة هذا المزاج الشعبي إلى فعل سياسي جامع.
الإرادة الشعبية كانت دائماً حاضرة، لكن الإرادة السياسية غابت حين طغت الحسابات الضيّقة على منطق المصلحة الوطنية، وغاب الالتزام الصادق بخيار الشراكة والتكامل لا التنافس والإقصاء.
ولذا فإن نجاح أي مبادرة مستقبلية لا يكمن في صياغة النصوص وحدها، بل في وجود قيادة وطنية تضع فلسطين فوق الفصيل، وترى في الوحدة شرطاً للانتصار، لا نتيجة له.
في نهاية المطاف، لا ضمانة حقيقية لإنهاء الانقسام سوى عودة الجميع إلى المربع الوطني الجامع، حيث تُصاغ المرجعيات بيد فلسطينية خالصة، وتُصان التعدّدية، وتُبنى المؤسسات على أساس الشفافية والديمقراطية والاحتكام إلى إرادة الشعب.
فلسطين تستحق وحدة تليق بتضحياتها، وقيادة ترتقي إلى مستوى شعبها العظيم.
لماذا لا تتبنى فتح خطاباً موحداً مع حماس ضد الاحتلال بدلاً من التنافس على الشرعية؟
الوحدة في الخطاب الوطني هي انعكاس لوعي مشترك بطبيعة المرحلة، وبخطورة التحديات التي تواجه مشروعنا التحرري. تيار الإصلاح الديمقراطي في حركة فتح، يسير على نهج الحركة منذ انطلاقتها والتي كانت دوماً مبادِرة إلى توحيد الصف، ومدّ الجسور مع كل من يلتزم بالثوابت الوطنية ويضع فلسطين فوق الاعتبارات الفئوية والظرفية.
الاحتلال لا يفرّق بين فصائل ولا بين ألوان الرايات، بل يرى في وحدة الموقف الفلسطيني تهديداً لوجوده.
ولذلك فإن التحدي الأكبر اليوم ليس في توحيد الخطاب فحسب، بل في توحيد الاستراتيجية، وتغليب منطق الشراكة على منطق التنافس، وبناء جبهة وطنية متماسكة قادرة على قيادة شعبنا في مرحلة هي من أعقد المراحل التي مرت بها قضيتنا.
كيف ترد على اتهامات إسرائيل بأن التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية يحميها من مقاومة مسلحة؟ وهل تعتبره خيانة للقضية الفلسطينية؟
الحديث عن التنسيق الأمني مرتبط بسياقات سياسية وأمنية معقدة، وبواقع احتلال يفرض على شعبنا وقياداته خيارات صعبة ومتناقضة أحياناً.
من المهم التمييز بين ما يُفرض بحكم الواقع وبين ما يُختار بإرادة حرة، وبين ما يُستخدم للحفاظ على أمن المجتمع الفلسطيني وبين ما يُحوَّل إلى عبىء سياسي أو تنازل عن الثوابت.
التنسيق الأمني، بمختلف مستوياته وتنوع أشكاله، كان وما زال محل جدل داخل الساحة الفلسطينية، وقد مورِس بدرجات متفاوتة من قِبَل كل من السلطتين في الضفة وغزة، حتى أكتوبر 2023، وفقاً لاعتبارات تتعلّق بإدارة الحكم تحت الاحتلال، وبموازين القوى القائمة. لكنه، في كل الأحوال، لا يمكن أن يتحوّل إلى غطاء لمصادرة إرادة المقاومة الوطنية.
القضية الفلسطينية أسمى من أن تُختصر في مسألة التنسيق الأمني، ومقاومة الاحتلال لها أشكال متعددة تتكامل ولا تتناقض.
والأصل أن أي علاقة أمنية أو سياسية يجب أن تكون منسجمة مع أولوياتنا الوطنية، ومع حق شعبنا المشروع في مقاومة الاحتلال بكل الوسائل التي يكفلها القانون الدولي ومصلحتنا الوطنية.
إذا كان التنسيق الأمني مرفوضاً، فما البديل الذي تقترحه لحماية المدنيين في الضفة الغربية من انتهاكات الاحتلال؟
حماية شعبنا ليست مشروطة بتنسيق أمني مع من يمارس القتل والاعتقال والاستيطان، بل هي مسؤولية وطنية وسياسية تُحتّم علينا البحث عن آليات حماية ترتكز على حقنا الطبيعي والقانوني في الدفاع عن شعبنا، وعلى واجب المجتمع الدولي في توفير الحماية لشعبنا الواقع تحت الاحتلال، بموجب اتفاقيات جنيف والقرارات الأممية ذات الصلة.
إن المسار الأجدر بالنقاش هو ذاك الذي يُعيد تعريف الوظيفة الأمنية في سياقها الوطني، ويُحررها من القيود السياسية التي فرضها الاحتلال.
المطلوب ليس أن نستبدل تنسيقًا بفراغ، بل أن نؤسس لرؤية وطنية أمنية يكون هدفها الأول حماية الإنسان الفلسطيني، لا ضبطه لحساب طرف خارجي.
وفي هذا الإطار، فإن فتح الباب أمام تدخل دولي فاعل لتوفير الحماية لشعبنا الفلسطيني، خاصة في ظل الجرائم اليومية التي ترتكبها قوات الاحتلال والمستوطنون، يُعتبر خيارًا واقعيًا ومشروعًا، يتوافق مع القانون الدولي ويعزز المسار السياسي والقانوني الفلسطيني في المحافل الدولية..
هل توافق على وصف السلطة الفلسطينية بأنها 'وكيل للاحتلال'؟ وما هي خططكم لإسقاط هذه الصورة؟
وصف أي مؤسسة وطنية، مهما كانت موضع خلاف أو نقد، بلغة التخوين لا يخدم مشروعنا الوطني، بل يعمّق الانقسام ويُضعف جبهتنا الداخلية في مواجهة احتلال لا يتوانى عن استغلال كل ثغرة في جسدنا السياسي.
نحن نرفض من حيث المبدأ لغة التخوين، لأنها لا تُنتج حلولاً، بل تُنتج خصومات داخلية تُبعدنا عن جوهر المعركة الحقيقية: إنهاء الاحتلال وبناء نظام سياسي فلسطيني موحّد، ديمقراطي، ومحصّن بإرادة الشعب.
السلطة الفلسطينية هي نتاج مرحلة سياسية معينة، نشأت في سياق معقّد، وأدّت أدواراً تتفاوت حولها التقييمات.
وما نطمح إليه ليس إسقاط صورة بقدر ما نسعى إلى تصويب المسار، وتحرير وظيفة السلطة من أي التباس أو ارتهان، لتكون أداةً في خدمة شعبنا الفلسطيني، لا عبئاً عليه، وأن تعود إلى أصل الغاية التي تأسست من أجلها: التمهيد لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
خطتنا ليست هدم المؤسسات، بل إصلاحها من الداخل، وتعزيز الفصل بين وظائف السلطة ووظيفة التحرر الوطني، وضمان أن تبقى كل أدواتنا السياسية والأمنية والاجتماعية في خدمة الكرامة الوطنية.
إعادة الثقة تبدأ بإعادة الاعتبار لدور شعبنا في صناعة القرار، وبفتح المجال أمام الرقابة والمحاسبة والشراكة السياسية، لتتحوّل السلطة من موقع المأزق إلى أداة تحرر فاعلة ومتماسكة، تُعبّر عن تطلعات شعبنا وتُشكّل رافعة للمشروع الوطني.
كيف تفسر استمرار الفساد في أجهزة السلطة رغم الوعود الإصلاحية؟ وهل هناك تواطؤ من قيادات فتح نفسها؟
الفساد، بكل أشكاله وأماكنه، في الضفة وغزة، يُمثّل تهديداً حقيقياً للثقة بين الشعب ومؤسساته الوطنية، وهو آفة لا تُبرر ولا يجوز التستر عليها تحت أي ظرف.
لكن من المهم التمييز بين وجود اختلالات بنيوية في المنظومة الإدارية والمالية للسلطة، وبين تعميم الاتهامات على أي حركة وطنية وليس فقط فتح قدّمت وما زالت تقدّم التضحيات دفاعاً عن المشروع الوطني الفلسطيني.
الفساد ليس ظاهرة حصرية على جهة أو فصيل، بل هو نتاج تراكمات سياسية ومؤسسية معقّدة، بعضها مرتبط بغياب المساءلة، وبعضها الآخر بتداخل الصلاحيات، وضعف البنية الرقابية.
لذلك فإن أي نقاش جاد حول محاربة الفساد يجب أن ينطلق من الحرص على حماية مؤسساتنا لا منطق تصفيتها، ومن الرغبة في الإصلاح لا الرغبة في الاتهام.
فتح، كحركة تحرر وطني، ليست منزّهة عن النقد، لكنها تملك من الإرث والتجربة ما يُمكنها من تصويب المسار حين تتوفر الإرادة.
وهناك داخل الحركة من لا يتردد في المطالبة بالإصلاح الجذري وفي مقدمة هذا التوجه تيار الإصلاح الديمقراطي في الحركة انطلاقاً من الشعور بالمسؤولية الوطنية، لا من موقع الخصومة أو التشهير.
مقاومة الفساد تحتاج لإرادة سياسية صلبة، ومنظومة قانونية مستقلة، ومجتمع مدني فاعل، وبيئة إعلامية حرة، وكل ذلك لا يمكن تحقيقه إلا في ظل شراكة وطنية حقيقية ترى في فلسطين وطناً يُبنى بالعدالة، لا يُنهك بالمحاباة والمحاصصة.
. بعد انهيار حل الدولتين، هل ترى أن خيار المقاومة الشعبية السلمية قادر على تحقيق أي مكاسب؟ أم أن الفلسطينيين أمام خيارين: الاستسلام أو العودة للكفاح المسلح؟
الخيار الوطني لا يُحصر بين الاستسلام أو الكفاح المسلح، بل هو أوسع وأعمق، واشكال المقاومة المختلفة حين تكون منظمة وواعية وملتزمة بالمصلحة الوطنية، تشكّل أداة فعالة لرسم ملامح الحلول المستقبلية.
وقرب انهيار حل الدولتين لا يعني نهاية النضال، بل يستدعي الاستعداد لإعادة بناء مشروع تحرري شامل، تتكامل فيه أشكال المقاومة ضمن رؤية وطنية موحّدة.
كيف ترد على من يقول إن القيادة الفلسطينية تخلت عن حق العودة مقابل الحفاظ على مناصبها؟
هذا الادعاء لا يستند إلى أي وقائع حقيقية، ويتنافى تماماً مع جوهر الثوابت الوطنية التي لم تكن يوماً موضع مساومة، وفي مقدمتها حق العودة الذي يُعد حجر الزاوية في المشروع الوطني الفلسطيني، وحقاً فردياً وجماعياً لا يسقط بالتقادم ولا تملك أي جهة – أياً كانت – صلاحية التنازل عنه.
ما جدوى الحملات الدبلوماسية الفلسطينية في الأمم المتحدة بينما الواقع يثبت أن المجتمع الدولي غير جاد في محاسبة إسرائيل؟
العمل الدبلوماسي الفلسطيني في الأمم المتحدة هو جزء أصيل من معركة النضال الوطني الشاملة، يُخاض على ساحة القانون الدولي لكشف زيف الرواية الإسرائيلية، وتثبيت حقوق شعبنا في السجلات الأممية، وفضح ازدواجية المعايير التي يمارسها المجتمع الدولي.
صحيح أن الإرادة الدولية ما زالت مقيدة باعتبارات المصالح والنفوذ، وأن آليات المحاسبة معطّلة أمام منظومة الحصانة التي تتمتع بها دولة الاحتلال الإسرائيلي، لكن الحضور الفلسطيني في هذه المؤسسات يُبقي القضية حيّة في الضمير العالمي، ويُراكم أوراق القوة القانونية والسياسية التي ستكون أساسية في أي معادلة مستقبلية.
المعركة في الأمم المتحدة هي معركة تراكمية، تُراكم الاعترافات، وتُحصّن السردية الوطنية، وتُحرج الصمت الدولي، وتُقرب لحظة الانفجار الأخلاقي في وجه منظومة الاحتلال. والرهان ليس فقط على النتائج الفورية، بل على الإرادة الوطنية الفلسطينية التي ترفض الاستسلام، وتصر على أن يكون لكل شهيد ولاجئ وأسير صوته في أعلى منابر العالم.
هل تعتقد أن الاعتماد على الدعم المالي الأوروبي والأمريكي جعل السلطة الفلسطينية رهينة للشروط الدولية؟
التمويل الدولي، كما هو الحال في تجارب الدول والعديد من حركات التحرر، هو أداة يمكن أن تُستخدم إما لتقوية المؤسسات الوطنية، أو – إذا أُسيء التعامل معها – للتحكم في أجندة القرار.
وهنا يكمن التحدي السياسي الحقيقي: كيف نحافظ على استقلالية الموقف الوطني رغم ضغوط التمويل، وكيف نحوّل هذه المساعدات من وسيلة ضغط إلى فرصة لتعزيز صمود شعبنا وبناء مؤسسات تخدم مشروعنا الوطني لا تُفصَّل وفق إملاءات الخارج.
السلطة الفلسطينية ليست رهينة بقدر ما هي محاصرة في مشهد دولي غير عادل، لكن المسؤولية تقتضي أن نعيد النظر في نموذج العلاقة مع الممولين، عبر تعزيز الاقتصاد الوطني، وتوسيع قاعدة الإنتاج المحلي، وتطوير أدوات الاعتماد الذاتي، حتى لا يتحوّل الدعم إلى قيد على الإرادة السياسية.
كمسيحي في قيادة حركة وطنية يغلب عليها الإسلاميون، هل واجهت تمييزاً أو ضغوطاً؟ وهل تعتقد أن الهوية الدينية أصبحت سلاحاً في الصراع الفلسطيني؟
الانتماء إلى فلسطين يسبق أي تعريف آخر، والدور في حركة تحرر وطني لا يُقاس بالدين أو الطائفة او انعدامهم، بل بالالتزام بالقضية، والإيمان بالعدالة، والاستعداد للتضحية من أجل الحرية.
أنا أنتمي إلى شعب عابر للهويات الفرعية، ومُنتمٍ لوطن تتكامل فيه الأديان لا تتصادم، وتتعايش فيه التعددية لا تتفكك.
لم أواجه في مسيرتي السياسية تمييزاً على خلفية ديني، لأن الوعي الوطني الفلسطيني، في جوهره، علماني في رؤيته للمواطنة، ويحتكم إلى معيار الكفاءة والانتماء النضالي، لا إلى الخلفيات العقائدية، وحركة فتح، تحديداً، منذ انطلاقتها، مثّلت إطاراً وطنياً جامعاً، احتضن كل أبناء الشعب الفلسطيني على اختلاف معتقداتهم، وجعل من التنوع مصدر غنى.
أما توظيف الهوية الدينية كسلاح في الصراع، فهو مسار خطير يُضعف مركزية القضية، ويشوّه جوهرها التحرري، لأن صراعنا ليس دينياً، بل صراع مع استعمار استيطاني عنصري لا يُفرّق بين فلسطيني وآخر. والمطلوب هو تحصين خطابنا الوطني من منزلقات التطييف، وتأكيد أن وحدة شعبنا في تنوّعه، وفي قدرته على تحويل الانتماء الديني إلى رافعة للقيم، لا إلى أداة للفرز أو الإقصاء..
كيف تُقيّم تعاطي الإعلام الدولي مع القضية الفلسطينية، خاصة في قضية التهجير القسري والتطهير العرقي التي يتعرض لها الفلسطينيون؟ هل ترى أن هذا الإعلام يُساهم في كشف الانتهاكات أم يُعيد إنتاج الرواية الإسرائيلية؟
تعاطي الإعلام الدولي مع القضية الفلسطينية، خصوصاً في قضايا التهجير القسري والتطهير العرقي، يظل ساحة معقدة تتداخل فيها الاعتبارات المهنية مع الضغوط السياسية، والمصالح الجيوسياسية مع الاصطفافات الأيديولوجية. وفي هذا المشهد المتشابك، لا يمكن إنكار أن جزءاً من هذا الإعلام ساهم في فضح بعض جرائم الاحتلال، وقدم تغطيات مهنية، وإن كانت جزئية.
لكن، في المقابل، لا تزال المنظومة الإعلامية الدولية السائدة تُعيد إنتاج الرواية الإسرائيلية إما من خلال اللغة المراوغة التي تُفرغ الجرائم من مضمونها السياسي، أو عبر اعتماد ما يُسمى بـ"التوازن الكاذب" بين الجلاد والضحية، وكأن المعاناة الفلسطينية مجرّد خبر عابر أو وجه آخر لصراع متكافئ، لا نتيجة مباشرة لمشروع استيطاني استعماري مبني على ايديولوجية عنصرية إبادية.
الإعلام، بطبيعته، لا يتحرك في فراغ، بل يتأثر بالبنية السياسية والاقتصادية للدول التي ينتمي إليها، ولهذا فإن الرواية الفلسطينية لا تُقصى فقط بفعل التحيّز، بل أيضاً بفعل غياب الأدوات المؤسسية الفلسطينية الكافية لمخاطبة العالم بلغته، وبصوته، ووفق روايته الأصيلة.
ومع ذلك، فإن التحدي لا يكمن في جلد الإعلام الدولي بقدر ما يكمن في ضرورة تعزيز المنصات الفلسطينية المهنية، وتطوير أدوات الخطاب الفلسطيني القادر على الوصول، لا التكرار، وعلى الإقناع لا الاكتفاء بالاعتراض. فالرواية العادلة تحتاج حاملاً إعلامياً فاعلاً، يُحوّل المأساة إلى حكاية إنسانية سياسية مؤثّرة، ويُعيد بناء الوعي العالمي حول عدالة القضية الفلسطينية كقضية تحرر إنساني.
. ما رأيك في الموقف العربي من الصراع، خاصة بعد موجة التطبيع مع إسرائيل؟ وهل تعتقد أن الإدارة الأمريكية الحالية -رغم خطابها عن حل الدولتين- تُقدّم ضمانات حقيقية لوقف الاستيطان وضمان حقوق الفلسطينيين، أم أن سياستها استمرار لإملاءات الاحتلال؟
يجب ان نُميّز بين إقامة علاقات دبلوماسية وبين التطبيع بمعناه الشامل، فالعلاقات الرسمية لا تعني بالضرورة قبولاً شعبياً أو اندماجاً طبيعياً مع دولة الاحتلال، إذ لا تزال الشعوب العربية ترفض التعامل مع الاحتلال ككيان طبيعي، وتتمسك بثوابتها القومية تجاه القضية الفلسطينية.
ونحن إذ نحترم السيادة الوطنية لكل دولة عربية وقراراتها المستقلة، نؤمن في الوقت ذاته أن وحدة الموقف العربي تُعزّز من قدرة شعبنا على الصمود، وأن الحفاظ على الإجماع العربي بشأن الحقوق الفلسطينية يبقى ضرورة قومية لا مجرّد موقف سياسي لاي من الدول العربية.
أما الإدارة الأمريكية، فرغم تكرارها الحديث عن "حل الدولتين"، فإنها لم تقدّم حتى الآن أي حلول فعلية لوقف الاستيطان أو لردع انتهاكات الاحتلال، بل وفّرت غطاءً سياسياً وعسكرياً لممارسات احتلالية اجرامية تُهدد ما تبقّى من فرص الحلول السياسية.
. هل تعتقد أن القضية الفلسطينية تمر بحقبة تاريخية تعد الأخطر في تاريخها...؟!
دون أدنى شك، تمر القضية الفلسطينية اليوم بأخطر لحظاتها التاريخية، في ظل عدوان إسرائيلي متواصل بلغ ذروته في حرب الإبادة التي تُرتكب بحق شعبنا في قطاع غزة، والتي راح ضحيتها أكثر من 50,000 شهيد وشهيدة منذ أكتوبر 2023، وسط صمت دولي مخزٍ، وعجز مؤسساتي عالمي عن حماية أبسط الحقوق الإنسانية لشعبٍ يخضع لاحتلال استعماري لا يزال يمارس سياسات القتل والتهجير والتطهير العرقي بكل وضوح.
ما يضاعف من خطورة المرحلة هو أن المشروع الصهيوني لم يعد يتوارى خلف شعارات الحلول السياسية، بل بات يعبّر عن نفسه بوصفه مشروعاً إقصائياً إبادياً قائمًا على نفي وجود الآخر، وتحويل فلسطين إلى حيز مغلق تُفرض فيه الرواية الاستعمارية بقوة السلاح والدعم الدولي.
في المقابل، تظل الرواية الفلسطينية، رغم كل محاولات التهميش، حاضرة بدماء الشهداء، بصمود الأسرى، وبصوت الإنسان الفلسطيني الذي يواجه الإبادة بالجسارة.
ورغم تعقيد المشهد، فإن هذه المرحلة هي أيضًا لحظة وعي وطني عميق. فقد أعاد صمود أهلنا في غزة، كما في القدس وباقي انحاء الضفة، والداخل، التأكيد على أن فلسطين ليست مجرّد قضية سياسية، بل مشروع تحرر إنساني وأخلاقي يعكس نضال شعب كامل ضد الظلم، ويُلهم العالم بإرادة الحياة رغم محاولات الإبادة.
نحن اليوم أمام فرصة لإعادة بناء وحدة وطنية حقيقية، تستند إلى شراكة نضالية شاملة، وإلى تجديد المشروع الوطني الفلسطيني، بما يعيد الاعتبار لنضالنا الوطني، ويُحصّن القرار الفلسطيني المستقل، ويُفعّل أدوات المواجهة على المستويات كافة.
فلسطين في هذه اللحظة ليست فقط عنواناً للمعاناة، بل مرآة للكرامة. ورهاننا سيظل دائماً على شعبٍ لا يُكسر، وعلى أمةٍ لا تنسى، وعلى عدالة تاريخية لا تُمحى مهما اشتدّ الظلم وامتدّ الزمن.