804
0
دفاعا عن أمير الجزائر المفترى عليه.. القائد الرباني استسلم مكرها أخاك لا بطل !!
استسلام الأمير عبد القادر جاء على مقتضى العدالة الإلهية الجارية على سنن ثابتة منها أن التخاذل يعقب الانكسار والتناصر يثمر الانتصار
محمد مصطفى حابس : جينيف / سويسرا
دار في السنوات الأخيرة، بل العقود الأخيرة، سجال وجدال كبيرين وكلام طويل وعريض حول محطة من محطات تاريخ الجزائر والعالم الاسلامي، وتحديدا حول مرحلة جهاد الأمير عبد القادر ضد المستدمر الفرنسي، وذهب أناس من قومنا الى الجزم بأن الأمير عبد القادر قد هاجر و لم يستسلم لفرنسا، وذهب آخرون الى تكذيب "قصة" الهجرة ، بل قالوا أنه استسلام من باب مكرها أخاك لا بطل !! دون المساس من مكانة الأمير القائد المغوار وهو الشجاع الفارس في أخلاقه وحروبه ومعاهداته و حتى مع أعدائه.
وذهب بعضهم مفندا بأن الأمير عبد القادر إن اختار "الهجرة" حقا، يعتبر ذلك إنكارا لـ17 عاما من الجهاد، وهذا يسيء ويضر بصفحات مشرقة من سنوات جهاده، رضي الله عنه.
وهنا أحب أن أبرز رأيا متوازنا، لم يأخذ حقه من النقاش والاثراء، علما أنه كان من السباقين، للدلو برأيه في خمسينات القرن الماضي حول موضوع استسلام الأمير من عدمه، إنه شيخنا العلامة محمود بوزوزو، الذي كتب في جريدته " المنار" مقالا مطولا في الموضوع ، دفاعا عن الأمير و استسلامه مكرها، تحت عنوان "ذكرى استسلام الأمير عبد القادر: معنى جهاد وعبرة استسلام"
في جريدة المنار، السنة 3، العدد 51، الجمعة 26 ربيع الثاني 1373، 1 جانفي 1954.
العلامة محمود بوزوزو طود شامخ من أطـواد النضال الفكريّ السياسي الوطني التحرري
يعـتـبـر العلامة محمود بوزوزو(1918-2007) طــودا مـــن أطــواد النضــال الفكريّ السيــاســي الــوطني التحرري في الجـزائـر - على حد تعبير أستاذنا ارزقي فراد في مقدمة كتابه بعنوان : "أفكار محمود بوزوزو في التّحرّر الوطني"-، خاصة خلال عــقـدي الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، فبالإضافة إلى نشاطه في حقل الإصلاح الاجـتـمـاعـي مـن أجــل صيانة الهــوية الجــزائرية الإســـلامية المهددة بالمسـخ الاستعماري، ومحاربة الجهل والأمية عن طريق إسـهامه في بناء المسـاجد والمدارس العربية الحرة ضمن نشــاط جمعية العلماء المســلمين الجزائريين في جهات شتى من ربوع الجزائر، فقد شـارك بـقــوة في نـشـــر الـفـكـر التحرري بلســانه وقــلمه بعيـــدا عـن التحزب، خـاصة بعـد تأسيسه لجريدة المنار سنة 1951م. واشتهر بنضاله وجهاده الفكري من أجل تكريس وحدة الصـف وجمع الشـمل وتوحيد جهود الجزائريين بمختلف أطيافهم الســياسية، حول المشروع التحرري. أما بعد اسـترجاع الاسـتقلال الوطني، فقد أوقف جهوده الفكرية في المهجر لخدمة المشروع الإسلامي كبديل حضاري يحقق السلم والرقي للإنسانية قاطبة، دون أن يقطع الصلة الروحــية بوطنه المفدى. وقـد أوصى بدفن جثمانه في أرضه الطاهرة ، وهو ما تم بالفعل عقب وفاته يوم 27 سبتمبر 2007م، حيث دفن بمسقط رأسه بجاية.
ثلاث سمات بارزة ميّزت مسار العلامة بوزوزو النضالي التحرّري:
ولعل ما ميّز مساره النضالي التحرّري ثلاث سمات بارزة،
أولاها كونه استفاد من مدرستين؛ مدرسة تقليدية مكّنته من تعلّم اللغة العربية وحفظ القرآن في طفولته ومن الاحتكاك بالمخطوطات والكتب الخاصة بالحضارة العربية الإسلامية في محيط عائلته البجاوية، ومدرسة فرنسية مكّنته من الاطلاع على الفكر الغربي العقلاني والفكر الإنساني عامة، فخذ على سبيل المثال مقولته الواردة في مقاله "نظام التربية في الجزائر" المنشور بجريدة المنار مؤداها :« بما أنّ البشر يتفاوتون في التفكير والإدراك، تعدّدت المذاهب وتنوّعت المشارب» تقاطعت هذه المقولة مع مقولة المفكر الألماني هيجل:«العقل يجمع الناس، والفهم يفرّقهم»!. ومن قناعاته العقلانية، اعتقاده أن تنوّع الفلسفات وتعدّد الأفكار بين الناس أمرٌ طبيعيّ، لكن المشكلة تكمن في « التعصّب» للرأي، وهو ما ينجب الفتنة.
والسمة الثانية أنه تمسّك بـ«سلطة الفكر والعلم»، فتجاوز النزعة الحزبية الضيقة، و تخلّص من سياج «المذهبية» وعفّ عن العصبية، محتفظا باستقلاليته الفكرية والسياسية بأن نأى بنفسه عن التحزّب أو الهيكلة في جمعية ما، مفضّلا التعاون مع الجميع. كما أنه تجاوز الصراعَ - الذي كان يطفو على السطح أحيانا- بين دعاة الحركة الإصلاحية الفكرية وبين مناضلي الحركة الوطنية التحررية.
والسمة الثالثة هي قناعته بحتمية توحيد جهود الجزائريين بكل أطيافهم الإيديولوجية في أطار وحدة العمل، كشرط ضروريّ لتحقيق النصر.
لقد مكّنه تحصيله التعليمي المزدوج من التشبّع بالثقافة الجزائرية والحضارة الإسلامية من جهة، ومن الإلمام بالفكر الإنساني والحضارة الغربية ومن الاطلاع على جهود النّضال التّحرّري في العالم من جهة أخرى.
هذا وقد نوّه الشيخ المصلح علي مرحوم سنة 1937م عبر جريدة البصائر، بمحمود بوزوزو وهو شاب يافع ينهل المعارف في المدرسة الرسمية دون التنكر لأصالته:<<...ولا سيما إذا كان الشاب المثقف أيضا، عاملا مخلصا مصلحا مثل ما نعرف من بعض الشبان الذين يزاولون التعليم في المدرسة الرسمية بقسنطينة، وعلى رأسهم حضرة الشاب المهذّب والمصلح الأنجب السيد محمود بوزوزو البجائي، فهو بحقّ من الشباب المخلص في خدمة الإصلاح ونصرة المصلحين، ويمتاز بهذا عن غيره من بقية "الرسميّين" بالرغم من المراقبة التي يراقبه بها بعض ... ، وبُغْضهم له على ذلك.>>.
ذكرى استسلام الأمير عبد القادر.. معنى جهاد وعبرة استسلام :
تحت هذا العنوان كتب العلامة محمود بوزوزو، في جريدة المنار عدد 1 جانفي 1954:
كلما أطل على الجزائر يوم 23 دجنبر (ديسمبر) أطلت معه سحب مثقلة بالذكريات والعبر الخالدة بما فيها من حقائق تاريخية منبثقة من السنن الإلهية الثابتة التي لا تحويل لها ولا تبديل. والحقائق التاريخية ليست من صنع نفسها إنها من صنع الإنسان، هو الذي يوجدها، دل على ذلك تكرارها وعدم تكرارها تبعًا لسلوك الإنسان. وبهذا الاعتبار قيل: التاريخ يعيد نفسه، وما هو إلا إقرار لسنة إلهية ثابتة تعبر عنها الفلسفة والعلم التجريبي بارتباط الأسباب بالمسببات. ومن تحصيل الحاصل أن يقال: لكل علة معلول، ولكل سبب مسبب، وكلما وجدت الأسباب وجدت المسببات، ونفس الأسباب تثمر نفس النتائج أيًا كان زمانها ومكانها. هذه الحقيقة المقررة يجتليها الملاحظ عبرة من الحوادث الماضية والجارية التي تسمى التاريخ، وهي وليدة إرادة الإنسان ومشيئة الله، ولئن كانت مشيئة الله فوق كل شيء فلإرادة الإنسان دخل كبير في صنع التاريخ وإلا بطلت مسؤوليته، فسير التاريخ في طريق السعد أو العكس تابع للاتعاظ بالحوادث الماضية والموقف من الحوادث الجارية.
ومن هنا تتجلى الحقيقة الخالدة الواردة في الآية: "إِنَّ اللَّـهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ" وهي تفسر ارتباط الإرادة الإنسانية بالمشيئة الإلهية الوارد فيها: "قُلِ اللَّـهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ". فالإرادة الإنسانية تنحصر في الأخذ بالأسباب إبراءً للذمة، والمشيئة الإلهية تتعلق بوضع المسببات مع الأسباب إقرارًا للعدالة السامية التي جعلها الله من حقوق المؤمنين عليه "وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ" حين يأخذون بالأسباب "وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ".
ما يستخلص من ذكرى الاستسلام وما هي ظروفها وما هو التوجيه المراد لتاريخها؟
في 23 ديسمبر 1847 استسلم الأمير عبد القادر بن محي الدين الجزائري للمعتدين الفرنسيين الذين جاهدهم 17 سنة كاملة، ولذلك الجهاد معنى لا يفهمه إلا من تغلغلت في عروقه أنوار الإسلام القوية، أو نفذ فكره إلى أسرار الإسلام الخفية، ومن كان في غير هذين الحالين فإنه يفهمه فهمـًا قد يخطئ فيه أخطاء بعيدة. والنظر المجرد يقتضي وضع العمل في الزمان والمكان مع اعتبار الروح الحافزة عليه، فالعصر الذي ظهر فيه الأمير لم يكن كعصرنا من حيث عموم الاحتلال الفرنسي في القطر الجزائري وتوغل الاستعمار في جميع أنحائه. فلم يكن على شكله الحاضر من حيث شمول النظام الإداري والنفوذ السياسي والاستحواذ الاقتصادي والاستعمار الروحي، إذ كان الاحتلال في بداية نشوب أظافره، وكان الجزائريون لا يعرفون عن الفرنسيين إلا قومًا من غير دينهم. وكانوا واثقين بالنصر عند توقع المعارك معهم. وذلك لأنهم عاشوا قرونًا طويلة في العز والسيادة في وطنهم لم يجرؤ أحد من جيرانهم على الاعتداء عليهم، وذلك جعلهم مطمئنين لقوتهم صارفين النظر من الخارج إلى الداخل من شؤون دنياهم، الأمر الذي يحدث التنافس في الحظوظ الدنيوية الباعثة للخصومات والحزازات بين الأفراد والعائلات. ولم يسلم من هذه التأثرات بعض أهل الرأي من علماء وفقهاء وقضاة. ولم يكن الأمر خاصًا بالمجتمع الجزائري بل كان عامًا في العالم الإسلامي الذي فشا فيه داء التخاذل.
الأمير عبقري رباني آتاه الله العلم الصحيح والفكر العميق يزينهما التقى والشجاعة المتزنة
وإذا ما برز عبقري في مثل هذا المجتمع فلا عجب أن يجد من معاصريه في وطنه وخارج وطنه من يوجسون منه خيفة على مراكزهم وحظوظهم، الأمر الذي يدفعهم إلى الكيد له، وعرقلة سيره، وإحباط مشاريعه، وقد برز عبد القادر بن محي الدين فآتاه الله العلم الصحيح والفكر العميق يزينهما التقى والشجاعة المتزنة وهذه كلها من النعم التي تدعو إلى الغبطة، وبويع بالإمارة وهي لقب محسود صاحبه، ولكن الأمير عبد القادر لم يكن يرى في كل هذا إلا مسؤولية من أكبر المسؤوليات، كان يرى نفسه جنديًا من جنود الله يحيا للحقائق الخالدة لا المراكز البائدة، ويرى في الإمارة عنوانًا لمسؤولية حفظ مصلحة الأمة لا لقبًا يخول الاستغلال والاضطهاد. وكان يعتقد في قيامه إلى الجهاد أن الجزائر "دار إسلام" يجب أن تظل دار إسلام باعتبار الإسلام أمانة في عنق المسلمين يجب عليهم حفظها إعلاءً لكلمة الله وإعزازًا لدينه. ولم يرد في القرآن ولا في الحديث نص بغير العزة لأهل الإسلام في ديارهم. بل ورد الوعيد بالعذاب دنيا وأخرى لمن رضي بالهوان كما ورد الوصف بالكفر لمن لم يحكم بما أنزل الله، وما كان الأمير عبد القادر المتشبع بالروح الإسلامية أن يرضى بدار الإسلام بديلًا. وقد رأيت مكتوبًا بخطه في آخر جزء من البخاري ما معناه: "ختمت قراءة هذا الجزء من صحيح البخاري يوم كذا من شهر كذا وأنا محاصر تلمسان أعادها الله دار إسلام".
.. ما أشبه الليلة بالبارحة !! استنجد الأمير عبد القادر بملك مراكش فخذله و لم ينجده
ورغم ما كان يتصف به من السمو الروحي والنزاهة الخالصة فإنه لم يسلم من كيد الكائدين الذين اضطروه إلى محاربتهم فكان يواجه جبهتين: داخلية وخارجية. و اضطر مرارًا إلى محاربة القبائل المناوئة التي أعمتها الأغراض الخاصة عن المصلحة العامة. وكفى بهذا سببًا في ضعف شوكة الأمة خصوصًا وقت الجهاد. وقد استنجد بملك مراكش فلم ينجده. وماذا عساه أن يصنع مع هذا الخذلان. فكانت العاقبة المحتومة الاستسلام. فاستسلم مكرهًا لا طائعًا ونزل عقاب الله على الأمة التي خذلته بأن سلط عليها البلاء الاستعماري الذي عم المغرب الإسلامي. ولم يكن ذلك عقابًا للأمير وهو لم يفعل إلا الواجب، ولا لأنصاره الذين قاموا لنصرة الحق. إنما كان عقابًا لقومه الخارجين عن حدود الله المنكرين سننه وإن كان فيهم الصالحون، والفتنة إذا نزلت لا تصيب الذين ظلموا خاصة.
ولم يكن للسنن الإلهية أن تغير مجراها فتجود بالنصر للمتخاذلين ولم يكن لمشيئة الله أن تقلب وضعية العدالة فتجعل للأسباب مسببات منافية لها، ولو وقع لاختل منطق الحياة وزالت الحكمة عن واهبها، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. فلم يكن في وسع الأمير أن يغير مجرى التاريخ لأن ذلك ليس من عمل فرد في أمة متخاذلة مهما أوتي من قوة إيمان وبعد نظر. ولم يكن ذلك في وسع الثوار الذين ثاروا من بعده، لأن ثوراتهم كانت شبه فردية ولم تكن جماعية، فكان مجرى التاريخ حسب السنن الإلهية الثابتة التي لا تتغير.
و استمر الاستعمار في توغله حتى عم البلاد... ولكن دون أن يُخمد روح المقاومة والجهاد
تلك هي الحقائق التاريخية التي يستمد منها المستهدى نورًا لخلق الظروف المرغوب فيها وتوجيه التاريخ توجيهًا معينًا. فالظروف الحاضرة التي تعاني فيها الأمة الجزائرية المسلمة حياة مخالفة لمقتضى الإسلام والكرامة ظروف ناتجة عن "التخاذل" في الماضي والحاضر. والظروف المرغوب فيها هي – طبعًا – حالة يطمئن فيها المسلمون على دينهم فيجدون الإسلام في جميع أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهي ظروف حققتها باكستان بعدما قضت زهاء قرنين تحت الاستعمار البريطاني كما حققتها أندونيسيا بعدما قضت ثلاثة قرون تحت الاستعمار الهولندي، وفي ذلك عبرة للمعتبر
فئة قليلة ناصرت الأمير ولم تجد حولها إلا التخاذل والتناحر
فالظروف التي جاهد فيها الأمير عبد القادر كانت - من الناحيتين المعنوية والمادية - كفيلة بمنع الاستسلام وضمان النصر. وذلك لقيام جهاده على عقيدة صحيحة، وتحليه بالفكر التنظيمي، وتوفر العَدد والعُدد لرد العدوان، وعدم توغل المعتدين في القطر، وسلامة الأقطار المجاورة من الاحتلال الأجنبي وإمكانها مساعدة الجزائر بمقتضى الرابطة الإسلامية والوحدة الجغرافية التي وحدت مصيرها. واجتماع كل هذه كفيل بمنع الاستسلام إن لم يؤت النصر، ولكن كان ينقص ذلك عامل حيوي ألا وهو الاتحاد والتناصر، ولا يوجدان إلا حيث توجد اليقظة وتقدير العواقب والإخلاص للصالح العام. وهي صفات لم تتوفر إلا لفئة قليلة ناصرت الأمير ولم تجد حولها إلا التخاذل والتناحر الذين يخلقان الظروف الملائمة للخيبة والاستسلام.
ليس في استسلام الأمير تكذيب للعقيدة ولا طمس للحقائق الخالدة
وليس في استسلام الأمير تكذيب للعقيدة ولا طمس للحقائق الخالدة. إنه عرض طارئ لا يمس بجوهر الحق. وهل أدل على ذلك من التجدد المستمر لروح المقاومة الجزائرية في شتى الميادين بشتى الأساليب؟ ولئن كانت هذه المقاومة لا تكتسي المعنى الديني الذي قام عليه جهاد الأمير عبد القادر فذاك المعنى لا يزال حيًا في قلوب نقية طاهرة سالمة من آثار الأوضاع الاستعمارية المضلة... تلك الأوضاع التي لم تكن برزت للوجود زمان الأمير.
ولو وجدت في زمانه فهل كانت تغير جهاده. ولو بعث الأمير اليوم فهل يستوحي جهاده من غير هذا المعنى؟.. وأيًا كان المعنى الذي تحمله المقاومة اليوم فإنه لا يسوغ تغيير الحقائق التاريخية فتنسب للأمير أغراض توافق الأهواء العصرية لم يثبتها التاريخ. والحق أن المعنى الذي قام عليه جهاده لا يزال نابضًا في عروق الشعب الجزائري المسلم الذي لا يريد بالسلام بديلًا رغمًا عن جميع المحاولات المباشرة وغير المباشرة الذي يراد بها صرفه عنه، إنه معنى روحاني متصل بالله ولا يطعن في صحته عدم نصر الله لصاحبه. فإن استسلام الأمير جاء على مقتضى العدالة الإلهية الجارية على سنن ثابتة منها أن التخاذل يعقب الانكسار والتناصر يثمر الانتصار. ومن يستهن بهذه السنن يختل نظام حياته. ومن يعتبر بها يسير التاريخ طوع إرادته. ولن تجد لسنة الله تبديلا.