209669
0
مذكرات شاهد على سنوات الجمر الحلقة 162

بقلم اسماعين تماووست
وأعود لأذكركم بليلة العيد… حينما أصبح الفرح حدادًا، كأنهم اختاروا التوقيت بعنايةٍ شيطانية، وكأنّ الشرَّ يأبى أن يمرَّ يومٌ دون أن يترك بصمته القاتمة على حياة الأبرياء. ليلة العيد الأضحى، حين كانت العائلات تستعدُّ للفرح والابتهال، وحين كانت المدينة تنبض بالحياة، حلّت الكارثة.
فكان العيد مسرحاً الجريمة، صبيحة العيد، كان من المفترض أن أكون في مكان آخر، مع عائلتي، أحتسي قهوتي، أتابع تكبيرات الفجر وهي تتسلل من مذياعي قديم، لكنني كنت هناك... أمام بوابة الأكاديمية، حيث تحوّلت أسمى القيم إلى رماد.
تلك البوابة... كانت دائمًا رمزًا للانضباط، لحياة مكرّسة للدفاع، للصمت المُشرّف الذي يحرسه الرجال من خلف الأسوار. أما اليوم... فقد صارت شاهدةً على خيانة، على همجية. تحوّلت إلى مدخل لجهنم.
اقتربت من المكان بخطى بطيئة، وكأن الأرض تسحبني للخلف، ترفض أن تطأها أقدامي، خشية أن أُدنّسُ دمًا لم يجفّ بعد. رأيته أولاً... دم الحارس. دم زميلي. تردّدت، لكنني انحنيت، ومددتُ أصابعي ولمسته. كان لم يجف بعد. عيناي امتلأتا بدموع لا تشبه الحزن فقط… كانت تحمل شيئًا أعمق، غضبًا صامتًا، ومرارة العجز.
كل زاوية من زوايا الأكاديمية بدت غريبة. الجدران، التي كنت أعرف تشققاتها، بدت كأنها تنزف هي الأخرى. ثقوب الرصاص رسمت خريطة الموت، أما البهو الرئيسي، حيث كانت الضحكات تعلو في ساعات الاستراحة، فصار خاليًا… إلا من صفير أجهزة اللاسلكي، وصفارات الإسعاف… وصدى الجريمة.
اقترب منّي ضابط شاحب الوجه، رفع الغطاء عن جسد الحارس، وقال متمتما : "كانت مجزرة حقيقية..." لم يرفع نظره نحوي. لم تكن لديه الشجاعة، أو ربما لم يكن بحاجة إليها. المشهد وحده كان كافيًا لكسر أقوى القلوب.
سمعتُ صوتًا خلفي. التفتُّ فرأيته… أحد الناجين، بالكاد يقف. جلس على درج جانبي، كأنه شجرة مقطوعة الجذور. همس وكأنه يحكي لنفسه: "كانوا يعرفون الطريق. دخلوا كأنهم من أهل المكان. عند الحاجز، وجدوا بوقزولة وحده… المجاهد. سألوا، تقرّبوا، ثم ضربوه. الأول قطع يده، والثاني... أكمل المهمة، مزّق ذراعه حتى لم تبقَ معلقة إلا بالجلد."
بوقزولة... كان المجاهد الذي فقد حياته هنا، ضحية الخيانة التي طالما عرفت مرارتها. رأيته، كما الكثير غيره، وهو يقدّم حياته فداءً لأرضه، غير أن الخيانة كانت في زوايا الأكاديمية أكثر من مجرد شعور. كانت في كل ركن، في كل خطوة. كان خيدة، الذي سلم لهم مفاتيح الأكاديمية، يعرف كل التفاصيل، وكان يعلم أن الموت لا يرحم.
كانت التفاصيل تتدفق من الشهود الناجين، ومن بقايا المعركة التي لم تترك شيئًا للخيال. المعركة لم تدم طويلًا، لم تكن هناك فرصةٌ حقيقيةٌ للمقاومة، فقد استغلّوا نقطة ضعفنا: ضعف الحراسة.
لكننا لم نكن نعلم أن فخًا آخر كان يُنصب، فخٌ كان يحمل بين طياته قدرًا مختلفًا تمامًا. فما كان من الشرطة إلا أن فكّرت بذكاء شديد، وأعدّت فخًا محكمًا، حيث تم وضع ما يقارب 300 كيلوغرام من المتفجرات في شاحنة وكان من نفذ ذالك ايضا أحد رفاقي المقربين من سلك امني آخر، ثم تم تقديم الشاحنة للإرهابيين كهدية لهم. و على مثن الشاحنة كان خيدة، ذلك الخبيث، يقودها، إلى جانب نائب الأمير الوطني لجماعة GIA، وهما متوجهان لتزكية هذا الأخير لمنصب الأمير الجديد بعد هروب الأمير السابق إلى المغرب.
وبمجرد وصولهم إلى حي المرجة، تحرك عناصر الشرطة خلف الشاحنة في سيارة أخرى، وعندما ابتعدوا عن المدينة وواجهوا مكانًا خاليًا، تم تفعيل المتفجرات. انفجرت الشاحنة بكل عنف، وتحولت إلى حطام. خيدة احترق وجهه ويداه، أما الآخر، فقد قذفه الانفجار مسافة 12 مترًا، وفقد عينه اليمنى، وانفصلت ساقه عن جسده.
وبينما كانت أنقاض الشاحنة تتناثر حولي، اقتربت من الجثة التي لم يعد بالإمكان التعرف على تفاصيلها بسهولة، لكن ما لفت انتباهي كان كمية الأسلحة التي عُثِر عليها في المكان. سلاح كلاشينكوف، بجانبه اثنان من الشواحن، وتلك الحزام الذي كان ملتفًا حول خصريه... كان يحمل سبع جيوب مليئة بالذخيرة، وكل جيب يحتوي على شاحن آخر. تلك الأدوات، تلك الأسلحة، كانت تشهد على جرائمهم الفضيعة التي ارتكبها هؤلاء الإرهابيون. لم يكن هذا مجرد هجوم، بل كان اغتيالًا لكل ما هو إنساني.
لقد كانت تلك الأسلحة بمثابة شهادة حية على حقيقة ما كان يحدث في الخفاء. هؤلاء الذين ظنوا أنهم يمكنهم تدميرنا، لم يفهموا أن الخيانة لا تجر إلا الدمار. ومع كل رصاصة، كانت تنكشف حقيقتهم: خونة، مجرمون، لا يعرفون معنى الرحمة.
وفي خضم هذه الأحداث، كنتُ أُحللها بعين خبير، كمن يعيش مرارة الخيانة ويُشاهد تفاعل كل حلقة من هذا التراجيديا. لقد تعلمت أن المعركة ليست فقط حربًا على الجسد، بل حربًا على النفس والعقل أيضًا، فلسفتي كانت دائمًا ترفض الاستسلام للألم. الحرب ضد الإرهاب لم تكن حربًا على الجريمة فقط، بل كانت معركة لإعادة بناء الروح الوطنية. العيش في ظل هذا الظلام لا يعني أن نفقد الأمل في الضوء الذي يمكن أن ينبثق من بين الثنايا.
لقد عشت مرارة الخيانة وفهمت عمقها أكثر من أي وقت مضى. كان الهجوم، بكل تفاصيله، يحمل رسالة واضحة: الخيانة تدمّر كل شيء، لكنها لا تقتل الأمل. أما خيدة، الذي سلّم نفسه للشيطان، فقد وقع في شر ما نصب له. لقد كان يظن أن الخيانة ستجلب له النصر، لكنه وقع ضحيةً لخيانته، وكان المصير الذي حفره بيديه أقسى بكثير من أي عقاب. كما يقال في الحكمة: "من يزرع الشوك يحصد الألم."
أما الإرهابي، فقد كان بالفعل مثالًا حيًا لجرائمهم الشنعاءالتي كانوا يرتكبونها باسم الأيديولوجيا الزائفة.
هذا لم يكن مجرد هجوم… كان إعلان حرب.
في بداية هذه المرحلة العصيبة التي اتسمت بتعقيد مذهل وخطورة بالغة، وجدنا أنفسنا أمام مأزق خانق لم يكن مجرد عائق أمني أو سياسي، بل كان انعكاسًا لمواجهة مصيرية بين وطن يسعى للبقاء وقوى ظلامية أرادت أن تعيده إلى عهد الفوضى والخوف. لم يكن هذا الوضع وليد اللحظة، بل كان نتيجة تراكمات طويلة، ساهمت في تفاقمها عوامل داخلية وخارجية، كان أبرزها استهداف الدولة الوطنية عبر الإرهاب، الذي تجذر كالورم الخبيث في جسد الأمة، مغذيًا نفسه بالرعب والدماء والدمار.
هذا الإرهاب، الذي ادعى زيفًا حمل راية الدين والعدالة، لم يكن سوى أداة لتفكيك المجتمع، لضرب استقراره وزرع الشك بين أفراده. كان العدو في الظاهر مجهول الهوية، لكنه كان حاضرًا في كل مكان، يضرب متى شاء، ثم يختفي في ظلال الخوف التي بثها في القلوب. بهذه الطريقة، تمكن من خلق واقع جديد، حيث لم تعد الحياة آمنة، ولم يعد الوطن ملاذًا يبعث الطمأنينة، بل صار ساحة حرب غير متكافئة، تفرض على الجميع إما الخضوع وإما المقاومة.
في ظل هذه الظروف، لم يعد بالإمكان الوقوف على الحياد. كان على كل فرد أن يحدد موقفه بوضوح: إما أن يظل وفيًا لمبادئه الوطنية والإنسانية، مدافعًا عن الأرض والعرض، رافضًا الرضوخ لهذا الواقع المرعب، وإما أن يستسلم للخوف ويقبل بالواقع المفروض عليه، متحولًا إلى مجرد متفرج على انهيار الوطن وانجرافه نحو الهاوية.
لكن التحدي لم يكن يقتصر على المواجهة المسلحة وحدها، بل كان معركة فكرية ونفسية أيضًا. فالإرهاب لم يكتفِ بفرض سيطرته على الأرض، بل حاول أن يفرض منطقه على العقول، أن يخلق حالة من الاضطراب والانقسام داخل المجتمع، أن يشوه الحقائق ويزيف الوعي. حاول أن يجعل من نفسه قوة لا تقهر، قوة يُخشى مجرد ذكر اسمها، ليصبح بذلك عنصرًا فاعلًا في إعادة تشكيل الواقع السياسي والاجتماعي وفق أجندته الخاصة.
ولعل أخطر ما في الأمر، أن بعض الناس، سواء عن جهل أو خوف، وقعوا في فخ الاستسلام لهذا الفكر، ظنًا منهم أنه لا خيار أمامهم سوى التكيف مع هذا الوضع الجديد، أو تجنب مواجهته بأي ثمن. وهذا التردد لم يكن إلا وقودًا زاد من تغول الإرهاب، إذ أن الخوف والصمت هما الحليفان الأقوى لكل مستبد.
لكن الجزائر لم تكن أرضًا تُستباح بهذه السهولة، ولم يكن شعبها ليسمح بأن يُسلب منه تاريخه ومستقبله. فقد كانت هذه الأرض دائمًا موطنًا للصمود، لم تنحنَ يومًا أمام الاستعمار، ولم ترضخ لأي قوة ظالمة حاولت إخضاعها. كان هذا الإرث النضالي كافيًا ليذكّر أبناءها بأن الخنوع لم يكن خيارًا مطروحًا، وأن المقاومة، وإن كانت قاسية، تظل السبيل الوحيد لاستعادة الحياة والكرامة.
وهكذا، بدأ الشعب يستعيد وعيه، شيئًا فشيئًا، يدرك أن الإرهاب ليس قوة غامضة لا تُهزم، بل مجرد وهم تغذيه الدعاية والترويع....
يتبع...

