8

0

بعيدا عن القضاء

 

بقلم: محمد مراح

نشطت قنوات يوتيوب ومؤسسات صحفية وإعلامية في حوارات و" بودكاست " في قضايا فكرية وثقافية وسياسية وتاريخية ووطنية وعلمية . و ما هذا إلا انخراط في سمة العصر و وسائله . ومهما تغيرت الوسيلة والواسطة فإن قيم الإعلام الحاكمة والموجهة تضل هي هي ، لا تغيرها الوسيلة إلا بقدر ما يقتضيه تغيرها مما هو من مقتضيات خصائص الوسيلة.

لعل أكثر مجالات الحوار مدعاة للاهتمام لدينا ، التاريخ الوطني الحديث خلال الاستعمار ثم الاستقلال . لقد أستمتعنا كثيرا وتابعنا بشغف وعناية شهادات المجاهدين في مختلف الرتب والمشاركة في الحركة الوطنية وثورة التحرير،والسياسيين بحسب انتماءاتهم السياسية ومسؤولياتهم الوطنية . وقد يكون السبب الكامن وراء هذا الشغف والحرص على المتابعة ، أننا نستمع إلى صناع الأحداث أو شهودها ؛ أي أنهم جزء منها . من هنا تأتي القيمة، ومن هنا أيضا كانت تُحْتَوَى بيضة الوطن من المخاطر الكبرى ؛ لأنها تُتَدَاول على خلفية ضمير وطني استوعب الخلاف والاختلاف والصراع والصدام ، بوصفها حصائل جريمة تاريخ استعماري ، ومقاومة فريدة في تاريخ الإنسانية .

من متغيرات الوسيلة من الإعلام التقليدي إلى الإعلام الجديد سهولة الوصول للجميع بأيسر التكاليف ، ومطلق القول والحديث ؛ فالواسطة بين المرسل والمستقبل المعروفة تحررت من الضبط والتوجيه ، فسالت القيم الإعلامية مع سيلان عبوات الوسيلة التي لا قائم على بوابتها ، ولا قائم بها على أصول وقواعد، عدا ما قد تمليه قيم ذاتية إيجابية. فجاء إسهامها العضوي في تشكيل عالم ما بعد سقوط بغداد ، أبرز ثمار الحرب الحضارية الأولى كما وصفها المهدي المنجرة رحمه الله.

من هتا يمكن رصد أمر في غاية الأهمية للمرحلة الوطنية التي نعيش ، ونمر بها ؛ لقد استمر التعاطي مع قضايانا التاريخية والسياسية الحديثة بنمط و روح وأريحية الإعلام التقليدي عبر وسائل ليس لها من صلة بالقديمة إلا جزء من الاسم وبعض التقنيات الأولية .وهذه ثغرة سنحت للمراصد العالمية الاستعمارية ـــ كما وصفها بن نبي منذ الستينيات في كتابه "الصراع الفكري في البلاد المستعمرة "، وعرض لشواهد لها وتطبيقات واقعية إثر الاستقلال خاصة في كتابه "من أجل التغيير ". إذن سنحت لها أن ترصد حركتنا الوطنية في سياق إقليمي ودولي بالغي التعقيد والخطورة ، نلفت الانتباه إلى عش عنكبوت حُفّْز من رميمه الذي قُبِرَ فيه بعد " الثورات " التي أطاحت بدول و أنظمة عربية ، تمكنا من الإفلات منها آنئذ ، بفضل الله تعالى ثم بحكمة ووعي متظافرين ، على خلفية المأساة الوطنية والتقدم المحرز في المعافاة منها . إذن حفز هذا العش بعد تغيير درامي في بلد إحدى أمهات الحضارة الإنسانية. لكن لما رصدت تلك المراصد الوثبة الديبلوماسية المحنكة لدينا ، في سياق سيرورة وطنية مغايرة لما سبقها ، أخذوا في استخدام مصطلح " الدخداخيات " متعددة الأرجل / mille-pattes / Millipedes ،بوصفها إحدى مفاتيح نظرية القابلية للاستعمار المعروفة ، للإعادة عش العنكبوت لحيويته وفاعليته .

لقد لاحظنا تناغما إعلاميا من مراكز العدو التقليدي " فرنسا الاستعمارية " ، والمتوطن بالجنب الجواري { الكيان وأدواته المخزنية } ،و وسائل إعلام عربية كإمبراطورية عزمي بشارة الإعلامية التي قرصتها بعض صحفنا ووسائل إعلامنا الوطنية منبهة من ورائها إلى قوة تحفزنا ويقظتنا . وفي الآن ذاته ومنذ ليلة التصويت في مجلس الأمن الأخير على خطة غزة ، لاحظنا فجأة بعض الصحف العربية المهاجرة الخضراء والبيضاء ، هرعت ودون داوعي موضوعية أو زمانية لإخراج ما سمته ملفات سرية بريطانية حول محطات تاريخية في دولة الاستقلال ، مما لا يجهل أغلبه الجزائريون ، ولكن الطبخة البريطانية المعهودة اختارت نكهاتها التي أعادت تلك الصحافة تسخينها لتكون مؤثرات مفيدة في ترتيبات قد تتهيأ لها الظروف المواتية . ثم استمرت تلك " البريطانيات / الجزائرية " من بعض الحوادث المؤلمة التي عشناها ، والتي كان لجهات كثيرة منها عربية وإقليمية أدوار باتت مسلمات في الحس الوطني والوعي الوطني .

وهنا أيضا تبرز قيمة الملاحظة التي انتجت سطور هذا المقال ؛ هي الحاجة إلى انتباه الأطراف الوطنية المخلصة إلى أن الانسياق وراء سيولة الحديث المدغدغ لمشاعر استياء أو معارضة ما ، أو التفاني في تشييد أمجاد إعلامية ، وخلود نضال وطني ،بِسَوق أو اختلاق أحداث ووقائع من تاريخنا الوطني والسياسي ، دون أن يكونوا من صناعها أو شهودها ، سيكون حتما هدية سخية لتلك المراصد ، ب"دخداخياتها" ، وأرجلها العنكبوتية . أما الحرص الصادق على صحة التاريخ ، فليترك لمجاله الطبيعي ، البحث العلمي المتخصص الرصين ، ولوقته الذي لا يستباح بسببه وطن وأمة .

 

 

 

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services