401
0
إيمدغاسن… حين يلتقي الفن السابع بذاكرة الأوراس

بين جبال الأوراس الشامخة وضريح إيمدغاسن الأثري الذي يعود إلى أكثر من 23 قرناً، تستعد ولاية باتنة لإحتضان واحدة من أهم التظاهرات السينمائية في شمال إفريقيا إنه "المهرجان الثقافي الدولي للسينما إيمدغاسن"، في دورته الخامسة الممتدة من 10 إلى 16 سبتمبر 2025.
ريبورتاج من إعداد ضياء الدين سعداوي
في هذا الأسبوع تتحول المدينة الهادئة إلى مسرح عالمي للفن السابع، حيث يلتقي صناع الأفلام والنقاد من 28 دولة، ويتنفس الجمهور المحلي هواءً مختلفاً تتمازج فيه الصور السينمائية مع عبق التاريخ الأمازيغي–النوميدي- الروماني.
من هو إيمدغاسن؟ ولماذا يحمل المهرجان اسمه؟
لا يمكن الحديث عن المهرجان من دون العودة إلى رمزية إسمه. إيمدغاسن هو ملك أمازيغي قديم من ملوك النوميد، يعتقد المؤرخون أنه عاش في القرن الرابع قبل الميلاد، الضريح الذي يحمل إسمه يقع على بعد 30 كيلومتراً شمال باتنة، وهو معلم جنائزي دائري الشكل، بني بالحجارة الضخمة على هيئة هرم مدرج بإرتفاع يصل إلى 18 متراً ليبقى شاهداً على حضارة ضاربة في التاريخ.
إختيار هذا الإسم للمهرجان لم يكن اعتباطياً، فالقائمون عليه أرادوا منذ إنطلاق الدورة الأولى أن يجعلوا من السينما امتداداً للذاكرة التاريخية، وأن يربطوا الفن الحديث بأصول الهوية العريقة.
واليوم بعد خمس سنوات، تحقق الحلم الأكبر، اليونسكو ستعلن رسمياً إدراج الضريح في قائمة التراث المادي العالمي يوم 16 سبتمبر، في لحظة يترقبها الجزائريون بفخر واعتزاز.
دورة استثنائية بإمتياز
لا يختلف اثنان على أن هذه الدورة تختلف عن سابقاتها. فإلى جانب ترسيم المهرجان رسمياً ضمن خارطة التظاهرات الوطنية الكبرى، جاء الإعتراف الأممي بضريح إيمدغاسن ليمنح الحدث بعداً دولياً غير مسبوق.
سيكون الإعلان الرسمي في حفل الختام، بحضور وزير الثقافة والفنون زهير بللو، إلى جانب وفود دبلوماسية وشخصيات سينمائية وثقافية. وهنا تلتقي السياسة الثقافية بالذاكرة التاريخية، لتقول الجزائر للعالم إنها قادرة على الإستثمار في قوتها الناعمة أو الثقافة.
580 فيلماً و51 عملاً في المنافسة
تلقى المهرجان هذا العام 580 فيلماً من القارات الخمس، جرى انتقاء 51 عملاً منها للتنافس في المسابقات الرسمية ، هذه الأرقام تعكس حجم الإهتمام العالمي بالمهرجان، الذي لم يعد مجرد موعد محلي، بل أصبح منصة دولية حقيقية.
المسابقات تتوزع على الأفلام الروائية القصيرة ، الأفلام الوثائقية القصيرة ، أفلام التحريك و جائزة النقاد للأفلام الروائية القصيرة والطويلة.
مسابقة الروائي القصير وجوه من أربع قارات
في 11 سبتمبر يبدأ الجمهور أولى رحلاته مع الأفلام الروائية القصيرة، فالجزائرية إيمان عيادي تفتتح المسابقة بفيلمها NYA، لتضع الحضور أمام تجربة شبابية جزائرية واعدة. بعدها، يعرض التركي Onur Guler فيلمه The Surrogate Girl، متبوعاً بالعمل الإيطالي FIABEXIT لـ Giuliano Giacomelli، ثم الفيلم الإيراني Alone Together لـ Omid Mirzaei.
وتتواصل العروض مع الفيلم الفلسطيني The Night of Abed لأنيس جعاد، في حضور رمزي يعكس الأبعاد السياسية والثقافية للمهرجان. ومن السعودية يأتي The Deer’s Tooth لـ سيف هماش، ومن بولندا Visit لـ Paulina Zajac. كما تشارك كندا بفيلم Fishbowl لـ ريما محيد المجيد، والولايات المتحدة بـ Last Day لـ Jason Adam.
هذا التعدد من الشرق الأوسط إلى أوروبا وأمريكا الشمالية، يؤكد أن المسابقة أشبه بـ خريطة مصغرة للعالم مرسومة على شاشة واحدة.
مسابقة أفلام التحريك خيال بلا حدود
أما مسابقة أفلام التحريك فتفتح الباب أمام عوالم الخيال. من العراق يأتي فيلم Sketch لـ Oday Abdul Kahdum، ومن السعودية In Between لـ Ethar Baamer، ومن الجزائر Stork Messages لـ عنتر دعدوش.
وتتنوع المشاركات مع المصري The Pyramid لـ محمد غزالة، والهندي Account Tree لـ Joshy Benedict، والماليزي The Pillar of Strength لـ Aie Ibrahim. هنا لا توجد حدود، فالصورة المتحركة قادرة على أن تحلق بالخيال بعيداً عن الجغرافيا.
أسبوع النقاد صوت جزائري خالص
واحدة من أبرز مفاجآت الدورة هي أسبوع النقاد، الذي جاء هذا العام ببرمجة جزائرية بحتة، تعكس دينامية الإنتاج المحلي. من بين الأفلام المشاركة: الطيارة الصفراء لـ هاجر سباطة، Le Grand Défi لـ وليد بوشباخ، Desert Rose لـ أنيس جعاد، وSouvenirs Sanglants لـ مراد بومران.
هذا الإختيار يحمل رسالة واضحة: "المهرجان ليس فقط واجهة دولية، بل أيضاً مختبر محلي لصناعة جيل سينمائي جديد."
فيتنام ضيف شرف و بوليوود على الموعد
لا يخلو المهرجان من البعد الدبلوماسي الثقافي. فيتنام الدولة الآسيوية ذات التاريخ الحافل بالنضال، ستكون ضيف شرف هذه الدورة، ببرنامج خاص يعرف بتجربتها في السينما.
إلى جانب ذلك يفتح المهرجان نافذة على بوليوود من خلال عرض مشترك جزائري–هندي، يهدف إلى ترسيخ الحوار الثقافي والفني بين الجزائر والهند، إنها محاولة لتوسيع الجسور نحو آسيا، بما يعكس التوجه الجديد للسياسة الثقافية الجزائرية في تنويع شركائها.
فلسطين في قلب الشاشة
في زمن تغيب فيه فلسطين عن نشرات الأخبار إلا عبر المآسي، يحرص المهرجان على أن يمنحها مساحة في الشاشة الكبيرة. مشاركة فيلم فلسطيني في المنافسة الرسمية، بحضور سفير فلسطين في الجزائر، ليست مجرد تفصيل بروتوكولي، بل رسالة بأن الثقافة قادرة على حمل صوت المظلومين بطرق أعمق من السياسة.
تكريم نجوم عرب وجزائريين
لحظة أخرى ينتظرها الجمهور هي حفلات التكريم. هذا العام، سيكرّم النجم السوري سلوم حداد، أحد عمالقة الدراما العربية، إلى جانب الممثلة التونسية صالح الجدى. ومن الجزائر، سيقف المهرجان إجلالاً لمسيرتي مليكة بلباي و دليلة حليلو، تكريماً لعطائهما الفني المتميز.
هذه التكريمات لا تحمل بعداً فنياً فقط، بل أيضاً عاطفياً، إذ تجسد وفاء المهرجان لرموزه ولجيل صنع ذاكرة السينما والدراما العربية.
ماستر كلاس، ندوات و ورشات تكوينية
بجانب العروض، يقدم المهرجان حزمة من الورشات التكوينية والماستر كلاس في مجالات الإخراج، التمثيل، صناعة الفيلم، والهندسة الصوتية. كما تعقد ندوات فكرية تبحث في العلاقة بين الأدب والسينما، في حضور أساتذة وباحثين من داخل الجزائر وخارجها.
بهذا ، لا يكتفي المهرجان بعرض الأفلام، بل يساهم في تكوين جيل جديد من السينمائيين، ويمنح المدينة فضاءً للنقاش الفكري.
السياحة الثقافية بين تيمقاد وإيمدغاسن
يدرك القائمون على المهرجان أن الثقافة والسياحة وجهان لعملة واحدة. لذلك أُدرجت في البرنامج خرجات سياحية إلى مدينة تيمقاد الأثرية، المصنفة بدورها ضمن التراث العالمي،كما سيتم التعريف بإرث إيمدغاسن، ليعيش الضيوف تجربة مزدوجة بين إكتشاف جمال الشاشة الكبيرة من جهة، وعبق التاريخ من جهة أخرى.
الجزائر والثقافة كقوة ناعمة
ما يميز هذا المهرجان أنه يتجاوز حدود الفن ليطرح أسئلة أعمق: كيف يمكن للثقافة أن تكون قوة ناعمة للجزائر في زمن العولمة؟ كيف يمكن لمدينة داخلية مثل باتنة أن تصبح وجهة دولية عبر السينما؟ الإجابات لا تأتي فقط من العروض، بل من الصورة التي ينقلها المهرجان إلى العالم بأن الجزائر بلد تاريخي متجذر، لكنه في الوقت نفسه منفتح على الحداثة والإبداع.
السينما ذاكرة إنسانية
ما يقدمه مهرجان إيمدغاسن الدولي للسينما أكثر من مجرد عروض، إنه رحلة في الذاكرة والخيال، حيث تتحاور حضارة عمرها آلاف السنين مع فن لا يتجاوز عمره قرناً.
بين ضريح ملك أمازيغي قديم وصالة عرض حديثة، يلتقي الماضي بالحاضر، لتقول الجزائر للعالم: "هنا الأوراس… حيث يولد الإبداع من رحم التاريخ."