621
0
التفجيرات النووية ب”رقان” ..جريمة فرنسا التي أبت الاعتراف بها
تعرف الصحراء بأنها المكان الرحب الواسع حيث ترتاح النفوس وينشرح القلب فتخلوا النفس لترى حالها، هذا الوصف يطبق على الصحاري النظيفة في حين لا ينطبق على منطقة رقان جنوب الجزائر، حيث كانت مسرحا للتجارب النووية التي أقدمت عليها أيادي المستعمر الفرنسي الحاقد في وقت كانت تتلهف فيه للانضمام الى القوى النووية، فما كان لها الا أن تكون منطقة ارتبط اسمها بالتشوهات الخلقية والسرطان والعديد من الأمراض وأصبحت غير صالحة للعيش، فما هو الجرم الذي ارتكبه الشعب الجزائري كي يحرم نعمة الصحة؟
أعدت الملف / بثينة ناصري
رغم مرور ثلاثة وستون سنة على المحرقة النووية التي اقترفتها فرنسا في حق أبرياء صحراء الجزائر لا تزار المنطقة تتذكر في صمت رهيب أول تفجير نووي صعق المنطقة برمتها لتكون مجزرة للأحياء، كيف لا وقد فاقت قوة التفجير قوى القنابل الكبرى عبر العالم وشملت نحو 3500 جزائري من عمال بسطاء ومتقاعدين وبعض الفرنسيين.
جريمة اقترفتها فرنسا في حق الأبرياء
ارتكبت فرنسا جريمتها الشنعاء مع سبق الإصرار، وحولت 42 مواطن الى فئران تجارب، ففي صباح يوم 13 فيفري 1960 فوجئت صحراء رقان بأول قنبلة كانت عواقبها جسيمة الى حد اليوم على السكان والبيئة، بل الأسوأ من ذلك أن فرنسا لم تشرع في تطهير المواقع من التلوث لتبقى هذه المسألة عالقة، فعلى بعد 50 كلم من مدينة حمودية (رقان) قامت فرنسا بتفجير قنبلة مصنوعة بالبلوتونيوم وهي أقوى بخمس مرات من قنبلة هيروشيما باليابان.
ومن دون أي إحساس بالذنب أو الإنسانية أطلقت فرنسا اسم “الجربوع الأزرق” لجريمتها الأولى، متبوعة بتفجير ثلاث قنابل أخرى بموقع رقان وهي “الجربوع الأبيض” (يوم الفاتح أفريل 1960) و”الجربوع الأحمر” (27 ديسمبر 1960)، حسب ترتيب الألوان الثلاثة للعلم الفرنسي لتختتم التجارب النووية في رقان بالرابعة التي سميت “الجربوع الأخضر” (25 أبريل 1960)، وفي المجموع قامت فرنسا بتفجير 17 قنبلة نووية جوية وباطنية ما بين فيفري (1960 -1967) بمنطقة رقان وفي تجاويف سلسلة جبال الهقار (تمنراست) ضاربة عرض الحائط أمن السكان المحليين والحياة الاجتماعية فيها ليصل العدد الى 57 تفجيرا نوويا.
ومازالت فرنسا ترفض تقديم الخرائط الخاصة بأماكن ردم النفايات الملوثة أو الكيميائية، في المقابل لم تتوقف الجزائر أبدا على لسان المسؤولين والمجتمع المدني في المطالبة بفتح الأرشيف و “تطهير” الأماكن.
بهدف الالتحاق بالنادي النووي العالمي
من جهة أخرى ألهمت فرنسا الجميع منذ الأزل بعبارة “صحراء العطش” العبارة التي غرست لتغليط الرأي العام العالمي بأن الصحراء منطقة قاحلة خالية من جميع أنواع الحياة، لتفسح المجال لهذه التجربة بشكل أفضل من أي منطقة أخرى لأن الموقع المختار مهجر كما أنه قريب الى الجزر الاستوائية الفرنسية وهذا ما أكده “جول موك” مندوب فرنسا في الأمم المتحدة سنة 1959 خلال اجتماعها، وعلى هذا الأساس تم اختيار منطقة رقان مسرحا للتجارب النووية، فكانت إرادة فرنسا الاستعمارية من خلال هذه التفجيرات، الالتحاق وبأي ثمن بالنادي النووي العالمي دون الاكتراث بالجانب الإنساني.
والأخطر من ذلك، ادعت فرنسا أن هذه التفجيرات وقعت بمناطق خالية من السكان وصحراوية في حين كانت تأوي هذه المناطق حوالي 30000 نسمة، ولا تزال العواقب الناجمة عن هذه التفجيرات الذرية تلحق أضرارا بصحة سكان هذه المناطق حيث توجد الأشعة في كل شبر منها علما أن النفايات المعدنية عالية النشاط الإشعاعي على غرار البراميل التي تركها المستعمر قد استخدمها السكان سيما البدو مما يشكل خطرا حقيقيا لهؤلاء السكان.
في هذا السياق، أبرز “عمار منصوري” باحث في الهندسة النووية والفيزياء الذرية على أن قوة القصف النووي بلغت آنذاك 30 كيلوطنا، معتبرا أن هذه الجريمة الإنسانية التي اقترفتها فرنسا لن ينساها الزمن لأن المادة المصنوعة بها القنبلة تحتوي على البلوتونيوم وهي مادة سامة جدا من الناحية الكيميائية أما من الناحية الفيزيائية تشكل خطر أكبر، مشيرا إلى أن فرنسا استخدمت آلاف الجزائريين وعناصر من اللفيف الأجنبي كفئران تجارب، إضافة إلى حيوانات وحشرات وطيورا وبذور نباتات مختلفة، وتم ربط الضحايا لساعات مبكرة قبل كل عملية تفجير، وأتت تلك التجارب على الأخضر واليابس، وكانت بذلك أشد وطأة على سكان الجهة الجنوبية مخلفة آلاف الوفيات والإصابات، بينما تعيش آلاف العائلات في مناخ ملوث بالإشعاعات.
وشدد “عمار منصوري” على أن هذا الموضوع يبقى مطروحا حتى يلقى اهتمام فرنسا التي تسببت في هذه الجريمة النووية، من خلال تعويض الضحايا وإعادة تنظيف وتأهيل المواقع الملوثة على مستوى صحراء الجزائر، مضيفا أن الإشعاعات النووية التي تسربت في الجو جراء هذه التجارب تشكل خطرا على الثروتين النباتية والحيوانية، خصوصا مع عدم ردم النفايات النووية الناجمة عن هذه التجارب بطرق تقنية محكمة ودقيقة.
استرجاع أرشيف التفجيرات شرط أساسي لتحديد مواقعها وانعكاساتها…
لم تقتصر الجريمة على الجانب المحلي لكنها تعدته لتنتشر عبر العالم بأكمله وتصبح بذلك حديث العام والخاص، وقد اعتبر باحثون في التاريخ، جزائريون وأجانب أن استرجاع الأرشيف الخاص بهذه التفجيرات النووية الفرنسية بالجزائر هو شرط أساسي لتحديد انعكاسات هذه الجرائم ضد الانسانية على الصعيد الصحي والبيئي، فتطرق تقرير نشرته المؤسسة الألمانية “هاينريش بول” التي تهتم بالجانب البيئي إلى التجارب النووية التي أقدمت عليها فرنسا، حيث أوضح التقرير أن باحثان فرنسيان توصلا الى استمرار وجود نفايات تعرضت للنشاط الاشعاعي تحت الأرض، وهي بالأساس معدات عسكرية شملتها الاختبارات بما يلحق أخطارا جسيمة بالسكان المحليين والبيئة في مناطق حمودية وعين إكرا ورقان زيادة على الخطر المحدق الذي يشكل تطاير معدن البلوتونيوم السام في الجو.
وفيما يتعلق بتدابير حماية الصحة، دعا التقرير السلطات الجزائرية إلى أن تعلم الساكنة حول حظر الوصول إلى هذه المناطق، من خلال تدابير بسيطة كتدعيم الحواجز الفاصلة وتركيب لوحات المعلومات على المواقع باللغتين العربية والفرنسية، وكذلك نشر المعلومات في البلديات والمصالح الصحية في البلدات والقرى بهذه المناطق، مبرزا الى التوصية بإجراء دراسة مستقلة تشمل الأبناء والأحفاد للتأكد ما إذا كانت هناك خطورة انتقلت عبر الأجيال، مع القيام بمسح وكشف المعدات الملوثة قيد الاستخدام ، وتنفيذ التدابير الصحية الموجهة بخصوص المخاطر الإشعاعية.
المواد السامة مازالت تتسلل لأجساد الأبرياء
وفيما يتعلق بتوصيات تأهيل وحماية البيئة، ذكر التقرير بأنه “على الرغم من استحالة العودة إلى الحالة الطبيعية بالكامل، فإنه ينبغي إجراء عملية أولى لتقييم احتمالات إعادة التأهيل البيئي لمواقع الاختبارات النووية، مع ضمان المراقبة المنتظمة للمناطق الملوثة بمشاركة علماء.”
ومن التقنيات الجديدة التي أوصى التقرير باستعمالها، هي الطائرات بدون طيار المجهزة برادار اختراق أرضي وشعاع لاكتشاف النفايات المدفونة، وكذلك استخدام صور الأقمار الصناعية لضمان المراقبة والسماح بمقارنة التغيرات بمناطق التجارب النووية، مع مرور الوقت.
وأكد ذات المصدر أن المناطق الأكثر تلوثا وبشكل رئيسي هي موقع تدفق الحمم، لذلك يجب تنقيته أو على الأقل تغطيته للحد من انسكاب الجسيمات المشعة من الرياح والمطر، مع القيام بمراقبة منتظمة سنوية.
ومن الجانب الصحي فقد أجمع الأطباء على أن التفجيرات النووية خلفت أمراضا مجهولة يمكن ملاحظتها اليوم، في وقت لا تزال فيه المواد السامة تتسلل لأجساد الأبرياء، أي كلما اقتربنا من المنطقة نلاحظ أن عدد الإصابات يزداد بمختلف الأمراض التي تهلك الصحة بداية من سرطان الدم الى مختلف الأعراض التي تصيبه عند تعرضه للإشعاعات النووية بشكل مباشر أو غير مباشر، إضافة الى أن التربة والمياه وكل مقومات الحياة في المنطقة ملوثة بالإشعاعات مما يحول دون التمكن من تحسين الوضع الصحي للساكنة.
على فرنسا أن تمتلك الشجاعة والانسانية للاعتذار وتعويض الضحايا…
رقان اليوم لا زالت تذكر هذه المأساة الانسانية، والحياة متواصلة فيها رغم الآلام، ويبقى مطلب مطلب الجزائر هو الكشف عن الملف السري علنية بغية تطهير المنطقة من انتشار الإشعاعات النووية التي ما تزال تؤثر على صحة سكان المنطقة وبيئتهم، وحسب مختص في ضحايا التفجيرات النووية برقان “الهامل بن عمر” فإن المنطقة كانت آمنة يعيش سكانها من الزراعة والتجارة فيما بينهم وكذا التبادل عن طريق المقايضة مع دول الجوار مالي والنيجر خاصة، والآن لم تعد تنتج ما يكفيها لا من الحبوب ولا من التمر، وكذا تناقص المياه وجفاف منظومة العقاقير التي كان سكان المنطقة يعتمدون عليها في زراعتهم وفي شربهم.
وأضاف ذات المتحدث أن التشوهات الخَلقية تضاعفت وكذلك مختلف امراض السرطان وأمراض العيون بسبب الإشعاع النووي، وحسب الخبراء تتواصل الاشعاعات 24 ألف سنة، مما يجعل المواليد معرضة للخطر، موضحا في ذات السياق أنه لا يمكن إحصاء الضحايا بسبب القائمة المفتوحة.
وأبرز المختص أنه على فرنسا أن تمتلك الشجاعة والإنسانية للاعتذار وتعويض الضحايا وتحمل مسؤولياتها القانونية والجنائية، مشيرا أن الجزائر شكلت مؤخرا لجنة أطباء لجمع ملفات المرضى كما أنها أنشأت مركزا لأمراض السرطان بأدرار وهي الآن تطالب فرنسا بالاعتراف.
وأكد أنه تم إطلاق عدة حملات تحسيسية لمنع المواطنين من الاقتراب من مكان الانفجار بحمودية نحو 60 كلم عن بلدية رقان وعدم جلب أي مادة حديدية أو غيرها التي تكون مشبعة بالأشعة النووية، كما طالب الباحثين والإعلاميين بمواصلة كشف حجم معاناة سكان المنطقة من تلك الآثار التي خلفتها التفجيرات النووية.
وتابع قائلا “لقد استخدمت فرنسا الجزائريين حقلا للتجارب وهي ملزمة بإعادة الأرشيف المتعلق بالتفجيرات النووية بالصحراء قصد السماح بتحديد مواقع ردم النفايات النووية وتحديد المناطق الملوثة تفاديا لتسجيل ضحايا جدد.
النفايات النووية لا تزال تحصد العديد من الأرواح
هذه الجريمة الإنسانية أتاحت اليوم لفرنسا الاحتفال بكل اعتزاز بذكرى انضمامها للنادي النووي، فيما لا يزال سكان جنوب الجزائر يعانون من أثر الإشعاع الذي أكل الأخضر واليابس وأهلك الحرث والنسل، ولا يزال ينخر أكثر فأكثر في أرض صحراوية رمالها محقونة بسم المستعمر الفرنسي، فالمجاهد “محمد عبد الحق بن جبار” الذي كرس حياته لكشف جريمة فرنسا في الصحراء الجزائرية وما خلفته من أضرار لم يسلم من الإشعاعات النووية.
وأكدت “حيزية بن جابر” ابنة المجاهد “محمد الحق بن جبار” ان المرحوم كان من بين المناضلين الكبار الذين حاربو وناضلو من أجل استقلال الجزائر وكشف الجرائم العديدة التي ارتكبتها فرنسا في حق الجزائر، كما قام الراحل هواري بومدين بتسليمه القواعد العسكرية التي أجرى فيها الجيش الفرنسي تجاربه النووية ليكشف أن المساحات الكبيرة في الصحراء الجزائرية امتدت إليها الإشعاعات النووية التي أصابته.
مضيفة أن المجاهد عرض حياته للخطر مع ثلة من رفاقه ليخدم بلده، ويظهر للعالم بأسره أن فرنسا ارتكبت جريمة إنسانية وتعريضها للمواطنين العزل للإصابة بالإشعاعات النووية في رقان وإين إيكرا وغيرها من المناطق الصحراوية التي أقامت فيها تجاربها النووية والكيماوية، وفي الأخير أصيب المرحوم بالإشعاعات النووية خلال عمله في صفوف الجيش الوطني الشعبي أطرحته الفراش، وتوفي عن عمر ناهز 75 سنة، فيما دعت ذات المتحدثة الى ضرورة استرجاع الأرشيف الخاص بكل المأساة النووية والعمل على تحديد مناطق الخطر الاشعاعي، للدفاع عن حقوق ضحايا الكارثة النووية الفرنسية.
إبادة إنسانية بكل المقاييس نفذتها فرنسا في حق الأبرياء ليفتح باب الوباء على مصراعيه في وجه سكان المنطقة الذين انضموا إلى قائمة طويلة لم تستثني أي أحد بأمراض دخيلة منها ما عرف ومنها ما لم يعرف.
باقية وسوف تبقى الاشعاعات النووية كي تنتج المزيد من المآسي الإنسانية والأمراض الوراثية، اكتسبها أبناء جيل بريء ذنبهم الوحيد أن أجدادهم وآبائهم كانوا في يوم من الأيام شهود عيان على الفاجعة.