1908

0

مذكرات شاهد على سنوات الجمر الحلقه 160

بقلم اسماعين تماووست 
مع مرور الأيام، كانت البلاد تغرق أكثر فأكثر في دوامة العنف، وكأن القدر قد كتب عليها أن تظل سجينة دائرة لا تنتهي من الدم والدموع, لم يكن هناك منطق يحكم سلوك أولئك الذين أشعلوا نار الفوضى، ولم يكن هناك أي وازع يردعهم عن ارتكاب أفظع الجرائم بحق الأبرياء. كان المشهد قاتمًا إلى حدٍّ لم يعد فيه التمييز بين الضحية والجلاد أمرًا يسيرًا، حيث أصبح القتل بلا سبب، والتنكيل بلا رحمة، وكأن البلاد تحولت إلى مسرح مفتوح لمأساة تتكرر يوميًا.

وفي خضم هذا الخراب، كان البعض يعتقد أن الحل يكمن في القوة المضادة، بينما كان آخرون يرون أن الحوار هو السبيل الوحيد للخروج من هذه الأزمة المستفحلة. غير أن محاولات التفاوض، إن وُجدت، كانت تصطدم بجدار من التعنت، إذ لم يكن المتحكمون بمسار العنف راغبين في أي تسوية، كانوا يسيرون وفق منطق القوة الغاشمة، معتقدين أن الدم هو السبيل الأوحد لفرض وجودهم وإرهاب خصومهم. في ظل هذه الظروف، لم يكن أمام الوطنيين الحقيقيين سوى التصدي لهذا الإعصار الهمجي، حتى وإن كان الثمن أرواحهم.

لقد أبانت هذه المرحلة الدامية عن معدن الرجال الحقيقيين، أولئك الذين لم يتراجعوا أمام التهديدات ولم يساوموا على مبادئهم، بل وقفوا شامخين في وجه الطغيان، يدافعون عن وطنهم بكل ما أوتوا من عزم وإيمان. كانوا يعرفون أنهم في مواجهة قوى لا ترحم، قوى لا تؤمن سوى بالدمار والدم، ومع ذلك لم يترددوا لحظة في اتخاذ موقف مشرف يليق بمن يحملون همّ الوطن في قلوبهم.

ومن بين هؤلاء، برزت شخصيات كان لها دور حاسم في المواجهة، ليس بالسلاح فقط، بل بالفكر والكلمة أيضًا. لقد أدركوا أن المعركة لم تكن مجرد صراع على الأرض، بل كانت حربًا على العقول، حربًا بين النور والظلام، بين الحقيقة والتضليل. كانوا يؤمنون بأن الكلمة قادرة على إحداث التغيير، وأن الفكر السليم هو السلاح الأهم في مواجهة أيديولوجيا العدم والدمار.

لكن المفارقة المؤلمة كانت أن بعض الأصوات التي كان يُفترض بها أن تكون في صف الوطن، اختارت الصمت أو التهرب، وربما حتى التواطؤ. كان هناك من يتذرع بالخوف، ومن يدّعي الحياد، ومن يرى في الأحداث مجرد صراع بين أطراف متناحرة لا تعنيه. إلا أن الحقيقة كانت واضحة وضوح الشمس: لم يكن هناك مجال للحياد في معركة وجودية، ولم يكن الصمت سوى شكل آخر من أشكال الخيانة.

لقد كان الوطن ينزف، وكانت أقدار أجيال بأكملها تُحدد في هذه اللحظات المصيرية. كان على كل مواطن، كل مسؤول، وكل صاحب كلمة أن يختار موقعه بوضوح: إما أن يكون في صف الوطن، مدافعًا عن حريته وكرامته، أو أن يكون في صف الفوضى، ولو بصمته وتقاعسه. لم يكن هناك طريق وسط، ولم يكن هناك متسع للأعذار.

ومع اشتداد المواجهة، بدأت بشائر النصر تلوح في الأفق، ليس لأن العنف قد خمد تمامًا، ولكن لأن الإرادة الوطنية أثبتت أنها أقوى من أي مخطط تدميري. لقد صمد أولئك الذين حملوا همّ الوطن في قلوبهم، وتمكنوا من كشف حقيقة الأعداء الذين حاولوا إخفاء وجوههم تحت أقنعة زائفة. كان الوطن بحاجة إلى تضحيات جسام، لكنه في النهاية انتصر، بفضل أبنائه الذين لم يخونوا العهد، ولم يساوموا على المبادئ، ولم يتراجعوا أمام العواصف العاتية.

وهكذا، ومع كل دمعة سقطت، ومع كل روح أُزهقت، ومع كل معركة خاضها الشرفاء، كان الوطن يستعيد روحه شيئًا فشيئًا، ليعود إلى مساره الصحيح، وليؤكد أن النور، مهما تأخر، لا بد أن ينتصر على الظلام.

من الجهة الأخرى، كان الموت يتربص بالداخل، حيث استمرت حلقات العنف تتوالى في دوامة لا تهدأ، ترسم لوحةً داميةً من الوحشية واللامبالاة. لم يكن الأمر مجرد صراعٍ عابر، بل كان سقوطاً متسارعاً نحو هاوية الظلام، حيث أطلق أكثر المجرمين قسوةً وعنفاً العنان لأفعالهم الإجرامية دون أدنى وازعٍ من ضمير، هؤلاء الخارجون عن القانون، الذين تجردوا من إنسانيتهم، لم يكتفوا بترويع الأبرياء وسلب أرواحهم، بل تجاوزوا ذلك إلى انتهاك كل القيم التي قامت عليها الإنسانية، ليحكموا على وطنٍ بأكمله أن يعيش في قبضة الرعب والخوف.

كان الوطن ينزف، وكانت الأرض تئن تحت وطأة الجرائم التي لم يعرف لها التاريخ مثيلاً. ففي تلك اللحظات الحالكة، كان كل شيء يتداعى، والقيم التي بناها الأجداد بدمائهم كانت تتهاوى أمام أعين الجميع، بينما يقف البعض متفرجين، يراقبون من بعيد، عاجزين عن الفعل، مترددين بين الصمت والإنكار. أما الذين وجب عليهم حمل السلاح لحماية أرضهم، فقد انقسموا بين من استجاب لنداء الواجب بشجاعة، ومن آثر الفرار والاختباء، متخاذلاً عن دوره، ليترك الساحة مفتوحةً أمام هؤلاء الطغاة الذين لا يعرفون سوى لغة الدماء.

لقد كان التخلي عن المسؤولية في مثل هذه الأوقات بمثابة طعنةٍ في ظهر الوطن، خطأً لا يُغتفر وخيانةً تتنافى تماماً مع قيم الوفاء والتضحية التي حملها الجزائريون والجزائريات جيلاً بعد جيل. فالأوطان لا تُحمى بالتمنيات، ولا تُصان بالوعود الفارغة، بل تحتاج إلى رجال ونساءٍ مستعدين لبذل أرواحهم دفاعاً عن شرفها وكرامتها. أما أولئك الذين خانوا العهد، وتركوا إخوانهم يواجهون مصيرهم وحدهم، فقد سجلوا أسماءهم في صفحات العار، حيث سيبقى التاريخ يذكرهم كرموزٍ للخذلان والجبن.

أما الذين ارتكبوا الجرائم البشعة بحق أبناء وطنهم، فقد صنعوا بأيديهم مأساةً لا تغتفر، وصمة عارٍ ستلاحقهم إلى الأبد. كيف يمكن أن تُمحى مشاهد الدماء التي سالت ظلماً؟ كيف يُمكن أن تُنسى صرخات الأطفال والنساء الذين قُطفت أرواحهم بلا ذنب؟ إن تلك الجرائم لن تُغفر، لا بقوانين الأرض ولا بحكم السماء، ولن يستطيع الزمن أن يطمس وحشية أفعالهم أو يُخفي فظائعهم. إن الأرواح التي أُزهقت ستظل شاهدةً عليهم، صرخاتها تتردد عبر الزمان، تطالب بالعدالة، وتأبى أن تُنسى.

كان المجتمع الجزائري شاهداً حياً على كل ما جرى، ذاكرةً لا تنسى، تحفظ الأدلة والبراهين، وترفض التواطؤ مع القتلة والمجرمين. لقد حمل هذا الشعب في قلبه جراحاً عميقة، لكنه ظل صامداً، رافضاً الاستسلام، متمسكاً بحق أبنائه في القصاص العادل، مؤمناً بأن العدالة قد تتأخر لكنها لن تُمحى. فالشهادة ليست فقط كلمات تُقال، بل هي دماءٌ سالت من أجل أن يحيا الوطن، وهي أرواحٌ لن تنعم بالسكينة حتى يُقتص لها.

لن ننسى، ولن نغفر، ولن نسمح للتاريخ أن يُكتب بيد غير العدل. فكما أن هناك من تواطأ مع الجريمة، هناك من وقف في وجهها، وهناك من حمل الراية ليواصل المسير. ولهؤلاء نقول: أنتم الأمل، أنتم الامتداد الحقيقي لوطنٍ قاوم الاحتلال، وصمد في وجه الإرهاب، ولن يركع يوماً أمام الظلم.

أنا المفتش إسماعيل تاماوست، رجلٌ قضى حياته بين ظلال الحقيقة وأشباح الخداع، بين أروقة القانون ومتاهات الجريمة. لم أكن مجرد مراقب، بل كنت جزءاً من المعركة، شاهداً على الألم، وصوتاً للضحايا الذين ابتلعهم الصمت. لم أبحث عن البطولة، لكنها وجدتني في دربٍ لم أختره، بل فرضته عليّ واجبات الشرف والمبدأ.

تعلمت أن العدالة ليست شعاراً يُرفع، بل سيفٌ لا يُشهر إلا بيد من آمنوا بأن الحق لا يموت. رأيت الخوف في عيون الأبرياء، ورأيت الجبن في وجوه المجرمين، لكنني أدركت أن الخوف لحظة، بينما الحقيقة خالدة. لم أنحنِ للتهديد، ولم أساوم على الحقيقة، لأنني كنت وما زلت مؤمناً بأن النور مهما تأخر، سيبدد الظلام في النهاية.

هذا قدري، وهذا خياري. أن أكون الصوت الذي لا يخفت، والظل الذي يطارد الجلادين، والحارس الذي لا ينام حتى تنام أرواح الضحايا بسلام.

يتبع

 

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services