17

0

أمريكا تقترح… والجزائر تقرّر: لحظة تحوّل تاريخية في صناعة القرار الأممي

بقلم الحاج بن معمر

 

 

لم تكن اللحظة الدبلوماسية التي عاشها العالم خلال الأسابيع الماضية مجرّد حدث عابر في سجل الأمم المتحدة، ولا كانت مجرّد مناورة سياسية كالتي إعتاد المراقبون رؤيتها في دهاليز العلاقات الدولية، بل كانت –بكل المعاني– منعطفًا تاريخيًا كشف حجم التحوّل الذي تشهده موازين القوى في النظام الدولي، وبيّن بوضوح أنّ الجزائر لم تعد طرفًا مكمّلًا، ولا دولة تكتفي بالتصويت أو التعليق، بل صارت رقماً صعبًا في كل تفاوض، وكل مبادرة، وكل صيغة يبحث أصحاب النفوذ عن تمريرها.

 ما حدث لم يكن مجرّد تبنٍّ لإقتراح، بل إعادة رسم لدور، وتثبيت لثقل، وترسيخ لحقيقة أن الجزائر قادرة على أن تقرّر. لقد بدا واضحًا من خلال كواليس المفاوضات، ومن خلال تفاعلات الدول المؤثرة، أنّ واشنطن –بكل ثقلها السياسي– لم تجد حرجًا في الإعتراف بدور الجزائر ولا في التقدّم باقتراح تصفه بأنه "قابل للحياة" شرط أن تتبنّاه الجزائر وتعيد صياغته ضمن مقاربة أممية متوازنة. كان ذلك الإعتراف وحده شهادة غير مباشرة بأن الجزائر باتت تمسك بخيوط تأثير لا يمكن تجاوزها. وقد نقل دبلوماسيون حضروا المشاورات المغلقة أنّ المندوبة الأمريكية إستخدمت لأول مرة منذ سنوات صياغات غير معهودة، مثل قولها في إحدى الجلسات: "نحن منفتحون على أي إطار تراه الجزائر مناسبًا"، وهي جملة لم تمرّ مرور الكرام، بل سجّلها طاقم البعثات الأخرى باعتبارها مؤشرًا على أن أمريكا جاءت تبحث عن مخرج، لا عن فرض أمر واقع. هذا التحوّل في اللغة لم يكن معزولًا عن التحوّل في المواقف، فقد حاولت واشنطن –في البداية– إيجاد صيغة إسمية تبقى فيها صاحبة المبادرة، لكن الجزائر كانت واضحة: لا يمكن تبنّي مقترح لا ينسجم مع مبادئ القانون الدولي، ولا يعيد الإعتبار لحقوق الشعوب، ولا يضع حدًا للإنحيازات التقليدية التي شوّهت مصداقية المنظمة الدولية. ومع مرور الساعات، بدا أن الجميع ينتظر الموقف الجزائري، حتى المندوبة الفرنسية –التي كانت من أكبر المدافعين عن الصيغ التقليدية– إضطرت إلى التصريح بأن "الجزائر تملك قدرة فريدة على الجمع بين المواقف المتباعدة، وننتظر منها صياغة مقترح متوازن". لقد كان ذلك اعترافًا آخر بأن زمام المبادرة إنتقل، ولو مؤقتًا، إلى الضفة الجزائرية. وحين خرجت الجزائر بصيغتها النهائية، لم تكن مجرد تعديل لغوي أو إعادة ترتيب للبنود، بل كانت هندسة كاملة لمفهوم القرار نفسه، حيث أعادت صياغة الفكرة من أساسها، وحوّلتها من مقترح أمريكي إلى مبادرة أممية ذات روح جزائرية واضحة، قائمة على مبادئ إحترام السيادة، حماية المدنيين، وتفعيل المسار السياسي بعيدًا عن منطق الإملاءات. المفارقة أن واشنطن –التي إعتادت أن تدفع الآخرين نحو التسليم– إضطرت هذه المرة إلى دعم المبادرة الجزائرية، بل وإقناع بعض الحلفاء بقبولها، وهو ما أظهر في نظر مراقبين صعودًا لثقافة جديدة في مجلس الأمن عنوانها: "من يقترح ليس بالضرورة من يقرر". 

في الشارع العربي، كانت ردود الفعل أكثر وضوحًا، فقد إنتشرت مقاطع وتحليلات تصف الجزائر بأنها "صوت الشعوب داخل مجلس الأمن"، وأنها أعادت للمنظمة الأممية جزءًا من هيبتها المفقودة. وفي مواقع التواصل، تفاعل آلاف المستخدمين مع خطابات الدبلوماسي الجزائري، معتبرين أن لهجة الوضوح والصراحة التي إستخدمها تعكس موقف دولة لا تبحث عن المجاملة، بل عن العدالة. أما في الداخل الجزائري، فقد شكّل هذا التطور حالة من الإجماع الوطني، إذ رأى الكثيرون أن الأمر تجاوز حدود العمل الدبلوماسي الروتيني، ليدخل في إطار تعزيز الدور الإقليمي والدولي للدولة الجزائرية، وتثبيت حضورها في ملفات يعرف الجميع أنها كانت حكرًا على القوى الكبرى. حتى بعض الأصوات التي كانت تنتقد إضطرت للإعتراف بأن الجزائر "فرضت نفسها لاعبًا رئيسا" وأنّ الدبلوماسية الجزائرية أثبتت أنها مدرسة قائمة بذاتها في إدارة الملفات الشائكة. لكن الأهم هو الرسالة التي تلقّتها الشعوب: أن العالم لم يعد يُحكم من طرف واحد، وأن الدول التي تملك إرادة القرار تستطيع أن تغيّر المعادلة مهما كانت موازين القوى غير متكافئة. لقد أظهرت الجزائر أن الشرعية هي أكبر من النفوذ، وأن الموقف المبدئي –إذا صيغ بذكاء وبدعم دبلوماسي محكم– قادر على أن يُعيد حتى القوى الأعظم إلى منطق التوازن. وفي الأروقة الداخلية للأمم المتحدة، تحدّث موظفون عن "دهشة إيجابية" لدى العديد من البعثات الآسيوية والإفريقية التي اعتادت أن تتبع الموقف الأمريكي أو الأوروبي، وقال أحدهم –وفق شهادات متطابقة– إن "الجزائر أعادت تعريف معنى القيادة داخل المجلس". كما تداول دبلوماسيون أن إحدى الدول الأوروبية حاولت في اللحظات الأخيرة إدخال تعديلات تُضعف المسار المقترح، لكن الجزائر رفضت ذلك بصرامة، مؤكدة أن "أي تعديل يفرّغ المبادرة من محتواها سيفتح الباب لعودة منطق الأمر الواقع". هذه الصرامة هي التي جعلت المبادرة الجزائرية تحظى بقبول واسع، حتى من أطراف لم تكن تتوقع أن تجد نفسها في صف الجزائر.

 أما على مستوى مراكز الدراسات الدولية، فقد صدرت عدة تحليلات إعتبرت أن ما حدث هو ضربة لمفهوم "القوة المانحة للشرعية"، وأن الجزائر أخذت مكانًا بات شاغرًا منذ سنوات بسبب انكفاء بعض الدول وصعود فوضى القرارات المنحازة. وقد كتب أحد الأكاديميين الأوروبيين أنّ "الجزائر أثبتت أن الدول المتوسطة الحجم يمكنها أن تقود التوافقات إذا امتلكت رؤية ومبادئ واضحة"، معتبرًا أن هذا النموذج قد يدفع دولًا أخرى إلى انتهاج سياسة أكثر إستقلالية داخل المحافل الدولية. وفي المقابل، أبدت بعض اللوبيات الإعلامية امتعاضها من الدور الجزائري، وبدأت –كعادتها– في ترويج إشاعات حول "صفقات غير معلنة" أو "تنازلات سرية"، لكن الردود جاءت هذه المرة من داخل الأمم المتحدة نفسها، إذ أكدت مصادر ديبلوماسية أنّ ما حدث كان نتاج توازنات فرضتها المواقف وليس المصالح. وقد نقل أحد الحاضرين أن ممثلة دولة آسيوية كبرى صرحت بعد اعتماد المبادرة بأن الجزائر "انتزعت الاعتراف بدورها انتزاعًا، لا صدفة ولا مجاملة". وبغض النظر عن خلفيات المشككين، فقد بدت الصورة أكثر من واضحة: الجزائر لم تقبل أن تكون شاهدًا على هندسة قرار دولي، بل أن تكون طرفا في هندسته، وهي خطوة تحمل دلالات سياسية واستراتيجية لا يمكن تجاهلها، أهمها أن زمن القرارات التي تُطبخ في الغرف المغلقة دون مشاركة الدول المستقلة قد ولّى. لقد دخل العالم مرحلة جديدة عنوانها أن الشرعية الأخلاقية والسياسية صارت عاملًا مؤثرًا بقدر تأثير القوة الصلبة. كل هذه التطورات تفتح الباب على أسئلة كبرى عن مستقبل العلاقات الدولية. فهل سيكون لهذا التحوّل أثر على ملفات أخرى تنتظر منذ سنوات؟ وهل ستستمر الولايات المتحدة في التعامل مع الجزائر باعتبارها شريكًا صاعدًا لا يمكن تجاوزه؟ وهل ستشجّع هذه السابقة دولًا أخرى على الخروج من دائرة التردّد إلى دائرة الفعل؟ في النهاية، ما يمكن قوله بثقة هو أن اللحظة كانت لحظة جزائرية بامتياز، لحظةٌ أعادت للديبلوماسية معناها، وللمبادئ قيمتها، وللحديث عن السيادة وزنه الحقيقي. لقد رسّخت الجزائر قناعة عالمية مفادها أنّ الكلمة لا يملكها الأقوى، بل الأصدق. وهكذا، بقيت الولايات المتحدة تقترح… لكن الجزائر هي التي قرّرت.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services