104473

0

مذكرات شاهد على سنوات الجمر الحلقه 159

بقلم اسماعين تماووست 

في تلك الفترة الحرجة،  كانت السرعة القصوى في بناء دفاع قوي أولوية مطلقة، بل ضرورة لا يمكن التهاون بشأنها. لم يكن ذلك مجرد خيار استراتيجي أو قرار تكتيكي عابر، بل كان السبيل الوحيد لفرض ضغط دائم يردع الآثار المدمرة لما يسمى بالتمرد، ذلك التمرد الذي لم يكن سوى ستار يخفي خلفه موجةً من العنف الأعمى والفوضى المنظمة.

كان لزامًا علينا أن نُظهر قوة لا يستهان بها، أن نجعلهم يدركون أن كل عناصر الأجهزة الأمنية كانت حاضرة في كل زاوية، متأهبة لكل طارئ، مستعدة لتقديم أرواحها فداءً للوطن، ذلك الوطن الذي لم يكن يومًا مجرد بقعة جغرافية، بل كان هويةً، تاريخًا، ومستقبلًا لا يمكن أن يُترك فريسةً للأيادي الآثمة.

لكن لضمان فعالية أكبر، ولتحقيق الغاية الأسمى المتمثلة في حماية الدولة والمجتمع، لم يكن كافيًا أن تعتمد الأجهزة الأمنية على قوتها وحدها. كان لا بد أن يكون للشعب صوت مسموع، ذلك الصوت الذي يحمل في نبراته صدى الوطنية والكرامة.

كان واجبًا على المواطنين أن يكونوا هم الدرع الأول، أن يدركوا أنهم في قلب المعركة، وأن يقفوا صفًا واحدًا ضد هذا العدو الخفي، ذلك السرطان الذي تسلل بين الأزقة، مستغلًا نقاط الضعف، متغذيًا على الخوف والجهل، وحده الشعب، حين يعلو صوته بالرفض القاطع، قادر على تجريد الإرهاب من أي غطاء، من أي شرعية زائفة يحاول أن يتستر بها.

لا يمكن إنكار أن الإرهاب، بصورته الوحشية، كان العدو الأكبر، ذاك الوحش الكامن في الظل، الذي لا يعترف بقوانين الحرب ولا بقواعد الإنسانية. لم يكن مجرد جماعات متطرفة تحمل السلاح، بل كان فكرًا مشوَّهًا، عقيدةً تحاول أن تفرض نفسها بالعنف والترهيب. لم يكن هناك أي مجال لمهادنته، ولا أي فرصة للتسامح معه. كان من الضروري أن يُحاصر، أن يُقطع عنه كل سبيل للنمو أو التوسع، لأن كل لحظة تهاون كانت تمنحه وقتًا إضافيًا للانتشار، تمامًا كما يفعل الوباء حين يُترك دون علاج.

ما من شعب في هذا العالم يمكن أن يقبل بوجود هذا الخطر في أوساطه. أي مجتمع، مهما كانت ثقافته أو معتقداته، لا يمكنه أن يتسامح مع من يزرعون الرعب، من يختطفون الأرواح دون تمييز، من لا يراعون كبيرًا أو صغيرًا، رجلًا أو امرأة، بريئًا أو حتى ممن ظنوا أنهم على حق.

مهما كانت الذرائع التي يتسترون خلفها، مهما كانت المبررات التي يسوقونها، فإنها لا يمكن أن تجد لها موطئ قدم في ضمير أي إنسان شريف. الوطنية ليست مجرد شعارات، بل التزام أخلاقي يفرض على كل فرد أن يدافع عن أرضه، عن استقراره، عن حياته وحياة الآخرين.

كضابط شرطة، لم يكن دوري يقتصر على تنفيذ الأوامر أو متابعة التقارير الأمنية، بل كنت شاهدًا على تلك المرحلة القاتمة، أعيش تفاصيلها يومًا بعد يوم، وأدرك تمامًا أن المواجهة لم تكن مجرد معركة ضد عصابات مسلحة، بل كانت حربًا ضد فكرٍ منحرف يسعى إلى اختراق المجتمع وتقويض أركانه.

كانت مسؤوليتنا جسيمة، لم يكن مسموحًا لنا بالتردد أو الخطأ،  كل دقيقة تمر دون تحرك كانت تعني سقوط ضحايا جدد، وكانت تعني أن الشر يكسب مساحةً إضافية. كنا نحارب في الظل، نترصد تحركاتهم، نلاحق آثارهم، نعمل على تفكيك شبكاتهم قبل أن تبسط سيطرتها على أحياء آمنة لم تعرف العنف من قبل.

ورغم ذلك، لم يكن الأمر سهلًا. فالعدو كان ماكرًا، متلونًا، يغيّر أساليبه باستمرار، يستخدم كل الوسائل القذرة لنشر الفوضى والرعب. كان يتخفى بين الناس، يستغل براءتهم، ويجند ضعاف النفوس لتنفيذ مخططاته، لكنه لم يكن يدرك أن إرادتنا كانت أقوى، أن عزيمتنا كانت أشد صلابة. كنا نعلم أن الخوف هو سلاحهم الأول، ولذلك كنا نتصدى له بالإصرار والعزيمة، نزرع الثقة بدلًا من الذعر، ونؤكد للناس أن الدولة لن تتخلى عنهم مهما كان الثمن.

في النهاية، لم تكن هذه الحرب مجرد صراع بين رجال الأمن والجماعات الإرهابية، بل كانت معركة من أجل البقاء، من أجل الحفاظ على هوية وطن مزّقته الفتن وحاولت قوى الظلام طمسه في ليلٍ طويل. لكننا كنا هناك، نقف في الخطوط الأمامية، نحمل قلوبًا لا تعرف الخوف، ونقاتل ليس فقط بالسلاح، بل بالإيمان بأن العدالة ستنتصر، وأن الجزائر لن تركع للإرهاب أبدًا..

كان الإرهابيون، ولا سيما قادتهم، قد انسلخوا عن كل وازع ديني أو أخلاقي، متجاوزين جميع القوانين، سواء السماوية أو الوضعية،  لم يكن لهم من مبدأ سوى العصيان، ولم يكن لهم من غاية سوى فرض سطوتهم المطلقة، كانت أفعالهم مثل وباء خبيث ينهش المجتمع، ينشر الفوضى والخراب بلا وازع أو ضمير. وما كان أشد خطورة هو إدراكهم التام بأنهم يسيرون في طريق الشر، طريق لا يقود إلا إلى التوحش، حيث باتوا مسخًا لا يمتّ للإنسانية بصلة، لم يكونوا سوى أدوات تسيرها قوى الظلام، بعد أن جردهم عدو الله، الشيطان نفسه، من فطرتهم السوية، فاستدرجهم إلى درك الطغيان والكفر، حتى غدوا بلا قلب، بلا رحمة، غارقين في المحرمات، غافلين عن عاقبة ما يقترفون.

كانوا يمارسون العنف الأعمى دون سبب واضح، يرتكبون الفظائع وكأنهم فقدوا القدرة على التفكير، مجرد آلات تقتل بلا تمييز،  يريقون الدماء لا لشيء إلا لإشباع تعطشهم للدم، وكان بطشهم لا يعرف حدودًا،  لقد تعدّت جرائمهم القتل، فتفننوا في التنكيل بضحاياهم وكأنهم وجدوا ليكونوا أدوات للعذاب. لم يكن هناك ذنب يبرر وحشيتهم، لم تكن هناك قضية حقيقية يدافعون عنها، بل كانت أيديولوجيا العدم، حيث استباحوا كل شيء تحت راية سوداء لا تحمل سوى الخراب.

ومن المفارقات القاتلة أن هؤلاء الذين زعموا الجهاد، كانوا أشد فتكًا وقسوة من المستعمر نفسه. ففي حين ارتكب الاستعمار الفرنسي خلال حرب الاستقلال جرائم لا تحصى، لم يكن في سجله ما يضاهي همجية هؤلاء. كانوا أكثر غدرًا، أكثر وحشية، وأكثر تعطشًا للإبادة، وكأنهم لم يأتوا سوى للانتقام من وطنهم وأهله.

كانت تلك الأيام من أحلك الفترات، حيث وجد الأبرياء أنفسهم بين أنياب وحوش بشرية لا تعرف معنى الرحمة. لم يكن هناك منطق يحكم سلوك الإرهابيين، لم يكن هناك معيار للعدل أو القانون، كانوا يصدرون الأحكام وفق أهوائهم، يقررون من يعيش ومن يموت، وكأنهم آلهة على الأرض. كان الناس يساقون إلى الموت دون محاكمة، تُنفذ بحقهم إعدامات فورية بلا ذنب أو جريرة. كانوا يُقتلون بوحشية لم تشهدها حتى أحلك العصور، وكأنهم مجرد أرقام تُمحى بلا اكتراث، تُنفذ فيهم الأحكام بدم بارد، دون أن يدركوا حتى سبب استهدافهم.

في لحظات خاطفة، كان الأبرياء يجدون أنفسهم في مواجهة قدر محتوم، يُذبحون كالبهائم، يُقطعون بلا رحمة، تُحصد أرواحهم وسط صمت رهيب، بينما يتفرج العالم بلا مبالاة. كانت أرض الوطن تمتص دماءهم، شاهدة على فظائع ستظل محفورة في ذاكرة الأجيال. لقد حاول البعض أن يجد تفسيرًا لهذه الجرائم، أن يبحث عن منطق خلف هذا الجنون، لكن لم يكن هناك تفسير سوى أن الوحشية بلغت ذروتها، وأن هؤلاء القتلة لم يعودوا بشرًا، بل صاروا كائنات متعطشة للدم، تستمتع بإزهاق الأرواح كأنها هواية شيطانية.
يتبع...

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services