471
0
«أم الكماكم»... حين دوى زئير النمامشة في وجه المستعمر
«يا شهلة يا بنتي»… صوت من قلب الجبل يهتف بالحياة في وجه الموت
.jpg)
في صباحٍ قائظ من صيف 22 جويلية 1955المتزامن مع عيد الأضحى المبارك، سجلت في جبال النمامشة ببئر العاتر ( في ولاية تبسة حالياً) واحدة من أكثر المعارك دلالة وقوة في بدايات الثورة التحريرية الجزائرية ،معركة «أم الكماكم» لم تكن مجرد صدام مسلح بين مجاهدين وجيش احتلال بل كانت تجسيدًا لصمود جبلي عنيد وامتحانًا أوليًا للقيادة العليا للثورة بعد انتقالها من الأوراس إلى النمامشة.
ريبورتاج:ضياء الدين سعداوي
بعد سبعين سنة على هذه الملحمة لا يزال صدى الرصاص والبطولات يشهد عليه صخر الجبال و تحكيه الذاكرة الشعبية
انتقال القيادة واستراتيجية التوسع
في ربيع 1955 وبعد أشهر من اندلاع الثورة، قررت قيادة الولاية الأولى للثورة التحريرية بقيادة شيحاني بشير (الذي ناب عن القائد مصطفى بن بولعيد بعد اسره من طرف العدو) توسيع نطاق العمل المسلح خارج معقل الأوراس ، فأختارت جبال النمامشة لعدة اعتبارات أهمها موقعها الإستراتيجي القريب من الحدود والطبيعة الجبلية التي تساعد على حرب العصابات ناهيك عن البنية الإجتماعية للمنطقة التي اشتهرت تاريخيًا بالشراسة في القتال والتمرد على الغزات.
كان هذا الإنتقال بمثابة إختبار لمدى قابلية إنتشار الثورة وتعميم العمل المسلح ، ولم تكن البداية سهلة إذ سرعان ما واجهت القيادة تحديًا حقيقيًا تمثل في تحركات لتنشيط المنطقة على اوسع نطاق شنتها قوات الجيش الفرنسي في نواحي تبسة مستهدفًا القضاء على خلايا الثورة في مهدها.
إنزال عسكري فرنسي بحجم ملحمة
صبيحة يوم 22 جويلية تحركت وحدات فرنسية بأعداد ضخمة نحو مرتفعات أم الكماكم قادمة من تبسة، شريعة، بئر العاتر، الماء الأبيض، ثليجان، مرسط، العوينات وحلوفة، الهدف كان واضحًا و هو محاصرة ما كان يعتقد أنها مجموعة صغيرة من المجاهدين والقبض عليهم أو القضاء عليهم جميعاً.
لكن ما لم يكن في حسبانهم أن الموقع كان يتحصن فيه ما يزيد عن 300 مجاهد من بينهم قيادات بارزة أمثال شيحاني،
سيدي حني، ساعي فرحي (بابانا)، حمة بن عثمان، شامي محمد، الوردي قتال، الطاهر بن عثمان، محمد بن عجرود، الجيلاني بن عمر السوفي، عبد الحي، حمة لخضر، الشايب علي، سي العيد سالمي، محمد لصنام، وغيرهم ممن سيخلد اسمهم على جنبات التاريخ من رموز الثورة في النمامشة.
من قلب المغارة.. صراع القيادة والتضحية
قُبيل انطلاق المعركة أصر القائد شيحاني البشير على المشاركة الميدانية إلا أن رفاقه منعوه من ذلك وفرضوا عليه البقاء في مغارة محصنة حفاظًا على سلامته بإعتباره العقل المدبر للمعركة ، المجاهد عثمان سعدي المكلف بحمايته في مشهد إنساني مؤثر خلال شهادته حول المعركة يحكي عن شيحاني قائلاً: "كان سي مسعود (شيحاني بشير) يحاول الخروج ليقاتل بنفسه ولكنني منعته حتى وصل بي الأمر أن سددت المغارة بصخرة ضخمة كي لا يخرج رغم صياحه وغضبه".
كان شيحاني من داخل المغارة يدير المعركة يصدر الأوامر و يستلم تقارير من مرسلين كانوا يتنقلون بين مواقع القتال والمغارة في غياب تام لأي وسائل اتصال لاسلكية.
طائرات ،قصف وتراجع تكتيكي
مع منتصف النهار، اشتد القصف الجوي الفرنسي، أربع طائرات ألقت حممها على مواقع المجاهدين ترافقها "الطيارة الصفرا" – طائرة استطلاع كانت ترشد الجنود إلى مواقع الإختباء رغم الغارات الكثيفة صمد المجاهدون وواصلوا القتال رغم قلة الذخيرة وحرارة الشمس وصعوبة التضاريس.
ولما بدأت القوات الفرنسية بالتقدم نحو المحور الذي كانت فيه مغارة شيحاني تقرر إخراجه منها فأنتقل إلى موقع أعلى على ذروة الجبل وهناك واصل إصدار الأوامر بتنظيم الإنسحاب التدريجي مع ضرورة الصمود حتى حلول الليل.
"يا شهلة يا بنتي!"... صوت بابانا الذي هز الجبل
في ذروة المعركة ومع احتدام الإشتباك كان صوت بابانا ساعي يسمع من بعيد: "يا شهلة يا بنتي" ينادي اسم ابنته الوحيدة كأنما يحملها وصية الفداء ، كان ذلك الصوت رمزًا للصمود وصرخة في وجه الغزاة بأن المجاهدين يقاتلون من أجل أبنائهم ومستقبل الجزائر.
وفي موقف آخر حاصر العدو الجبل، فأحتار بعض المجاهدين الشبان وهم يشتكون إلى لزهر شريط قائلين بلسان شاوي " أعمي لزهر أذرار يضور سي لشارث ، مانك أنرڨ سياي" "اعمي لزهر، كيف نخرج من هنا والدبابات تحاصرنا؟"، فأجابهم بصوته الجهوري لسان شاوي" أترڨم سربي ، كنوي ليشار ذرڨاز و نتش وليش ذرڨاز" أي "ستخرجون بإذن الله، الدبابة ليست أكثر رجولة مني ، أي ليست اشجع مني".
الإنسحاب المباغت
حين أرخى الليل سداله، كان التعب قد نال من الجميع لكن الإنضباط ظل حاضرًا، تلقى المجاهدون الأمر بالإنسحاب نحو وادي هلال ، انسحبوا في صمت تام دون ضجيج تاركين خلفهم بعض المؤن في المغارات، وفي صباح اليوم الموالي، اقتحمت القوات الفرنسية الموقع لتجده خاليًا، فكانت صدمتها كبيرة، كل ما جنوه تمثل في بعض المؤن والخيبة.
حصيلة المعركة.. الدم مقابل المجد
دامت المعركة ثلاث عشرة ساعة وأسفرت عن سقوط طائرتين عموديتين ومقتل 152 جنديًا فرنسيًا حسب شهادات المجاهدين، أما من جهة الثورة فقد استشهد 25 مجاهدًا كان من بينهم: إبراهيم فارس، غلاب بشير، ممو مزيان، أيمن السبتي، جداي محمود بن فرحات، المقدادي فرحي (أخو بابانا ساعي) وغيرهم من الشهداء الأبرار، كما أصيب آخرون أبرزهم لزهر دعاس الذي وثق شعراء الثورة إصابته بشعر شعبي صار يتغنى به الأهالي و سكان المنطقة في كل مناسبة:
*"لزهر لقمش... لبياسة بالحب يرش*
*ضربوه دهش... على ذراعو مقسوم اشطار*
*الله ينصر حزب الثوار."*
ما بعد أم الكماكم... بداية التمدد الثوري
كان لهذا النصر أثر نفسي ومعنوي عظيم ليس فقط في صفوف المجاهدين بل لدى الأهالي الذين لمسوا قدرة الثورة على الصمود والإنتصار رغم فارق العدة والعتاد ، بدأت القيادة تفكر جدياً في توسيع رقعة العمليات نحو نواحي أخرى من تبسة وخارجها مع تزايد قناعة الجميع بأن الثورة ليست فقط شعلة مشتعلة في الأوراس بل نار تنتشر وتوقد جذوتها في كل ربوع الوطن.
كما برزت مواهب قيادية أثارت الإنتباه على رأسها البشير شيحاني الذي أثبت في أم الكماكم قدرته على قيادة معارك مركبة والتعامل مع ضغط المعركة بحكمة رغم قسوة الظروف.
إرث حي في ذاكرة الناس
ما زال أبناء المنطقة حتى بعد مرور سبعة عقود يروون تفاصيل المعركة وكأنها وقعت بالأمس ، يحفظون أسماء الشهداء وأصوات من صرخوا من أعلى الجبل والقصائد التي أنشدها الثوار كتلك التي كان يرددها نوار عروفة من دوار المحمل– أحد الوطنيين الشرفاء الذين كانوا يتابعون في كل مرة بتهمة "مساعدة الثورة"، فكان يتظاهر بالجنون مرددًا:
*"في أم الكماكم... كي جانا اليوطنا والحاكم*
*قالوا اليوم اهلكناكم... جبنالكم واحد قواد*(عميل)
*أم الكماكم شايدة مشهورة... نظن مسكن الثوار ثم*
*كل خمس أيام فيها خصومة... وسواقي تجري بالدم."*
من الجبل إلى المجد
ليست أم الكماكم مجرد ذكرى سنوية تحييها الجمعيات والمؤرخون بل هي محطة مضيئة في تاريخ الثورة الجزائرية تلخص معنى الصمود ودهاء القيادة وعمق إيمان النمامشة بعدالة القضية.
في الذكرى السبعين وأمام ما تبقى من آثار المعركة يقف الزائر متأملاً في صمت الجبل... ذلك الصمت الذي يخفي خلفه زئير أبطال رفضوا الخنوع وفضلوا الشهادة على الإستسلام وكتبوا بدمائهم سطورًا لا تمحى من سجل المجد.
رحم الله الشهداء وخلد الله ذكراهم ، المجد والخلود لشهداء أم الكماكم.